هل المغرب دولة مستقلة تمثل أمة قائمة بذاتها وتاريخها وهويتها أم مجرد "ولاية" في "أرض الإسلام"؟ ما هذه الجرأة التي خرج علينا بها البعض يطلب "الجهاد" في سوريا متجاوزا البرلمان والحكومة والمجلس الوزاري؟ بأي حق ينصب بعض فقهاء الدين أنفسهم أوصيا علينا نحن المسلمون السنة فيجتمعون في ما بينهم في القاهرة ويؤذنوا فينا ب"النفرة والجهاد في سوريا"؟ لماذا ينشر الموقع الرسمي لجمعية التوحيد والإصلاح، وفي قيادتها وزيران من الحكومة، نص البيان الختامي الصادر عن ما يسمى "مؤتمر العلماء المسلمين" الداعي ل"وجوب النفرة والجهاد لنصرة إخواننا في سوريا بالنفس والمال والسلاح وكل أنواع الجهاد والنصرة وما من شأنه إنقاذ الشعب السوري من قبضة القتل والإجرام للنظام الطائفي"؟ ما كان لنائب رئيس حركة التوحيد والإصلاح، المشارك في هذه الفضيحة، أن يكتفي بتصريح لموقع "لكم" يتبرأ فيه من الدعوة الصادرة عن المؤتمر للجهاد في سوريا. بل المطلوب من هذه الجمعية الدعوية، التي ينتمي إليها رئيس الحكومة المغربية ووزراء وبرلمانيون من حزبه، أن تصدر بيانا رسميا تتبرأ فيه من هذه الدعوة الصريحة للعنف باسم الدين، احتراما لسيادة الدولة والقانون المغربيين. الواقع أن دعوة هؤلاء الفقهاء ل"اجهاد" في سوريا، ليست فقط ترسيما لواقع مقلق تؤكده الأخبار المتواترة عن سقوط ضحايا مغاربة للحرب في سوريا، بل تطاول على سيادة الأمم المسلمة في إطار دولها المستقلة. وهذا التطور الجريء ينطوي ثلاثة مغالطات فاضحة. فأما المغالطة الأولى فتتمثل في أن الثورة السورية وما تلاها من حرب دموية مؤلمة بسبب السفاح بشار الأسد، ليست حربا دينية بل هي أزمة سياسية من أزمات العلاقات الدولية المعقدة. الأسد لا يقتل السوريين لأنهم شيعة أو مسلمون بل لأنهم ثاروا ضد ديكتاتوريته مطالبين بالحرية والكرامة. وعندما يعتبر بيان العلماء المسلمين أن "ما يجرى في أرض الشام من عدوان سافر من النظام الإيراني وحزب الله وحلفائهم الطائفيين على أهلنا في سوريا يُعد حربا معلنة على الإسلام والمسلمين عامة." فهو ببساطة مؤسفة يكذب على ضعاف العقول ويحشرهم في حرب طائفية لن تخدم في النهاية سوى مصلحة إسرائيل. فالنتيجة المنطقية الوحيدة، لهذه الحرب التي لا يبدو أنها ستتوقف قريبا، هي دمار سوريا أيا كان المنتصر. وأما المغالطة الثانية فتكمن في أن "المسلمين" الذين يتوجه إليهم نداء هؤلاء العلماء غير كيان وهمي غير موجود على الإطلاق. إذ كما هو معلوم، هناك دول مستقلة يدين أغلب سكانها بالإسلام، وما أكثر ما يجمع بين تلك الدول من مصالح متنافضة وخلافات حدودية... لذلك حين يخاطب هؤلاء الفقهاء من يسمونهم "المسلمين"، فإنهم يقصدون في الواقع "مواطنين" في دول قائمة بذاتها وقوانينها ومؤسساتها وديبلوماسييها وجيوشها. وحين يحرض هؤلاء مواطني تلك الدول على "الجهاد" فإنما يدعونهم ببساطة لخرق القوانين التي تنظم بجلاء حمل السلاح والخدمة العسكرية وغير ذلك مما يتصل بممارسة العنف المشروع الذي تحتكره الدولة دون سواها كما هو معروف. سيكون الأمر مفهوما لو دعى الرئيس المصري أو الأمير القطري أو الملك السعودي مثلا، إلى استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بفرض حظر جوي على الطيران السوري، أو تدخل عسكري "إنساني" كما وقع في ليبيا مثلا، أو على الأقل اتخاذ إجراءات قانونية ممكنة في إطار القانون الدولي ضد غزو حزب الله للأراضي السورية، وأخرى ديبلوماسية لتليين الموقف الروسي من النزاع... أو غير ذلك مما يفقه فيه خبراء الديبلوماسية والاقتصاد والعلاقات الدولية. وأما المغالطة الثالثة فتكمن في أن تحديد الجهاد في القتال باسم المسلمين ضد "طائفة" معينة ليس سوى الإرهاب عينه. معلوم أن مصطلح الجهاد مفهوم ديني هامش تأويله واسع. وأخطر تلك التأويلات هي التي تخرج هذا المفهوم من سياقه التاريخي الخاص وتفهمه بعيدا عن أسباب نزوله، فتذهب مذهب أيمن الظواهري و أسامة بن لادن لتفسر الجهاد بأنه قتال غير المسلمين، ليس فقط لأنهم معتدون على جماعة من المسلمين، بل لأنهم أساسا مدعوون للإسلام أو أداء الجزية مقابل حمايتهم من قبل سلطة مسلمة. ومعلوم أيضا أن الوهابيين يكفرون نصف العالم الإسلامي إذ الشيعة بالنسبة لهم "روافض" لا علاقة لهم بالإسلام. وأن الأمر بالنسبة إليهم لا يقتصر على قتال "الروافض" أو "الصليبيين" أو اليهود، بل هذه مجرد مرحلة في طريق فرض الدولة الدينية كما يتصورنها بالقوة. هكذا كان شأن طالبان في أفغانستان و"الشباب الإسلامي" في الصومال، وهذا ما يريدونه لليبيا وسوريا وقطاع غزة. ويبدو أن الإخوان المسلمين يوافقون تماما على هذا التوجه، رغم الخلافات الإيديولوجية البسيطة بين الفريقين. فهل يتحلى فقهاء الدين هؤلاء بالشجاعة الأدبية ويخبروننا أن نظام طالبان ونظام السعودية هما "الأصلح" شرعا؟ وللتذكير فقط، لا أحزاب ولا دستور ولا انتخابات ولا برلمان ولا ديمقراطية ولا حقوق ولا معارضة ولا ريبع ولا خريف في السعودية ودولة طالبان ومشيخة قطر. أما النتيجة الحتمية لهذه الدعوة المدهشة ل"المسلمين" كي يجتمعوا للقتال ضد "طائفة" مسلمة معينة، فتتجلي ببساطة في تأكيد ما تروجه الأطروحات العنصرية لليمين الوطني في أوربا واليمين الصهيوني في إسرائيل من تقسيم للعالم على أساس ديني عنصري متوهم. وها هو المؤرخ عبد الله العروي ينبه لمخاطر هذا التقسيم الغبي للعالم في مذكرة من مذكراته معلقا على ما فعله هؤلاء الفقهاء و"مجاهدوهم" في حرب البوسنة خلال تسعينيات القرن الماضي. "31 دجنبر 1994، تنتهي السنة في ظل العنف، الفردي والجماعي، العنف في الجزائر ومصر والسودان والصومال، العنف في فلسطينوأفغانستان وكاشمير، العنف في البوسنة والقوقاز... وكلها مناطق إسلامية. فيستنتج الملاحظ الغربي: الإسلام هو دين العنف. لا سبيل إلى ثنيه عن هذا الاستنتاج إذ الفكرة قديمة. منذ أن أن ظهر الإسلام والمسيحيون يقولون: الإسلام يدعو إلى الجهاد، يفرض اعتناقه بالسيف. يجدون حججا جديدة في ما كتب في العقود الأخيرة عن فرض الجهاد. وإذا كان الإسلام في جهاد متواصل فلا حاجة إلى تبرير الهجوم على أية جماعة مسلمة أينما وجدت إذ وجودها في حد ذاته اعتداء. كل شيء في عقيدتها يدعوها إلى مهاجمة غيرها، إن لم يكن اليوم فغدا. كل ضربة وقائية مشروعة والحال هذه. لم يصرح أحد في الغرب بمثل هذا الكلام لكنه مضمن في تصرف القادة الغربيين عندما يتعاملون مع أية أزمة يكون أحد أطرافها مسلما. لا يلتفتون إلى مسؤولية البادي، كما هو واضح في البوسنة والقوقاز. لأنهم لا يرون أن النتائج، في حالة فوز هذا الجانب أو ذاك، متكافئة. يعتقدون أن المسلم، يحتفظ ببعض حقوقه. أما غير المسلم، في حال انتصار المسلم، فمآله القتل أو الطرد أو الاستعباد. ولهذا السبب بالضبط يروجون بكل الوسائل ما يصرح به بعض الإسلاميين الجزائريين بأن لا حق لغير المسلم أن يوجد على أرض الجزائر. (...) إذا قيل الحل في دمقرطة الأنظمة، أبدلت كلمة بأخرى إذ المشكل هو دائما كيف. الديمقراطية أكبر وسيلة لترويج الدعوات السخيفة، تلك التي يتهافت عليها الغرب المغرض في حين أنه يطمس ما يخالفها حتى ولو كان اختيار الأغلبية الصامتة". (خواطر الصباح، حجرة في العنق. يوميات 1982 -1999) ما يقع في سوريا ثورة ديمقراطية وطنية تحولت لحرب دولية بالوكالة لاعتبارات مصلحية، خبراء الاقتصاد والطاقة والعلاقات الدولية مؤهلون أكثر لبسطها للجمهور العريض. وقد بدأت البشرية، منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل، تحاول ما أمكن تدبير الصراعات الطاحنة للقوى العظمى في العالم بما يحفظ أكبر قدر ممكن من الأرواح البشرية. من خلال مجلس الأمن الدولي، على علاته، ومجموع القوانين والمواثيق الدولية. وهذا أقصى ما بلغته عقلانية البشر تهذيبا لغرائز الطمع والطموح والخوف... في انتظار عالم مثالي. المدهش أنه بنفس القدر الذي تتقدم فيه عقلانية البشر لتخليص الإنسان من حيوانيته (وهل هناك تفسير أبسط لما يفعله بشار الأسد من غرائز البقاء والخوف والطمع؟)، بقدر ما يسعى فقهاء الأديان المتعصبون للجم هذا التقدم الهائل في تاريخ البشر، فنجد تأويلات منحرفة للأديان وراء المصائب الكبرى التي شهدتها البشرية، بعد أن تؤول تأويلات مطلقة لا مجال بعدها للنقاش. النازية نهاية التاريخ عند هتلر، والصهيونية نهاية التاريخ عند الصهاينة، وفرض الإسلام السني الوهابية بالقوة على جميع البشر نهاية التاريخ عند "الفرقة الناجية".