إذا كان هذا المجلس يدعي التأثير في المجتمع فإنني لا أعرف له اجتهادات عميقة، ولا إنتاجات تحظى باعتراف الباحثين في مجال الدين، ولا دراسات في القانون العام... كما لم يسبق له أن ارتبط فعلا بقضايا المجتمع والوطن، ولا واجه فساد المؤسسات أو الأشخاص. أضف إلى ذلك أنه لم يتبن قط قضايا إنسانية أو حقوقية أو اعترض على ما تقوله السلطة أو تفعله، بل ظل دواما تابعا لها، إذ يتكون أعضاؤه من مجموعة من الموظفين الذين لا ينطقون ولا يفعلون إلا ما يؤمرون به. وهكذا، فإن بيان هذا المجلس يمس بصدقية عملية الإصلاح... يسعى "المجلس العلمي الأعلى" من خلال بيانه هذا إلى جعل نفسه وسيطا بين الخالق والمخلوق بهدف تحويل الإسلام إلى مؤسسة يسيطر فيها وبها السياسي على الديني. لكن الإسلام جعل العلاقة بين المسلم وخالقه علاقة شخصية مباشرة، حيث يقول تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب" (الآية 186 من سورة البقرة) و"نحن أقرب إليه من حبل الوريد" (الآية 16 من سورة ق). تبين هاتان الآيتان أن القرآن الكريم يرفض كليا وجود وساطة بين المسلم وخالقه، إذ العلاقة مباشرة بينهما، كما لا يرضى إطلاقا بوجود مؤسسات تحترف الدين وتحتكره. وفضلا عن ذلك، فمثل هذه الظاهرة موجودة في المسيحية، ولا وجود لها في القرآن المجيد ولا في السنة. كما لم يكلف القرآن أحدا بعد النبي (ص) بأن يكون ناطقا رسميا باسمه. ومن يدعي ذلك فهو يسيء إليه إساءة بليغة. فالله غني عن العالمين وليس في حاجة إلى من يدافع عنه. إذا كان الإسلام يرفض الوساطة بين الخالق والمخلوق فإن أعضاء "المجلس العلمي الأعلى" قد خصوا أنفسهم بلباس وهيئة يميزانهم عن بقية المسلمين، فزعموا احتكار العلم والمعرفة وفرضوا أنفسهم أوصياء على المغاربة ووكلاء للمجتمع. وبما أنه ليس من حق أحد أن يحتكر الدين فمن حق كل إنسان أن يدلي برأيه شريطة أن يكون قائما على أدلة شرعية أو عقلية أو هما معا، ما يلزم تجريد هذا المجلس من سلطة الوصاية أو توجيه الاتهام إلى الآخرين باسم الدين... يجب أن يلتزم هذا المجلس باحترام حرية الرأي تجاه كل من يخالفه في النظر الذي لا يكون بالضرورة مخالفا للدين كما يُروَّجُ لذلك. فليس الرأي سلاحا للفتك بالناس، بل هو مجرد وجهة نظر قد لا تكون صحيحة بالضرورة، لكن يلزم الإنصات إليها واحترامها. وهكذا، فحرية الرأي لا تعني سوى حق التفكير. إضافة إلى ذلك، ينبغي أن يقتنع أعضاء هذا المجلس بأن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة بخصوص أحكام الخالق وأن أحكامهم هي مجرد "تأويلهم" الخاص للنص القرآني، كما أنها ليست ملزمة للناس، وعدم الالتزام بها لا يعد مخالفا للشرع. وإذا ما تم التسليم بهذا المبدأ فستختفي ظاهرة احتكار الحقيقة التي تتعارض مع حرية الرأي. إن خطاب هؤلاء إنساني بشري شأنه شأن أي فرع من فروع الخطاب العام، وهو خطاب عن الدين وليس الدين نفسه، ومن ثم فقد يكون خطابا حافزا للتقدم والازدهار وقد يكون محافظا يسعى إلى تكريس الواقع القائم، كما قد يعتقد في إمكانية إعادة إنتاج تجربة الماضي التاريخية الاجتماعية والسياسية فيسعى لنزع صفة التاريخية عنها لتتحول إلى "طوبى " utopie تسعى لفرض نموذجها على الواقع الراهن، ما قد يؤدي إلى العنف. يقوم الإيمان على اللاإكراه، حيث يقول سبحانه: "لا إكراه في الدين". وإذا ما قام الإيمان على الإكراه أدَّى إلى الانحراف في فهم الدين. فالإيمان ينهض على الحب، ولا يمكن أن نجبر فردا على حب فرد آخر. وهكذا، لا يمكن إكراه الإنسان على الإيمان، ومتى أُجبر على ذلك كان إيمانه شكليا. تبعا لذلك، تشكل الحرية شرطا من الشروط الضرورية لبلوغ مرحلة الإيمان العقلي والقلبي السليم، وهي تُمَكّن الإنسان من اختيار حبه وإيمانه. ويرتبط أساس الإيمان القلبي بمستوى