قبل سنة تابع العالم بأسره قضية الثرية الشهيرة باريس هلتون، التي أرسلها أحد القضاة الأمريكيين إلى السجن بتهمة السياقة في حالة سكر. ولم يشفع لها كونها وريثة إحدى أكبر سلسلة فنادق في العالم، أحدها فندق هيلتون بالرباط الذي اشترت شركة «غيسما» التي يملك فيها عادل الدويري وزير السياحة الاستقلالي السابق أسهما، بعد بيعه لأسهمه في شركة «س.إل.جي» بحوالي تسع مليارات سنتيم. ورغما عن أنف البنت المدللة وأنف أبيها الثري دخلت باريس هيلتون السجن، وأمضت العقوبة التي حكم بها عليها القضاء. وكذلك وقع مع «هيدير لوكير»، نجمة «سانتا باربارا»، التي أوقفتها الشرطة الأمريكية في 27 سبتمبر الماضي وسحبت منها رخصتها بتهمة السياقة في حالة تخدير. فتم اعتقالها ولم يطلق سراحها إلا بعد دفعها لكفالة مالية قدرها 5000 دولار. أما المغنية الأكثر شهرة في عالم «البوب» بريتني سبيرز فقد سحبت منها المحكمة رخصتها بعد ضبطها تقود سيارتها في حالة سكر. ولم تكتف المحكمة بسحب رخصتها فقط، بل بسحب حضانة أبنائها، بسبب عربدتها الدائمة. وتنتظرها محاكمة قاسية بسبب قيادتها لسيارتها بدون رخصة، وصدمها لسيارة إحدى المواطنات، والتي تابعت نجمة البوب أمام القضاء بتهمة الاعتداء على سيارة الغير والهروب من مكان الحادث. فكاميرا «الباركينغ» (كما حدث في باركينغ أونفيتريت صورت كل شيء، وهذا ما دفع محاميها إلى البحث عن صيغة لتعويض المواطنة صاحبة الشكوى ماليا، خوفا من تشدد القضاة وصرامتهم في إصدار الحكم ضد «بريتني سبيرز»، والذي قد ينتهي بها في السجن هذه المرة. كل هؤلاء النجوم الأثرياء والمشاهير الذين تم اعتقالهم ومحاكمتهم وسجنهم لم يرتكبوا جريمة القتل بسياراتهم أو جريمة الاعتداء على رجال الأمن بالسلاح أو بجرجرتهم بسياراتهم لمسافات قبل رميهم كأي قط متشرد. بل جريمتهم الوحيدة هي سياقتهم لسياراتهم في حالة سكر أو تخدير. ومع أن بعضهن لديهن معاناة معروفة مع الأدوية المهدئة والعصبية بسبب حالاتهن النفسية، إلا أن القضاء يتابعهن ويسحب منهن رخص سياقتهن. أما عندنا في المغرب فقد أصبح أبناء المسؤولين والأثرياء وبعض البرلمانيين يرتكبون جرائم قتل وجرح في حق المواطنين ورجال الأمن، لكن إلى حدود اليوم لم نسمع أن أحدهم سحبت منه المحكمة رخصة السياقة إلى الأبد. وبالمقابل تصدر المحكمة أحكاما بعدم متابعة المعنيين بالأمر بسبب ثبوت انعدام المسؤولية الجنائية فيما اقترفوه، نظرا لحالتهم النفسية والعصبية المرضية. وكأن الحالة الصحية النفسية الصعبة لهؤلاء المرضى تؤهلهم لاستعمال سياراتهم بمجرد ما تطوى ملفات قضاياهم في المحاكم، إن هي عرضت عليها أصلا. إلى حدود اليوم لم نسمع مثلا أن هيئة المهندسين، وهي بمثابة مجلس حكماء المهنة، أصدرت بلاغا تخبر فيه الرأي العام بفتحها لتحقيق داخلي حول إمكانية سحب رخصة مزاولة الأعمال الهندسية من المهندس ابن الوالي، نظرا لعدم أهليته العقلية لممارسة هذه المهنة التي تتطلب تركيزا عقليا دقيقا أكثر من غيرها. وما يثير الاستغراب في دفاع ابن الوالي هو أن مرافعته أشارت إلى كلمة العقل في معرض تبريرها لاستعمال ابن الوالي لطريق دون أخرى، حتى يثبت الدفاع براءة ابن الوالي من القتل، وتقييد الحادث ضد مجهول. وقال الدفاع في تقريره المرفوع إلى جهات عليا بأنه «لا يعقل أن يترك ابن الوالي الطريق السهل عبر أزمور، ويسلك الطريق الصعب البعيد عبر طريق الجديدة». وهنا نكتشف أن كاتب التقرير يتذرع بالعقل لكي يبرر براءة المتهم من القتل، في الوقت الذي يتذرع نفس كاتب التقرير باختلال العقل لكي يبرر عدم مسؤولية المتهم الجنائية عن الحادث برمته. ولماذا يا ترى «لا يعقل أن يترك ابن الوالي الطريق السهل عبر أزمور ويسلك الطريق الصعب عبر طريق الجديدة»، ما دام ابن الوالي يعاني من اضطرابات عقلية تجعله غير مسؤول عن