تداولت العديد من الصحف الورقية والرقمية مؤخرا خبرا مفاده أن أنس العلمي، المدير العام ل "صندوق الإيداع والتدبير CDG"، أغمي عليه "مباشرة بعد خروجه من عند الملك، الذي "وبَّخه" على فضيحة مشاريع عمرانية تابعة للصندوق في مدينة الحسيمة. ويتعلق الأمر بمشروع "باديس" السكني الذي شيدته "الشركة العقارية العامةCGI "، الذراع العمراني ل "CDG"، قبل أن يكتشف الزبناء عدة اختلالات في البناء والتصميم والتجهيز، فحملوا شكاياتهم إلى الملك أثناء عطلته بالحسيمة، لينفجر "الغضب الملكي" في وجه مدير الصندوق وبعض كبار أطره الذين سيُستدعون لتحقيقات ماراثونية مع الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، مازالت لم يُسحم في أمرها. عندما قرأتُ هذا الخبر، تبادر إلى ذهني موقفان. الموقف الأول هو الأخبار التي تداولتها الصحف عن التأجيلات المستمرة لاجتماعات "اللجنة المالية بمجلس النواب"، بسبب رفض أنس العلمي، المدير العام ل "CDG"، التواضع والحضور إلى مقر البرلمان للاستماع إلى استفسارات البرلمانين. لذلك استغربتُ كيف أن الشخص صاحب "الشجاعة" لاحتقار البرلمانيين المفروض أنهم يمثلون الشعب، هو نفسه الذي عندما استُدعي على عجل من مقر مكتبه ذات يوم صيفي حار، إلى الخيمة الملكية بأحد شواطئ الحسمية، سيخرج منها مغشيا عليه!
فالمدير العام الذي يتحكم في 185 مليار درهم ولا يأبَه بجحافل "النواب المحترمين" خارت قواه بسرعة عند أول صرخة في وجهه، وكأنما هو المعني بقول الشاعر: أَسدٌ عَلَيَّ وَفي الحُروبِ نَعامَةٌ رَبداءُ تجفلُ مِن صَفيرِ الصافِرِ
أما الموقف الثاني، فهو نابع من تجربتي الشخصية، عندما تحدثتُ مع الملك يومي 15 و16 فبراير 2006 على التوالي، بصفتي المدير العام لشركةSothermy المشرفة على تدبير "حامة مولاي يعقوب" والتابعة ل "CDG" فأجبتُ عن أسئلته وكشفتُ له عن بعض جوانب الفساد الذي وجدتهُ في تلك الحامة الفريدة، والذي تبيَّن فيما بعد أنه أكبر وأخطر مما كنتُ أتصوره على حياة وسلامة المواطنين، (ومنهم من لقي حتفه جراء الإهمال) وقدمتُ للملك ملخصا لمشروع إعادة هيكلتها على أسس علمية وطبية. يومها لم يغمى عليَّ، ليس لأني شجاع، وهي صفة لا أدَّعيها، وإنما لأني كنت مقتنعا ولا أزال أني سأخون مسؤوليتي إن كذبتُ على رئيس الدولة وأوهمته أن الأمور على ما يرام.
باختصار، شرحتُ للملك أن الحامة العصرية لا تقوم بدورها الطبي الذي أنشِأت من أجله، وبعد بضعة أسابيع اكتشفتُ أن المدير الطبي الدكتور رؤوف بلفقيه اشتغل بها 12 سنة بدون رخصة مزاولة مهنة الطب. وشرحتُ للملك أيضا أن بناية الحامة الشعبية لا تبعث على الطمأنينة، بعد أن وصلني أول تقرير لخبرة تقنية يحذر من خطر انهيارها، وبعد ثلاثة أشهر أكدَّت خبرةٌ تقنية ثانية نفس المخاوف، وهو ما يضع علامات استفهام حول عملية إصلاح خضعت لها البناية عام 2002 تحت مسؤولية السيد محمد باصطوص، أحد الأطر المسيِّرة للصندوق والذي تولي أيضا مسؤوليات في شركة CGI صاحبة فضائح الحسيمة اليوم.
كان طلب الخبرة الثانية قرارا لمجلس إدارة الحامة يوم 7 مارس 2006 تحت رئاسة والي جهة فاس بولمان آنذاك محمد الغرابي، بناء على اقتراح من عبد السلام أبو درار، الكاتب العام للصندوق حينها.
