بعد فاجعة الحوز قرب جبل «تيزي نتيشكا» شهر شتنبر 2012، كثر الحديث حول «طريق الموت» التي توجد على ارتفاع 2260 متر، وتهاطلت الأسئلة على مرتادي هذه الطريق، خاصة من ساكنة ورزازات وزاكورة وما سَفُلَها، حول طبيعة هذه الطريق ووعورة منعرجاتها ومخاطرها، وأيضا عن نفق تيشكا وكلفته وسبب تعطيله.. وهي خطورة أصبحت معتادة عند من نجا من الموت عشرات المرات ذهابا وإيابا عبر هذه الطريق، التي كانت عبارة عن ممر للدواب حولها الاستعمار الفرنسي إلى طريق صالحة لمرور السيارات بعد 14 سنة من الأشتغال التي انطلقت سنة 1925. إنها قصة طريق شيدها الاستعمار في جهة صنفها ضمن مناطق المغرب غير النافع، ومنذ 60 سنة على الاستقلال أصبحت هذه الطريق وطنية، وتحمل رقم 9 وأُزهق على متنها حتى اليوم العشرات من المواطنين المغاربة !! الداخل مفقود والخارج مولود من سوء حظ سكان ورزازات وزاكورة أن الممر الوحيد الذي يربطهم بمدينة مراكش هو الطريق الوطنية رقم 9، التي تمر عبر جبل تيزي نتيشكا. مما يفرض عليهم حتمية المرور من هذه الطريق؛ كلما أرادوا زيارة ذويهم خاصة أن أغلبهم يتمركزون في مدن مراكشأكاديروالدارالبيضاء . كلما اقتربت إحدى المناسبات؛ خصوصا عيد الأضحى، إلا واكتظت هذه الطريق بالحافلات والسيارات، لكن ما يميز هذا الخط الطرقي على غيره من الخطوط هو كون التنقل فيه قبيل المناسبات، في اتجاه واحد، أي من الدارالبيضاءومراكش إلى ورزازات وزاكورة، ليتحول بعد هذه المناسبات في الاتجاه الآخر، حيث إن جل أبناء الجنوب الشرقي يشتغلون في مدن الوسط والغرب. وعلى غرار الحالة السيئة لهذه الطريق نجد الحافلات، ف «الحاجة اللي ما تشبهش لمولاها حرام» كما يقول المثل. وأمام رداءة الطرقات ورداءة الحالة الميكانيكية للحافلات، وانعدام شروط الراحة تزداد معاناة مستعملي هذه الطريق. هكذا يكون كل من دخل هذه الطريق مفقودا وكل من اجتازها مولودا. غالبا ما يفضل مستعملو هذه الطريق من المسافرين السفر ليلا كي لا يروا منعرجاتها المفزعة، على جبل تيشكا الشامخ، الذي لا ينقص سقوط الضحايا تحت قدميه من شموخه شيئا. كل العائلات المعنية بهذه الطريق لا يهنأ لها بال ولا تكتمل فرحتها قبيل عيد الأضحى ولا تقر لها عين؛ إلا بعد وصول أبنائها ممن يجتازون ممر تيشكا. هكذا ترسخت عادة عند سكان منطقة زاكورة، تتمثل في تبادل التهاني بين العائلات قبيل عيد الأضحى. والأمر في هذا الهنا، لا يتعلق بتهاني العيد، بل بسبب وصول أحد أفراد العائلة «بخير وعلى خير». حيث كلما وصل أحدهم إلا وذهبت النساء إلى عائلته لتهنئتها بعبارة أصبحت مسكوكة «الحمد لله على سلامة فلان» ويرد المعنيين «الله يجيب الباقي على خير» أو «ما تسمعي باس أودي أفلانة». تسعون منعرجا الرحلة من مراكش إلى ورزازات تحتم على صاحبها المرور عبر ممر تيشكا لأنه، المسلك الوحيد الذي يربط بين هاتين المدينتين. مستعملو هذه الطريق يعرفون منعرجاتها وتفاصيلها، بل ويحصون صخورها المطلة على الطرقات والتي يمكن أن تباغت المارين في أي وقت ودون سابق إنذار. بمجرد أن تدخل الحافلة في منعرجات تيشكا لا بد وأن يخفض سائقها من السرعة، حيث لا تتجاوز الأربعين كيلو مترا في الساعة وأقل من ذلك في المنعرجات التي تتجاوز التسعين منعرجا، تصل زاوية معظمها إلى 180 درجة. اجتياز هذه المنعرجات يكون خطيرا خصوصا على الحافلات والشاحنات الكبيرة. هكذا إذا حدث والتقت حافلتان قادمتان من اتجاهين