حينما تقف أمام القاضي وعيناك تحوم حول مطرقته الخشبية وشاربه المدهون بالزيت، محاطا بجدران المحكمة وسقفها السميك الذي يكاد ينهار على رأسك من الألم، تفقد بداخلك كل شعور بالزمن والمكان، تعلن استسلامك الكامل لتلك اللحظة الرهيبة التي تحملك الى لقاء مباشر مع المجهول، تسرق منك قطع لوحة ''البازل'' التي بها تكتمل صورة الجزء المفقود من مجهولك. تفكر أكثر من أي وقت مضى في الهروب، ليس فقط من المحكمة بل من الحياة ككل ؛ اللعنة التي باتت تشبه الى حد كبير مفرمة بعجلات ضخمة تلاحقك منذ أن ولدت، وأنت في حالة من الهروب المستمر باستمرار النبض بداخلك. أن أكون قاض، بالنسبة لي يعني شيئا واحدا؛ أن أكون مجرما. أن يكون المرء قاضيا بهذه الجغرافيا؛ معنى ذلك، أنه سيقف أمامه مجرمون أبرياء بتهمهم فقط ، ودليل ادانتهم لا يتجاوز حدود محاضر مزورة أرغموا على توقيعها تحت التهديد والتعذيب، وبعد كل تلك المداولات. يدق صديقنا القاضي مطرقته ناطقا الحكم حكمين، حكم ضد البراءة وحكم أخر يعلن إعدام الانسان الذي كان يعيش بداخله دون احساسه به. نعم دون إحساس؛ لأنه ميت.
سيقول انه لا يعلم بتزوير الشرطة للمحاضر و ''حرفة تلفيق التهم'' التي تمتهنها الأنظمة، فقط أحببت تذكيره بشيء: هو لا يزاول مهنة القضاء بالسويد أو سويسرا، انه قاض بجغرافيا تغرب عندها كل يوم شمس الديموقراطية وحقوق الانسان، وتعم سماءها سحب سوداء من الويلات والانتهاكات. أجل ربما صديقنا القاضي لم يكن يعلم بتزوير المحاضر، فهل هذا يجعل منه بريئا؟ وها هو اليوم بات يعلم فهل هذا يجعل منه بريئا أيضا . طبعا لا فرق بالنسبة لي بين اليوم والأمس، لايمكن أن نطلب من حامل بندقية أن يطلق بضع طلقات في الظلام، سيكون مجرما ان هو ضغظ الزناد دون أن يطرح السؤال: من يختفي وسط ذلك الظلام؟ القضاء بالدول العربية الإسلامية لا يمكن أن يكون عادلا ولا مستقلا، ولا يمكن بأي شكل القبول بأحكام قضاء يقدم ولاؤه لأنظمة الحكم الإجرامية، ان قضاءا يحكم على جبور الماجري وغازي الباجي الذين نشرا صورا على الفايسبوك بالسجن هو قضاء مجرم، وقضاء يحكم أيضا على أمينة بسلب الحرية فقط لأنها اختارت أن تستقبل أشعة الشمس بملابس جلدها قضاء بئيس وكارثي.
وقضاء يحكم على كريم عامر والبر صابر ومايكل نبيل وتوني مارك بالسجن لأنهم عبروا عن رأي مختلف بخصوص الإسلام... لايمكنني وصفه إلا بقضاء ارهابي. منذ كنت طفلا وأنا لا أحب مهنة القضاء والشرطة، لأنه في المهنتين نجبر على أن نكون مختلفين جدا مع ضمائرنا. لأنني أعرف أشخاصا كثيرين دمرت حياتهم المحاكم، وأتذكر جيدا رجال الشرطة وهم يقفون بعصيهم وكلابهم المدربة أمام مسيرة شاركت فيها يوم كنت بالمغرب.