تصرفاته، وربما تدفعه إلى تفضيل الطريق الصعب على الطريق السهل. «ياك كلتو الولد مشاربش عقلو». عندما تستند مرافعة الدفاع على غياب العقل في ملف ابن الوالي، فإنه من غير المقبول أن يستند هذا الدفاع على العقل والمنطق لتبرير تصرفات المتهم. لأن هذا سيكون متناقضا وسينسف فرضية البراءة برمتها. والغريب في التقرير الذي أعده الدفاع للجهات العليا أنه يبرر براءة ابن الوالي من دم المواطن المقتول على الطريق، بكون هذا الخير تناول الفطور الرمضاني في بيت المخرج السينمائي سعد الشرايبي. بينما تقرير الدرك الملكي يقول بأن ابن الوالي ضبط في حالة غير طبيعية. يعني سكران. فهل هي كثرة «القزبر» في «الحريرة» هي التي أسكرت المهندس يا ترى. أما المجانين الحقيقيون الذين لديهم «الكواغط» التي تثبت ذلك من مستشفيات الدولة، فإن عظامهم ترشى في السجون، وليس هناك من يعد تقريرا مفصلا كتقرير ابن الوالي، لإرساله إلى الجهات العليا. أحد هؤلاء المساجين بسجن مكناس قبل سنتين أقدم على قطع قضيبه في لحظة جنون، بعد أن تخيل ملاكا وقف عليه في الليل وطلب منه التخلي عن عضوه التناسلي لكي يصبح واحدا من الأولياء الصالحين. ومع ذلك لم تتحرك إدارة السجون لفتح تحقيق حول عدد المجانين الذين يوجدون لديها في السجون. وكأنها تقول لهم «تما تبقاو، والله وخا تقطعو ريوسكم ماشي غير...». ومن هؤلاء المجانين السجناء من يضع حدا لحياته، كذلك الجندي السابق في الحرس الملكي، محمد عزام، الذي انتحر مؤخرا داخل سجن أوطيطة الفظيع بسيدي قاسم. والذي اعتقل وسجن رغم أن عائلته أدلت للمحكمة بما يفيد أنه كان يتلقى العلاج النفسي طيلة إحدى عشرة سنة بعد فصله من العمل في صفوف الحرس الملكي للأسباب ذاتها. وحتى عندما كان محمد عزام مسجونا في سلا، فقد ظل يتلقى العلاج في مستشفى الرازي للأمراض العقلية. لكن يبدو أن بعض المحاكم المغربية لا تعترف لا بالشواهد الطبية التي تعطيها المستشفيات المدنية ولا تلك التي تعطيها المستشفيات العسكرية. والدليل على ذلك هو رفض المحكمة قبول الشهادتين الطبيتين اللتين أدلى بهما دفاع الكولونيل المتهم في ملف تسريب الوثائق العسكرية لجريدة «الوطن»، رغم أن الوثيقتين الصادرتين عن المستشفى العسكري بالرباط تثبت إصابة الكولونيل باختلالات عقلية ونفسية، جعلته يعترف أمام القاضي ببرودة دم غريبة بأنه سرب الوثائق للصحافة. والمنطقي عندما ترفض المحكمة قبول الشواهد الطبية الصادرة عن مؤسسة ذات سيادة كالمستشفى العسكري، بسبب شكها في مصداقيتها، فإن أبسط شيء يجب أن تأمر به المحكمة هو فتح تحقيق مع الجهات التي أصدرت هذه الشواهد. فإما أن الشواهد الطبية حقيقية وعلى المحكمة الأخذ بها، وإما أنها مزورة وعلى المحكمة العسكرية في هذه الحالة مصادرتها ومتابعة الجهة التي أصدرتها بتهمة تزوير وثائق طبية عسكرية. ويبدو أن المحكمة العسكرية لديها أولويات نجهلها نحن المدنيون البسطاء. فقد قررت المحكمة مؤخرا أن تتابع كولونيلا بتهمة النصب والارتشاء واستغلال النفوذ، بعد تورطه في وساطة لتوظيف الراغبين في العمل داخل الدرك والجيش والأمن، في الوقت الذي غضت الطرف عن الكولونيل التريكي، صهر الجنرال حسني بنسليمان، بعد تورطه الصيف الماضي في فضيحة تزوير محضر الدرك بخصوص صاحب سيارة «الجاغوار» الذي قتل حارس أمن فندق «أونفيتريت» بالصخيرات. فما هو الأخطر يا قضاتنا الأجلاء، جريمة التزوير في محضر رسمي لإخفاء معالم جريمة قتل، أو النصب على مواطنين من أجل سرقة أموالهم. لا يحتاج هذا السؤال إلى جواب، لأن شرح الواضحات من المفضحات. وما نراه اليوم يكشف لنا حقيقة ساطعة لا غبار عليها، وهي أنه إذا كان المدنيون ليسوا كلهم سواسية أمام القانون المدني، فإن العسكريين أيضا ليسوا سواسية أمام القانون العسكري. ويبدو أن هذه هي المساواة. على الطريقة المغربية طبعا.