مختلفين في أحد المنعرجات فلا بد وأن تتراجع إحداهما إلى الخلف، حيث لا يمكن أن يحدث التجاوز في المنعرج أو قربه أو بعده بمسافة تفوق تلك المحددة في القانون. وما يزيد من خطورة هذه الطريق هو كون العديد من المنعرجات تحجب فيها الرؤية تماما، مما يحتم على السائق استعمال الضوء ليلا ودق جرس العربة نهارا. كما أن من خصوصيات هذه الطرق -التي يعد وصف «وعرة» في حقها خفيفا- أنها تدور حول الجبل من الأسفل إلى الأعلى أو العكس، بحيث يجرب المارة فيها مستويات مختلفة حيث تكون الحافلة أو السيارة في موقع وأخرى من فوقها وأسفلها. «شكون لي بغا ميكا» يكتب المرء والألم يعتصر قلبه، وهو يتذكر عشرات المرات التي قطع فيها هذه الطريق الخطيرة المؤدية إلى زاكورة، يتذكر أيضا أن هذه من الطرق القليلة التي بمجرد وصولها وخاصة منطقة (تيزين تشكا أو أيت ساون أو تدارت أو تازليادة) حتى يبادر مساعد السائق «لكريسون» بالصراخ بطريقة بين التنبيه والتحذير أصبح معروفا من طريقتها وظيفة الأكياس الموزعة «شكون لي بغا ميكا...شكون لي خاصاه ميكا) ويقوم بتوزيع الأكياس البلاستيكية على المسافرين لأن تقيؤ الكثيرين مؤكد؛ بسبب الدوران الذي تسببه تلك المنعرجات الخطيرة، وهي أيضا الطريق التي حاول كثيرون وفي كثير من المرات جاهدين أن تصل أعينهم إلى قعر فجاج لا تبعد عن حدود الطريق «الزفت» غير بمتر أو اثنين دون أن يجدوا لذلك سبيلا، هي أيضا الطريق التي حدث أن كان أحد أبناء زاكورة مسافرا ذات مرة حين شموا رائحة الدخان؛ ليكتشفوا أن الحافلة تحترق، وهي الطريق التي إذا قدر الله لك فيها أن تتوقف الحافلة بسبب عطب؛ فلك الله وهو حسبك ونعم الوكيل في تلك الخلاوات الموحشة. هي إذن طريق منسية شأنها شأن الدواوير المحيطة بها منذ أن شق المستعمرون تلك الطريق التي أصبحت فيما بعد وطنية وتحمل الرقم 9، تهم أساسا إقليمي زاكورة ووارزازات جزء من الوطن المهمش والمفقر الذي كرس فيه المسؤولون على هذا البلد؛ مقولة المستعمر بأنه مغرب غير نافع، هي أقطار تشكل عند العارفين مغربا عميقا لكن ومع شديد الأسف جلها لا تربطها بهذه الدولة سوى البطاقة الوطنية ولاشيء آخر غير حب الوطن. هي هوامش قطار التنمية فيها متوقفة وهذا ما تخبرك به جدرانها وهياكل منشئاتها وأرضها كلمها زرتها ولو بعد عقود من الزمن. الطريق مقطوعة...؟ يحكي أحد أبناء المنطقة أنه وقبيل عيد الأضحى سدت الثلوج الطريق أمام جميع الحافلات والسيارات القادمة من الدارالبيضاءومراكش؛ لتتكدس كلها في منطقة «تيزليدا»، التي أصبح ذكرها يبعث الشؤم في نفوس أبناء الجنوب الشرقي. أزيد من عشر ساعات والطريق مسدود في عز فصل الشتاء لتزداد معاناة المسافرين مع البرد القارس. ومن بين ما عمق من جراح أولئك المسافرين -وهي كثيرة- أنهم عندما توجهوا -وهم المحاصرون- نحو المقاهي ليطفؤوا جوعهم صدموا بأثمنة المواد الغذائية المرتفعة. حيث بلغ ثمن الخبزة الواحدة عشرة دراهم. أما الأطفال فقد تضافر ضدهم الجوع والبرد ليطلقوا العنان لحناجرهم الصغيرة بالصراخ. وقد سبق أن توفي بعض الأطفال الرضع بسبب البرد القارس. وهي أحداث تتكرر عادة بتكرر هطول الثلوج أو نزول الأحجار دون أن تجد من يزيحها، أو يحدث ذلك بعد تأخر فظيع. بعد كل هذه المعاناة يحكي الشاب ابن الجنوب الشرقي؛ جاءت مروحية محملة ببعض المواد الغذائية توزعها على المحاصرين رفقة القناة الثانية «دوزيم» التي صورت روبورتاجا عن الموضوع، لكن