ذكَّر بيان "علماء الأمة" الذي أصدروه الخميس الماضي من مصر في فقرته السابعة "أفراد الجيش السوري بحرمة دماء الأبرياء"، وجاء التذكير بحرمة دماء الأبرياء بعد أن أحل ذات البيان دماء المسلمين فيما بينهم بفتوى هي لا شك أغرب فتوى في التاريخ الحديث. فأول ما بدأ به البيان الموجه للمسلمين آية الإذن بالقتال (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). وحديث للرسول صلى الله عليه وسلم يتوعد كل مسلم خذل مسلما بأن يخذله الله. وبهذا المنطق لم يترك البيان فرصة أخرى غير انتظار الأمر الجلل والدعوة إلى الخروج إلى مقاتلة "أعداء الله" من المسلمين الشيعة في سوريا، بزعم أنهم من "الروافض والباطنية". البيان خطير للغاية لأنه ليس موجها ضد الحكومات والأنظمة السياسية في العالم الإسلامي من باب الضغط السياسي بل هو موجه للأشخاص. وهذا ما أوضحه الداعية السعودي محمد العريفي في تصريح للجزيرة قال فيه "إن العلماء الذين حضروا اجتماع القاهرة يتبعهم جمهور غفير، مضيفا أن من يقرأ البيان يتأكد أنه يتضمن التوجه إلى الشعوب". ومن هذا المنظور تحول "علماء الأمة" إلى مؤطري حركة الجهاد في العالم الإسلامي، ويتحملون تبعات تداعيات ذلك المختلفة. وجاء في البند الأول لفتوى "علماء الأمة"، و بناء على قراءة للوضع في سوريا بمنظور طائفي واضح: "وجوب النفرة والجهاد لنصرة إخواننا في سوريا بالنفس والمال والسلاح وكل أنواع الجهاد والنصرة وما من شأنه انقاذ الشعب السوري من قبضة القتل والإجرام للنظام الطائفي ووجوب العمل على وحدة المسلمين عموماً في مواجهة هذه الجرائم واتخاذ الموقف الحازم الذي ينقذ الأمة وتبرأ به أمام الله الذمة كل حسب استطاعته قال الله تعالى (( وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)). وجاء في الفقرة الثانية من نفس البيان:"اعتبار ما يجرى فى أرض الشام من عدوان سافر من النظام الإيرانى وحزب الله وحلفائهم الطائفيين على أهلنا فى سوريا يُعد حربا معلنة على الإسلام والمسلمين عامة" . ولسائل أن يسأل، لماذا لم يجتمع "علماء المسلمين" ويصدروا فتوى مشابهة تجعل القتال ضد العدو الصهيوني في فلسطين واجبا شرعيا، وينادي مسلمي العالم للزحف على إسرائيل التي تغتصب أرض المسلمين وتذبحهم تذبيحا مند عقود؟ ولماذا لم يعلن هؤلاء العلماء في حرب العراق وإيران، الحرب المقدسة إلى جانب صدام، ضد دولة إيران الشيعية الصفوية؟ بل لماذا لم يدبج هؤلاء العلماء الأجلاء فتوى مماثلة تدعو للقتال المقدس في بورما حيث يقتل المسلمون تقتيلا ويعذبون ويغتصبون و ... لماذا سوريا اليوم؟ تصريح الداعية العريفي السابق يحمل بصيص إجابة، حيث قال في نفس التصريح للجزيرة "إن الوثائق المرئية والمكتوبة التي عرضت (على المؤتمر) تفيد بأن من أسماهم الرافضة الصفويين "لن يكتفوا بسوريا، بل سيلتفتون إلى مصر ودول الخليج ومكة والمدينة، مشددا على أن "الثورة السورية وصلت إلى مرحلة خرجت فيها من قبضة الحكام". الأمر إذن لا يتعلق بتقتيل مسلمين في سوريا بل، من جهة أولى، بخوف من توسع شيعي في المنطقة، ومن جهة ثانية بخروج الملف السوري، في تقدير العلماء، من أيدي الدول. وفي هذا السياق يحق طرح السؤال التالي: هل تسعى جهات ما إذن لحسم ميزان القوى في المنطقة بالزحف البشري للمسلمين السنة من كل أنحاء العالم؟ هل فتوى العلماء ورقة سياسية للضغط على من يعنيهم الأمر لتسريع الحل الدولي في الملف؟ إن البيان الذي انتقد جرائم الطائفية في سوريا صب على نار تلك الطائفية زيت فتوى طائفية أشد منها، حيث أن الفتوى وسعت دائرة التداعي للقتال الطائفي لتشمل كل مسلم، سني بالطبع، في كل أنحاء العالم الإسلامي بعد أن كانت محصورة في سوريا وما يجاورها. ولا يخفى على أي متحرر من النزعة الطائفية أن فساد فتوى "علماء الأمة" سيكون، إذا استجيب له ولو بواحد في المائة، أشد من فساد الحرب الطائفية للشيعة "الروافض والباطنية" في سوريا. فالبيان يؤسس لمجزرة بين المسلمين هي الأولى من نوعها في العصر الحديث، فإذا كان البيان موجه للسنة فإنه عمليا وبالتأثير المعاكس محرض أيضا للشيعة ويدعوهم لنصرة إخوانهم الشيعة ضد تكتل السنة في سوريا. مما يعني أن البيان فتح باب حرب دينية بين المسلمين الله وحده أعلم كيف ستنتهي، ومدبجوا البيان وحدهم من يتحمل وزرها. و يفقد البيان أساس "التأصيل" الذي اعتمده، إذا جاز قبوله عقلا وشرعا، بكل بساطة لكونه يدعوا المسلمين إلى المجزرة ليقاتلوا أناسا لن يتبينوا أنهم روافض وإباضية ! مما يعني أنهم بلا شك سوف يَقتلون أيضا "الأبرياء" من السنة أو من الذي اصطفوا إلى جانب الطاغية الأسد. وسيُقتلون هم أنفسهم في معركة كان ينبغي ألا تقارب مقاربة دينية تجعلها بين كفار ومسلمين. البيان جاء في ظرف عرفت فيه أوساط بعض الإسلاميين بالفعل هجرات منظمة إلى سوريا، والبيان يحمل فتوى "علماء المسلمين"، وهي تجعل النصرة ل"المسلمين" في سوريا واجبا، وتأذن لهم بالقتال هناك، وسوف تتضاعف أعداد "المجاهدين" في سبيل "علماء المسلمين" نحو سوريا. لا يستحضر هؤلاء العلماء كيف يمكن للدول النظر إلى مواطنين يخرجون منها لحمل السلاح والقتال في دولة أخرى ثم يعودون إليها بعد ذلك؟ من يكون هؤلاء في منظور الدولة؟ لم يستحضر هؤلاء أنهم يزجون بالآلاف من الشباب في لوائح "الإرهاب النائم"، والذي يمكن إيقاظه في أي وقت لتصفية الدعاة والحركات الإسلامية في دولهم، بتورط هؤلاء المجاهدين أو توريطهم في أعمال إرهابية قد تكون مجرد عنف بسيط حين يأتيه غيرهم؟ لم يستحضر هؤلاء العلماء أنهم يقدمون التأصيل الشرعي لتغذية الهجرات الجهادية نحو مناطق أخرى تنشط فيها القاعدة. التداعيات المحتملة لفتوى القتال السني في سوريا سواء في إعدادها لمجزرة فضيعة بين المسلمين بأرض سوريا، أو بتغذية رصيد "الإرهاب النائم" في مختلف الدول وما ينتج عنه من الإضرار بصورة الإسلام واستقرار البلدان وبالدعوة وأهلها، كل هذا يجعل فتوى "علماء الأمة" فاسدة. هل يتعلق الأمر هنا بتطاول على العلماء أو بتسفيههم والتنقيص من شأنهم؟ بالمطلق لا. الأمر يتعلق بالحق في إبداء الرأي للتنبيه إلى خطأ خطير على العلماء والدعاة والحركات الإسلامية بالدرجة الأولى، تداركه في أوطانهم لوقف الزحف الشبابي نحو سوريا والاكتفاء بالنضال السياسي الضاغط على دولهم من أجل التحرك. وغير هذا في هذا الملف مجرد مغامرة بأمة غارقة في المشاكل.