الحرية في المجتمع كما يقوم أساس الإيمان الشكلي على الإكراه؛ فهناك علاقة بين عملية اختيار الإيمان وبين المجتمع الذي تتم فيه هذه العملية. إذا لم يستطع الإنسان أن يكون حرا في اختيار إيمانه كان المجتمع الذي يعيش فيه مجتمعا استبداديا. وتؤدي حرية الاختيار في مجال الإيمان إلى بلوغ الإنسان مرحلة الإيمان السليم. وحينما تكون الحرية مفقودة وينتشر الاستبداد يسود النفاق والجبن والكذب في المجتمع. وهذه كلها سلوكات مناقضة للدين وفتاكة بالمجتمع. يلزم أن يقتنع أعضاء المجلس الأعلى بأنهم مجرد كائنات بشرية لا سيطرة لهم على الدين ولا على المجتمع ولم ينتخبهم المواطنون، كما أنهم ليسوا متفوقين على المثقفين القادرين على النظر إلى الدين والمجتمع من حقول معرفية أخرى. على هؤلاء الأعضاء أن يعتمدوا منطقا واقعيا في تطوير رأيهم لحل مشكلات المجتمع وأن يتركوا الساحة لغيرهم إذا وجدوا أنفسهم عاجزين عن تقديم الرأي المناسب، وذلك تجنبا لتوريط المجتمع في فتاوى كارثية. لا ينظر هذا المجلس إلى الدين بكونه قناعة ذاتية، وإنما يسعى إلى جعله واجبا ملزما في خلد الناس. إنه يستبدل القناعة الروحية بفكرة الواجب الديني الملزم. ويعني الانتصار للواجب الملزم إنهاء دور العقل والضمير الأخلاقي والحرية، وجعل المظاهر الشكلية للعبادة الأساس الذي تُبنى عليه قيم المجتمع. وعندما تخرج القيم الإنسانية عن إطار كل من النظر العقلي والقناعة الذاتية فإنها تُحَوِّل البشر إلى قطيع، كما أن غياب المنطق والقناعة يحول دون استناد الإيمان على برهان! وهكذا، فهم لا يعرفون أن الإسلام عندما قرر وأكد التوحيد لله تعالى فإنه أكد أن هذا التوحيد له وحده وأن إفراد الله تعالى بالوحدانية يستتبع التعددية فيما عداه وإلا اشترك ما عداه معه في وحدانيته وهو يقول "لا شريك له" و"لا إله إلا الله". ومن هنا فالمجتمع الإسلامي، على ما قد يبدو في ذلك من مفارقة، هو مجتمع للتعددية وما يستتبعه هذا من احتلاف وديمقراطية. وقد كان الرسول (ص) هو أول من قرر في وثيقة الموادعة مجتمعاً تعدديا يعتبر أن المهاجرين والأنصار واليهود المتحالفين مع الأنصار أمة واحدة للمؤمنين دينهم ولليهود دينهم. أما الديمقراطية فهي نسق سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي لا يخضع أبدا لأي تصور جامد؛ إنها عمل مستمر من أجل استكمال شكل نهائي لا يمكن إنجازه أبدا، حيث تحدث مجاوزة الحاضر لهزيمة الماضي ويُجاوز المستقبل الحاضر بشكل دائم. وتكتسب الديمقراطية ديناميتها من خلال الجدل بين المساواة والحرية، ومن هنا يبدأ التناقض بينها وبين الإيديولوجيات القائمة على النزعات العرقية أو المذهبية أو الدينية أو الطبقية. يمنح بيان المجلس الأعلى مفهوم "الشورى" صفة البديل أو المشابه لمفهوم الديمقراطية لترسيخ الاستبداد السياسي ومنحه سندا شرعيا. فعندما نتأمل التاريخ نجد أن مفهوم الشورى هو مصطلح لنظام دنيوي تاريخي المسار وثيق الصلة بسياسة الحكم، انبثق من بيئة معينة وظهر في مجتمع ملائم له. لقد عرف عرب ما قبل الإسلام مفهوم الشورى وعملوا به (دار الندوة في مكة)، كما استعاره الإسلام منهم على غرار مجموعة من المفاهيم والأنظمة والأمور العَقَدية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والعقابية والاجتماعية والحربية (عبد الكريم خليل، الجذور التاريخية للشريعة). أما النظام الديمقراطي فيقوم على الانتخاب الحر العام من القاعدة إلى القمة لاختيار أعضاء السلطة التشريعية والمؤسسات التمثيلية والتنفيذية، بمعنى انتخاب ممثلي الشعب باعتبارهم ناطقين باسمه وساهرين على مصلحته التي هي مصلحة الوطن بأسره. ويشكل حكم الشعب بالشعب لصالح الوطن والشعب نظاما إنسانيا راقيا يختلف اختلافا جوهريا عن نظام الشورى الذي يتعارض بطبيعته