لا شك أن الخبر سار بالنسبة لبلد ينشغل جزء من طبقته الحاكمة بمشكلة العزوف السياسي للمواطنين. ها قد نفض الشعب عن نفسه غبار العزوف السياسي! يبدو أن قناة الجزيرة القطرية، الواقعة غير بعيد عن قاعدتين عسكريتين أمريكيتين انطلقت من إحداهما الطائرات التي قصفت العراق سنة 2003، نجحت في بضعة أيام فقط في بث الروح السياسية في المواطنين بينما فشل الجميع في إقناع 87 بالمائة من المغاربة المسجلين في اللوائح الانتخابية عن التصويت يوم 7 شتنبر 2007. غاب الشعب يومها وغاب قبل ذلك بخمس سنين حين عين الملك محمد السادس إدريس جطو، وزير الداخلية في حكومة اليوسفي الثانية، وزيرا أول، ضدا على "المنهجية الديمقراطية"، ثم غاب الشعب مجددا سنة بعد ذلك حين أعلن عبد الرحمان اليوسفي انتصار "الأجهزة البعيدة عن المراقبة الشعبية"، في محاضرته الشهيرة ببروكسيل، على كل محاولات الانتقال الديمقراطي مستقيلا من السياسية والحزب ومعتزلا الإعلام. هل كان واردا أن ترجح كفة الشعب ومطالبه العادلة على كفة أعداء الديمقراطية لو تحمل الشباب وغيرهم من فئات المجتمع مسؤولياتهم وخرجوا للإدلاء بأصواتهم والاحتجاج على عدم تعيين وزير أول من الحزب الأول في انتخابات 2002 وللمطالبة بالتغيير بعد هول ما سمعوه في محاضرة بروكسيل، أو للتصويت بكثافة على مرشحي الحزب الاشتراكي الموحد، مثلا، الذي حمل برنامجه الانتخابي لسنة 2007 ما لا يختلف كثيرا عن مطالب حركة 20 فبراير؟ لا شيء يؤكد ذلك سوى – ربما - ما وقع في أكادير سنة 2009 حين خرج الشعب إلى الشارع ليهزم "الأجهزة البعيدة عن مراقبته" ويحرص على إيصال طارق القباج إلى منصب رئيس مجلس المدينة بالتحالف الذي اختاره هو. الحياة السياسية في المغرب معقدة وتفتقد للحدود الدنيا من الجدية، لكنها مع الأسف ضرورية لأي تغيير، ومسؤولية خوضها ملقاة على عاتق الشعب بقدر ما هي ملقاة على عاتق مهنيي السياسة. يمكن أن يستجيب القدر لمطالب شباب حركة 20 فبراير ويعلن فعلا "حل الحكومة والبرلمان"، لكن دون أن يحضر الشعب للتصويت على الأحزاب التي يفترض أن تشكل "حكومة انتقالية مؤقتة تخضع لإرادته"، كما تطالب بذلك حركة 20 فبراير. يمكن أن يستجيب القدر فعلا لشباب 20فبراير ويتم "إقرار دستور ديمقراطي يمثل الإرادة الحقيقية للشعب"، دون أن يتحلى الشعب بالجدية اللازمة لانتخاب النخبة البرلمانية القادرة على تمثيله وخدمته. لا يعني هذا أن الاحتجاج يوم 20 فبراير بدون معنى ولا جدوى، بل هناك أكثر من سبب للاحتجاج، والجميع في حاجة إلى صدمة إيجابية بناءة، اعتبارا – على الأقل – للمكاسب القليلة التي تحققت حتى قبل أن يحل يوم 20 فبراير (ترسيم عمال سيمسي ريجي بعد شهور من الطرد، وعود بتشغيل المعطلين، دعم صندوق المقاصة)! لكن حجم "الأمية" كما يصفها المؤرخ عبد الله العروي في كتابه الأخير "من ديوان السياسة"، يتطلب من الشباب وأعضاء الطبقة الوسطى والنخب تحمل مسؤولياتهم يوميا من أجل "الفطام" عن هذه "الأمية". ف"الجمهور"، يشرح العروي بحكمة المؤرخ، "أمي" يفرز نخبة "أمية" ومن ثمة نظام حكم "الواحد" في سياق "الأمية". والأمية عند العروي ليست جهل القراءة والكتابة بل هي "تربية الأم هي تربية الوالدة المرضع، إنها حلقة وصل بين الطبيعة والمجتمع. بقدر ما هي قريبة من الطبيعة بقدر ما ترسخ في ولدها النوازع الطبيعية: الولاء، الطمع، الخوف". وهي بعبارة أقل تجريدا "مجموع العوائق التي تمنع بلورة الوعي بالمواطنة عند الفرد. أضمن وسيلة لمجابهتها والتخفيف من تأثيرها على المستوى الوطني إقامة ديمقراطية محلية حقيقية، تسلب من الدولة المركزية أجهزة التخويف والتمويه". كيف تنفطم أمة عن الأمية؟ "الأمل معقود على فاعلية منطق المنفعة. لا نعني بالكلمة الصالح العام، الذي لا يتمثل أبدا لذهن الإنسان الأمي. نقصد بالضبط ما يفهمه هذا الأخير من اللفظ، أي النفع الآني العيني. الأمل هو أن يؤدي بالاستصحاب والاستتباع، الظرف الداخلي والخارجي إلى تضمين المصلحة الشخصية معنى جديدا. والأمر غير ممتنع عقلا. كل شيء قد تغير حولنا منذ عشرين سنة. ما هي اليوم، بالملموس، مصلحة الواحد أو النخبة أو الجمهور؟ إلى حد الآن كانت للأمية، بمعنييها، الضيق والواسع، فائدة بالنسبة للجميع. يستفيد منها الواحد لبسط سلطانه والبطانة لتثبيت نفوذها، وكذلك الجمهور. من يبيع صوته أثناء الانتخاب، ألا يستثمر أميته؟ يبرئ نفسه ويتهم غيره. (...) استعملنا لفظ أمل. الإخفاق إذن وارد. البشرية كلها قد تخسر الرهان في نهاية المطاف ضد الطبيعة، ضد الحيوانية، ضد الفناء. حضارتنا قد تخفق إخفاقا تاما إذا لم تتغلب على محنتها الحالية ولا عزاء لها في ثورة العنف". لا شك أن فطاما كهذا يتطلب أكثر من يوم للاحتجاج.