في الوقت الذي كان فيه عشرات الآلاف من الإسلاميين يتضامنون مع الإخوان المسلمين بمدينة الرباط، منددين بالمجازر التي يرتكبها الجيش والداخلية المصريين في حق إخوانهم، كنت أنا في وقفة أخرى، بضواحي مدينة وزان، غير مهيأ لها من أي طرف، حيث كان السكان المجاورون يأتون لتعزية أسرة في البادية، فقدت صغيرتها ذات الإثني عشر ربيعا بسبب لدغة عقرب. ربما لم يكن ليسمع أحد بموت هذه الطفلة لو لم أكن حاضرا بمحض الصدفة. لقد قتلتها عقرب ولم تمت موتا سياسيا كما يحدث في مصر وفي أماكن أخرى، وهذا سبب كاف كي لا يتضامن معها أحد، ولا يخرج من أجلها تيار سياسي، ولا يتحدث عنها أحد في الفيسبوك، خاصة أصحاب النزعة الإنسانية المرهفة الذين لايعنيهم الموت إلا إذا كان مسيسا ومؤدلجا ومرفوقا بالكاميرات وبمراسلي الفضائيات في المغرب. سبق أن رأيت تلك الطفلة قبل أن تموت. رأيتها تسقي السكان ماء وتملأ قنيناتهم وبراميلهم من الصنبور الوحيد الذي يوجد في أرض أسرتها، والذي وضعه المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، كي يشرب أهل الدوار الذي يبعد عن مدينة وزان بحوالي عشرة كيلومترات لا غير. وفي الليل، وهي مستسلمة للنوم، لم تكن تدري أن عقربا سبقتها للفراش ستلدغها لدغتين، الأولى في ساقها، والثانية في البطن، وسترديها جثة هامدة بعد ساعات. لقد ماتت بسبب لدغة عقرب في الظاهر، لكنها ماتت في الحقيقة موتا سياسيا يستدعي أن يخرج كل المغاربة للتظاهر، ليس ضد العقارب، بل ضد الدولة والحكومة والأحزاب وضدنا جميعا، نحن الذين مازلنا نسمح أن يموت أطفالنا بسبب حشرة سامة. في الواحدة بعد منتصف الليل، أخذ والد الطفلة صغيرته إلى مستشفى وزان، قسم المستعجلات. أحضر على جناح السرعة سيارة، وأسرع حاملا طفلته لإنقاذها، وقطع الكيلومترات القليلة، في اتجاه وزان. ورغم وضعية طفلته الحرجة فقد ظل الأب ينتظر، وفي الوقت الذي حان دوره، اكتشف أن لا مصل ولا حقنة مضادة للتسمم، وعليه أن يذهب إلى تطوان، وتطوان بعيدة، والطريقة فيها منعرجات، كما أن المستشفى لا يمكنه أن يمنحه سيارة إسعاف، لأن سيارة الإسعاف في وزان لا تتوفر على أوكسجين، وإدارة المستشفى في وزان لا يمكنها أن تتحمل مسؤولية إرساله في سيارة إسعاف بدون أوكسجين، والأب يرى وضعية طفلته تزداد حرجا، فيغضب كما يغضب كل الآباء، فتنصحه الطبيبة بالتوجه إلى القنيطرة، لأن الطريق سالكة ولا منعرجات فيها، شرط أن يوفر هو سيارة ينقل فيها ابنته، لأن مدينة وزان لا تتوفر على سيارة إسعاف بأوكسجين. تخيلوا أن مدينة بحجم وزان لا تتوفر على سيارة إسعاف مجهزة. وعلى الأب أن يتحمل مسؤوليته، ويتحمل عواقب نقل ابنته في سيارة خاصة وغير تابعة للمستشفى. بعد ساعتين أو أكثر وصل الأب ومن رافقه إلى القنيطرة ومعهم صغيرته، وهناك وجد في المستعجلات رجلا بطنه مبقورة، ووجد شابا ينزف دمه دون توقف، وكان عليه مرة أخرى أن ينتظر إلى أن يحين دوره، فهناك أسبقية وأولويات في مستشفيات المغرب، وحين حان دوره، دخلت طفلته إلى قسم الإنعاش، وفي الصباح أخبروه أنها فارقت الحياة، لأن عقربا لدغتها وهي نائمة. أليس هذا موتا سياسيا؟ أليست الدولة مسؤولة عن موت هذه الطفلة؟ أليست الحكومة مسؤولة؟ أليست وزارة الصحة مسؤولة؟ أليست إدارة مستشفى وزان مسؤولة؟ إنه لأمر مخجل وعار أن تموت طفلة بسبب الإهمال، وبسبب عجز مستشفى مدينة عن توفير ترياق في الوقت المناسب. لقد كنت هناك بالصدفة، ورأيت عقربا تقتل طفلة، ودون شك يموت أطفال كثر بنفس الطريقة في مناطق أخرى، يموتون موتا مجانيا وبدائيا، كأن لا وزارة صحة موجودة ولا مستشفيات ولا دولة ولا حكومة. هل من المعقول في دولة وفي القرن الواحد والعشرين أن تقطع طفلة كل هذه المسافة التي تفصل بين ضواحي وزان ومدينة القنيطرة، كي تعالج من سم عقرب، وفي النهاية تموت بسبب السم وبسبب غياب المصل وبسبب غياب الأوكسجين في سيارة الإسعاف وبسبب طول الطريق وبسبب الأولويات والبطن المبقورة. كأننا في العصر البدائي، ومازال أطفالنا يموتون بسهولة ومجانية خضوعا لصراع الطبيعة وقانونها ولصراع الإنسان مع الحشرات والهوام السامة. قالت لي امرأة مسنة، وهي تتأسف لما حدث، إنهم يحذروننا في المستشفى من العلاج التقليدي للدغات العقارب ويقومون بحملات تحسيسية كي لا نعالج أطفالنا بالتشراط، وهو عملية جرح الموضع الذي تعرض للدغة العقرب بشفرة حلاقة، ثم مص الدم، الذي تقول إن السم يخرج معه، مضيفة بحرقة: لا هم تركونا كما كنا نؤمن بما نعتقد أنه علاج فعال ضد سم العقارب، ولا هم وفروا لنا علاجهم الحديث. طبعا لن تنادي أي جهة بمسيرة مليونية، ولن تخرج الجماهير للدفاع عن حق هذه الطفلة في الحياة الذي حرمت منها، كما سيحرم منها أطفال آخرون في المستقبل، أطفال يسكنون بالقرب من عاصمة المغرب الرباط، ويموتون كأنهم يسكنون في المريخ، وذلك لأن العقارب ليست خصما إيديولوجيا، والأطفال ليسوا إخوانا مسلمين، وذنبهم أنهم ولدوا في البوادي، وبالقرب من مدن مهملة ومنسية وينخرها الفساد والرشوة. الناس في القرية يقولون إنه قضاء وقدر، لكنه ليس كذلك، فلو كان هناك مصل ومستشفى في وزان ولو كانت هناك سيارة إسعاف لشفيت تلك الطفلة، ولظلت تلعب وتملأ القناني بالماء ليشرب الناس ويرووا عطشهم. إنها مسؤولية الدولة والحكومة، ومسؤوليتنا جميعا، حين نسمح بأن يموت أطفالنا بسبب العقارب والبرد، ولا نتظاهر من أجلهم ولا نوفر لهم مصلا ومستشفيات وسيارات إسعاف وأطقما طبية، وللأسف الشديد فالعقارب ليست جيشا ولا من بني علمان وليست نصرانية ولا يهودية كي يخرج الآلاف للتنديد بها ولإنقاذ أطفال فتحوا أعينهم للتو على الحياة، ومن المفروض أن يعيشوا ويتمتعوا بالحياة كما يتمتع بها الأطفال في الدول الأخرى. لا تناضلوا من أجل الأطفال الذين تقتلهم العقارب، وجميل جدا وإنساني أن ترفضوا الموت والظلم والقتل في مصر، لكن هل يقبل أحدكم أن لا توجد سيارة إسعاف مجهزة في مدينة بحجم وزان، وهل من الدولة أو من الإسلام أو من الملكية والعدل والإنسانية والتقدم أن تموت طفلة كما لو أننا نسكن في الأدغال. قديما حين لم يكن الطب موجودا، كان الناس يخلقون تفسيرات ويصنعون تأويلات لسم العقارب والأفاعي، وكانوا يؤمنون بمعتقدات تجعل من العقرب شيطانا أو إلها، وكانوا يقبلون بقدرهم وباللعنة التي تصيبهم من منطلق تفسير غيبي، وعندما أرى طفلة تموت اليوم بهذه الطريقة، في مغرب الحداثة والتنمية والنماء والديمقراطية والدستور الجديد، أتخيل أن المغرب كان أجمل وأكثر إنسانية قبل وجود الدولة والأحزاب والمظاهرات وسيارات الإسعاف والمستشفيات، على الأقل لم نكن في ذلك الزمن البعيد وفي تلك العصور البدائية لنشعر بهذه الغصة في القلب بسبب موت طفلة، لأن الكل كان يعيش في انسجام مع الطبيعة، وكان موت الأطفال طبيعيا ولا يدعو إلى كل هذا القلق.