مع مضمون النظام الديمقراطي ويتنافر معه نظرية وممارسة. ولا يجب إعطاء نظام الشورى الذي بقي مجمدا في الفهم والممارسة القديمين صفة النظام الديمقراطي الإسلامي، كما لا ينبغي إحلاله محله أو قول: "إن الوسيلة العصرية لتحقيق الشورى هي الديمقراطية"، مثلما يدعي البعض وتنشره الأقلام التي تدعو إلى إقامة نظام حكم على أسس دينية. ففي إطار النظام القبلي الأبوي الذي رسخ "النظرية الرعوية"، وبموجب نظام الشورى، يأخذ شيخ القبيلة برأي الخاصة فقط، وقد يعمل به وقد لا يعمل. كما أن القول الفصل بعد المشورة لا يكون للأغلبية، بل يعود إليه وحده باعتباره صاحب الحق في اتخاذ القرار، إذ لا حساب لرأي بقية أفراد القبيلة ولا قيمة له عنده. ويعني منح مفهوم الشورى صفة البديل أو المشابه لمفهوم الديمقراطية تمييع المفاهيم وخلط الأوراق، ويساعد على ترسيخ الاستبداد السياسي ومنحه سندا شرعيا؛ فنظام الحكم في تاريخ المجتمع الإسلامي كان فرديا قائما على نظام الراعي والرعية، حيث كان الحاكم وحده هو صاحب الصلاحية والحق الإلهي في تدبير شؤون الأمة وسياسة الرعية. ولتأخرنا في جميع مناحي الحياة يتحتم علينا التخلي عن هذا المفهوم التاريخي وإقالته وتجاوزه وتحويل مجتمعنا إلى مجتمع يعتمد قيم التعددية والحداثة والديمقراطية وكل بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمساواة بين الشعوب وبين الجنسين والانفتاح الثقافي... ويلزم ألا يكون الحاكم فيها راعيا، بل مواطنا مثله مثل بقية المواطنين ومسؤولا عن أعماله أمامهم، كما ينبغي التخلي عن الجانب الثيولوجي التقديسي لشخصه. لقد أثبتت الديمقراطية أنها أفضل نظام للحكم، حيث عاد على الشعوب التي اعتمدته بالتقدم والرخاء. إنها ليست فقط صناديق الاقتراع، بل منظومة كاملة أساسها حرية الاختيار في الدين والعقيدة والملبس، كما أنها حرية التعبير عن الآراء السياسية دون اضطهاد أي فكر حتى لو كان فكرا لا دينيا. إنها المساواة الكاملة بين البشر بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين. وفوق ذلك، ليس في الديمقراطية ثوابت ولا قدسية لا للأفكار ولا للأشخاص سواء السلف الصالح أو الأجيال الحالية. وعندما يريد مجتمع معين الديمقراطية، فلابد أن يبني مؤسساتها ويستخدم آلياتها ويوافق جميع أفراده ومكوناته على أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين. الديمقراطية أسلوب حكم، كما أنها علاقات إنسانية قائمة على الحرية واحترام إرادة الإنسان الحرة التي لا تقيدها نصوص تفسَّرُ حسب فهم وأهواء لا يمتان إلى الواقع بصلة. وإذا كانت الديمقراطية حكم الأغلبية فهي كذلك احترام لرأي الأقلية إَضافة إلى أنها أسلوب إنساني لا يجب خلطه بأحكام إلهية أو تقديسه. إنها فضاء سياسي يبيح استعمال كل الأسلحة إلا أسلحة التقديس والكذب والقتل وما شابهها. وهي قبل كل شيء اتفاق بين الأحزاب للحكم في إطار أسلوب لا يمكن الانقلاب عليه أو الإخلال به تحت أية ذريعة. يعتبر بيان "المجلس العلمي الأعلى" احترام الحريات المدنية والفنون... مؤديا إلى الفساد الأخلاقي. لكن ما لا يعيه الفقهاء هو أن الهاجس الأخلاقي لم يمت في المجتمعات الحداثية، كما أن المواطن لا يحترم القيم نتيجة للإكراه، بل إنه استضمرها عن قناعة فتحولت إلى صوت نابع من داخله. وبذلك انتهت مرحلة النفاق وانعدام المسؤولية الشخصية التي كانت سائدة من قبل. وإذا نظرنا إلى المجتمعات الغربية الحديثة، فإننا نجدها تتميز بالحرص على المصلحة العامة وكأنها مصلحة شخصية، كما أنها تمتلك الشعور بالواجب والمسؤولية وإتقان العمل واحترام الآخر... هكذا، فالوازع الأخلاقي لم يختف في عصر الحداثة، بل إن تعمقه فيه هو ما يفسر نجاح مجتمعات الغرب وتفوقها علينا علميا وتكنولوجيا واقتصاديا وديمقراطيا...