بمجرد أن ذهب صحفيو القناة الثانية حتى عادت المروحية أدراجها. ليكتشف المسافرون المحاصرون أن الأمر يتعلق بتصوير روبورتاج يلمع الصورة فقط. ولكن أين النفق... يبقى أبرز موضوع أثير بسبب فاجعة الحوز هو نفق تيشكا؛ الذي انطلقت الدراسات فيه منذ 1927 في عهد المستعمر، لكن الأمور آلت إلى مآلات أخرى بعد استقلال المغرب وتغير الأولويات. ومن حسنات هذه الفاجعة كذلك -إن كان لها من حسنات- كما قال أحد الظرفاء على الموقع الإجتماعي «الفايسبوك»، إعادة مدينة زاكورة المنسية إلى واجهة الأحداث. لكن آخر قال بأنها لا تذكر إلا في سياق الكوارث: (حوادث السير، ارتفاع درجات الحرارة، الجفاف، مرض اللشمانيا.... غياب الماء الصالح للشرب والخصاص في الموارد البشرية بالتعليم والصحة وغيرها). المهم من كل هذا النقاش هو عودة نفق تيشكا إلى الواجهة. لقد كانت طريق تيشكا عبارة عن منعرجات ضيقة تنحتها بدقة حوافر الدواب، إذ بالكاد تسمح بمرور الدواب. لكن المستعمر الفرنسي قام بإصلاحها سنة 1925 واستمرت الأشغال إلى غاية 1939، حيث أصبحت تسمح بمرور السيارات. النظرة البعيدة للمستعمر ونيته في جعل المغرب مستعمرة تابعة له باستمرار جعلته يفكر في شق نفق عبر جبل تيشكا. هكذا انطلقت الدراسة لشق هذا النفق منذ سنة 1927. لكن بعد الاستقلال وخروج المستعمر أصبحت للمغرب أولويات أخرى، كما أن اهتمام الدولة تركز في محور طنجةالبيضاء وبعض مدن الوسط. سنة 1974 أنجزت مصالح وزارة التجهيز والنقل دراسة لمشروع «نفق تيشكا»، لكنها بقيت حبيسة رفوف الوزارة المعنية إلى أن تم تناسيها بالمرة. حسب هذه الدراسة فإن إنجاز النفق سيوفر أربعين دقيقة من الوقت، ذلك أنه سيقلص المسافة بين وارزازات ومراكش ب 45 كيلومتراً. في سنة 2006 تفاءل العديد من سكان زاكورة ووارززات خيرا لما صادق المجلس الإقليمي لوارززات على المقرر الذي بموجبه أطلق دراسة جديدة، تكلف بإنجازها مكتب دراسات بالرباط. النفق كما خططت له هذه الدراسة ينطلق من جماعة «ستي فاضمة» بإقليمالحوز في اتجاه إقليم وارززات، وبالضبط دوار «الصور» بجماعة «تيدلي»، حيث قدر طوله بحوالي 10 كيلومترات وعرضه بحوالي 10 أمتار، فيما قدرت كلفته حسب أكثر من جهة؛ بما بين 7 و10 مليون درهم، وهو ما يعادل نصف ميزانية تي جي في. مشاريع أموات بعد فاجعة تيشكا التي راح ضحيتها ما يقارب 50 قتيلا وأزيد من عشرين جريحا تناسلت ردود الأفعال الرسمية، ودخل الموضوع مجلس الحكومة كما دخلت قبله مواضيع عدة لكن هل سيتم الاكتفاء بردود الأفعال هذه التي قد تمتص أو تؤجل غضب الشارع؟ أم أنه سيتم القيام برد فعل في الإتجاه الصحيح، والتشمير على ساعد الجد، والقيام بشق نفق تيشكا. أولا لفك العزلة عن العديد من سكان المغرب العميق، وثانيا من أجل فتح منطقة زاخرة بالعديد من المعادن والمآثر التاريخية والواحات والمناظر الطبيعية أمام السياحة، وكذا الثروات الطبيعية حتى لو لم يكن فيها أي شيء من كل هذا يكفي أن فيها مواطنين. بعد أن انقلبت حافلة قادمة من زاكورة في اتجاه مراكش في ممرات تيشكا الجبلية الوعرة وسقطت في هوة ساحقة قدر عمقها بثلاثمئة متر، طرحت مجموعة من الأسئلة المرتبطة بالحالة الميكانيكية للحافلات، والمراقبة الطرقية واحترام القانون، وحالة الطرقات وغيرها. وكثر اللغط حول من يتحمل المسؤولية في ما وقع. أهو العنصر البشري أم الحالة الميكانيكية للحافلة؟ أم السرعة وعدم احترام قانون السير؟ أم هي الطريق الوعرة ؟ إن لسان حال مشاريع الأموات اليومية المتبقية في منطقة زاكورة وورزازات وباقي هوامش المغرب المقصية؛ يقول لا نريد دموعا ولا نريد تضامنا أجوف نريد تقسيما عادلا للثروة.. نريد وطنا يضم كل أبنائه.. نريد عدلا يعم هذا الوطن الذي لم نكرهه يوما لكننا لم نعد نطيق ظلمه. وقد قال باكونين يوما «وطني إن لم يعشقني وأنا الذميم الجلف، لم يعد وطني.. إنه سجن بلا قضبان». رحلة في طريق الموت وجد المنحدرون من مدينة زاكورة، خصوصا من يعيش منهم في مدن مراكشأكاديروالدارالبيضاء، أنفسهم محاصرين بمجموعة من الأسئلة من قبيل: (واش كادوزو من تما ديما؟ واش ما كاينة شي طريقة أخرى بين مراكش وزاكورة؟ كيدايرة الطريق؟...) وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي ووجه بها هؤلاء. وخلال إجاباتهم التي لا تجدي فيها المبالغة نفعا، لأنهم مهما بالغوا في تهويل حالة الطريق لا يستطيعون وصف مدى خطورتها، يبقى المستمع مشدوها أمام هول ما يسمع. في الوقت الذي ترتسم فيه ابتسامات الفرح على وجوه المسافرين المتوجهين نحو مدنهم، ترتسم ابتسامات مشوبة بنوع من الخوف والتردد على ملامح أبناء منطقة زاكورة ووارزازات، لا لأنهم لم يجدوا من يقلهم إلى مناطقهم ولا لعسر تدبر تكلفة النقل التي عادة ما ترتفع في هذه المناسبات، ولا لغياب حافلات ستقلهم إلى ذويهم، لكن شبح الموت الذي يتربص بهم هو الذي خطف ابتساماتهم أو شوهها على الأقل.«لكل مسافر قصص أو قصة مع هذه الطريق» تروي بعضها أن عددا من الحافلات المتوجهة نحو زاكورة تبدو في حالة جيدة انطلاقا من ألوانها، لكن « أالمزوق من برا أش خبارك من الداخل»، فبمجرد أن يصعد الركاب إلى الحافلة حتى يصدم بعضهم بالحالة المهترئة لهذه الحافلة ومقاعدها. في حين أن أغلبهم لا يفاجأ. لأنهم ألفوا الحافلات التي تستعمل هذا الخط الطرقي رقم 9. ففي الوقت الذي يبحث فيه المسافرون عادة عن شروط الراحة يبحث ركاب هذه المناطق عن السلامة فقط. فكل أملهم أن يصلوا إلى منازلهم بخير وعلى خير. أما وعثاء السفر وكآبة المنظر فأمر لا محيد عنه بالنظر إلى الصراط الذي يمرون منه. عادة ما تستغرق إجراءت وضع الأمتعة في أماكنها والنزاع حول المقاعد ساعة بأكملها . بعدها انطلقت الحافلة بعد أن أسدل الليل ستاره بعد تجاوز مدينة مراكش والوصول إلى «تيزليدا»، نقطة بداية منعرجات طريق الموت، هنا توقفت الحافلة لينتشر الركاب بين المقاهي ويزدردوا عشاءهم على عجل...ظلمة حالكة شقها ضوء الحافلة ومنعرجات شديدة سايرتها الحافلة صاعدة نحو القمة. وأشباح تبدو للناظر على قمم الجبال وجنباتها على شكل حيوانات غريبة. إنها صخور جبال تيشكا الضخمة المطلة على الطريق، التي جعل منها الظلام أشباحا مخيفة. هذا حال الركاب في منطقة تنعدم فيها شبكة الاتصال، فلا استسلام للنوم ولا استيقاظ في الوقت نفسه، فلسعات البرد توزع بشكل عادل على الركاب، خصوصا أن النوافذ تسمح بمروره. وهم في طريقهم سأل السائق زميلا له قادما من الاتجاه المعاكس عن السبب في هذا التوقف الإجباري الطويل؛ ليجيبه أن صخرة هوت من الجبل وسدت الطريق أمام المسافرين، وقبل أن يطرح السائق أسئلة أخرى استمر زميله في القول بأنها أزيلت بمبادرة من بعض المسافرين. وما هي إلا بعض منعرجات حتى بدأ يحس بعض الركاب بالغثيان ثم التقيؤ، لتزداد مرارة الرحلة وتنبعث روائح كريهة. كلها حوادث أجبر الركاب على التأقلم معها في مثل هذه الرحلات.