انفجرت الفضيحتان، فضيحة الطبيب وفضيحة البناية، فأخبرتُ المدير العام للصندوق، مصطفى الباكوري فالتزم الصمت ولم يطلب تحقيقا في الموضوع، بل كلف محمد باصطوص في مرحلة أولى بتنحيتي من المسؤولية أواخر شهر ماي 2006 ثم أعطى أمره لكي تلفق لي إدارة الصندوق تهمة رسمية غريبة لكي أضطر لمغادرة المؤسسة كلها، وهي تهمة عدم احترام الملك والتحرش بالملك Harcèlement de Sa Majesté le Roi وذلك يوم 15 شتنبر 2006 أي ستة أشهر بالضبط بعد زيارة الملك لمولاي يعقوب.
أما محمد الغرابي وعبد السلام أبو درار فقد ساهما بصمتهما في جريمة الانتقام وجريمة التستر على الفساد. أما مشروع إعادة التأهيل الطبي بشراكة مع كلية الطب بفاس ومع المعهد الوطني للوقاية بالرباط، ومع اللجنة الطبية الموسعة التي أنشأتُها وكان يرأسها عميد كلية الطب البروفيسور مولاي حسن فارح، فقد حرص كل من الباكوري والغرابي على إجهاضه بالكامل بعد مغادرتي، وتلك جريمة أخرى.
راسلتُ الكثير من المؤسسات مطالبا بتحقيق دقيق ونزيه ومرفقا الحُجَج والوثائق، وراسلتُ الملك أيضا عدة مرات ابتداء من أواخر 2007، ولكنه بدلا من أن يتدخل كما فعل اليوم مع شكايات أصحاب مشروع "باديس"، لزم الصمت فاستمر في حماية حراس "صندوق الفساد ". لماذا يا تُرى؟
ومنذ ذلك التاريخ سيعرف مساري المهني والاجتماعي تحولا كبيرا، وطيلة تلك السنوات وإلى اليوم، سأستوعب جيدا معنى أن يظلمك الملك فيقتدي به مَن لا يحكمون على الوقائع إلا تأويلا لرغبات القصر، وسأعبُر وحيدا صحراء شاسعة من النكران والخذلان تعرفتُ فيها على مسؤولين جبناء بلا ضمير وعلى سياسيين منافقين وعلى إعلاميين مراوغين وعلى وزراء متلوِّنين، وعلى حقوقيين مزيَّفين، وعشتُ الإضراب عن الطعام، لكني أزعمُ أني اكتسبتُ المناعة ضد الخوف من قول الحق، وربطتُ علاقات صداقة مع مناضلين شرفاء في داخل وخارج المغرب، في زمن وبلد عزَّ فيه الوفاء للمبادئ.
ثم راسلتُ الملك شهر يوليوز 2011 محتجا على صمته وخاطبتهُ آنذاك قائلا: "فرغم التفسير الرهيب لحاجبك السيد فرج أن تعيينك للسيد سعد الكتاني مكافأة على رضوخه في صفقة بيعه بنك الوفاء لشركتك، ورغم التصريح المدوي لمستشارك السيد الجراري حول مسامير مائدتك والطغاة المحيطين بك الذين يصعب عليك القيام بواجب الإنصاف إن ظلموا أحدا، ورغم إقرار السيد أبو درار رئيس هيأة محاربة الرشوة أن الديوان الملكي نهاه عن تناول ملف مولاي يعقوب، و رغم سؤال البرلمان للوزير الأول... لا حياة لمن تنادي، لم يُفتح تحقيق ولا تمت إعادة اعتبار ولا محاسبة، على عادتك في تكريس الإفلات من العقاب للمستبدين العابثين بالقانون وبالبلاد وبالعباد بعد أن تجاهلتَ وصية ابن خلدون حول مساوئ الجمع بين الإمارة والتجارة وتركتَ الفساد ينخر الدولة والمجتمع."
هناك أتاني الرد على شكل حصار أمني دام عدة أيام لمنزلي ليل نهار، وملاحقة مخابراتية تعد من أشكال الإرهاب الذي تمارسه الدولة الخارجة عن القانون، وإلى يوم الناس هذا، لم يتوفر أحد من المسؤولين على الشجاعة ليجيب على مراسلاتي أو ليفتح تحقيقا ليؤكد مزاعمي أو يُكذِّبها أو يجرَّني للقضاء بتهمة الوشاية الكاذبة. كما أن مراسلات لجنة التضامن إلى المسؤولين، والتي أشكرها وأعتز بكل أعضائها، ظلت كلها دون رد.
من جهته فقد وجَّه البروفيسور مولاي أحمد العراقي في شهر يونيو 2012 رسالة للرأي العام يستنكر "تواطؤ الصمت" في هذا الموضوع، جاء فيها:" إن ما حدث هو أن مدير تلك المؤسسة أصبح متهما رسميا من طرف إدارته العامة بالرباط بعدم احترام الملك وإزعاجه! بينما تمت ترقية الذي لفق له التهمة والثناء عليه !! هذا التصرف لا يكتفي بتزكية الانتقام من المدير الذي دق ناقوس الخطر بل يزكي أيضا إجهاض المشروع التنموي والطبي المقترَح من طرف نفس المدير لإعادة تأهيل مؤسسة مولاي يعقوب. من جهة أخرى استغلت أطراف سياسية هذه القضية للتظاهر بالتضامن ومحاربة الفساد قبيل الانتخابات البرلمانية الأخيرة لتغير فجأة موقفها لما تحملت مسؤوليات وزارية وتلوذ بالصمت." ولكن الملأ الأعلى تجاهلوا الرسالة.
ومؤخرا، عندما كان لي الشرف في المساهمة في تأسيس جمعية "الحرية الآن" التي رفضتْ ولاية الرباط تسلم ملفها القانوني، لجأتْ الوكالة القضائية للمملكة في مرافعتها أمام المحكمة الإدارية، وهي تدافع عن قرار الوالي التعسفي والخارق للدستور والقانون، إلى هذا التبرير السوريالي : " كما أن أحد الأعضاء، وهو أحمد ابن الصديق، معروف بميولاته ونزوعاته المتسمة بالمساس بالمقدسات وثوابت الأمة، وتجد محكمتكم الموقرة صحبته صورة من الرسالة التي نشرها عبر الأنترنيت وموقعه الاجتماعي يعلن فيها صراحة أنه خلع من عنقه البيعة، بل ضمنها عبارات يربأ العارض عن ترديدها امتثالا لواجب الاحترام الواجب التقيد به في التعامل مع صاحب الجلالة، وفق ما شدد عليه الفصل 46 من الدستور الذي نص على أنه (شخص الملك لا تنتهك حرمته و للملك واجب التوقير والاحترام)... ومن جهة أخرى فإن الأدبيات الصادرة عن بعض هؤلاء الأعضاء تمس بثوابت الأمة وتقوض المصالح العليا للبلد".
فهل أصبح الفساد من ثوابت الأمة ليصبح فضحُ الفساد مسًّا بثوابت الأمة؟ وهل الحرص على سلامة المواطنين وصحتهم هو تقويض المصالح العليا للبلاد؟ وإن كنت أسعى لتقويض المصالح العليا للبلاد فماذا ينتظرون لمحاكمتي؟
مناسبة هذا السرد، ليس من أجل التذكير بأحداث ليست هي جوهر الموضوع، وإنما للقول لمن لازال يعتقد أن إرادة الإصلاح موجودة على أعلى مستوى في البلاد، إنك لن تحجب الشمس بالغربال. إن الفساد المؤسساتي داخل مؤسسة عمومية كبيرة مثل "صندوق الإيداع والتدبير"، الذي أردتُ فضح جزء يسير منذ 2006، وأمام رئيس الدولة، (مع طرح البديل والاشتغال عليه) هو نفسه الفساد الذي أطل اليوم برأسه من مشروع "باديس" بالحسيمة، وغدا ستظهر أعراضه في أكثر من مشروع ترعاه أذرع هذا الصندوق الكثيرة. وسنرى ما سيكشف عنه تقرير "المجلس الأعلى للحسابات"، الذي استقبلني في مكتبه أحد قضاته وهو السيد أحمد القاسمي رئيس الفرع الثالث للغرفة الثانية، وسلمتُه عدة وثائق، ولا أدري ما فعل الله به.
إن الفساد داخل هذه المؤسسة التي تتصرف في أموال كثيرة كمدخرات "الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي" و"صندوق التوفير الوطني"، يحتمي بأعلى مستويات السلطة، وإلا من يحمي اليوم الباكوري ضد كل مسائلة عن الاختلالات التي شهدتها المؤسسة في عهده، رغم أنه يستعمل اسم الملك من أجل الظلم وتلفيق التهم الانتقامية؟ هذا الفساد لا تعالجه الغضبات الملكية الانتقائية، فمحاربته يجب أن تكون عبر المؤسسات التي خُلقت من أجل ذلك، وبرلمان قوي، وإعلام حر مستقل، وقضاء نزيه لا يترك الفرصة للقضاء الأمريكي ليقول عنه إنه خاضع للملك، فإلى متى نبقى تحت رحمة "سيف الخليفة وحِلم المستبد"، علما أن حقبة الانفعال والمزاج طبعت حكم أنظمة مستبدة وانتهت بالكوارث.
من مفارقات الزمن المغربي البئيس، أن المؤسسة التي أحدثها سنة 1959رجلان من نبلاء الوطن، عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد، لتكون وسيلة لتعبئة الادخار وتدبيره للمساهمة في بناء مغرب المستقبل، ستتحول في عهد "الافتراس" إلى صندوق أسود يرتع فيه الطامعون، ويشكل نموذجا للفساد المخزني المقدس. .