المغاربة عانوا في سنوات الرصاص من وزير الأوقاف العلوي المدغري الذي حارب الديمقراطيين بالذراع الوهابي والإخواني وعبد لهم آنذاك الطريق في الكليات وبمراكز القرار الديني في إطار الحرب التي خاضتها الدولة ضد الديمقراطيين وضد الحركة اليسارية عموما، وهم اليوم لم تعد لهم القدرة لتحمل وزير آخر في الأوقاف يعبد الطريق للطائفية ويرخص بردم المالكية وينسف الملكية. هل انتهت مهمة أحمد التوفيق كوزير للأوقاف والشؤون الإسلامية؟ سؤال يستمد وجاهته من التصريح الذي أدلى به الوزير التوفيق لجريدة «الأحداث المغربية» في حوار مطول نشرته يوم الخميس 23 ماي 2013. إذ لم يتردد أحمد التوفيق في القول «بأن تغيير الدين أو المذهب من حرية الإنسان». وتناسى الوزير أن الملكية بالمغرب مبنية بالأساس على المذهب المالكي. وإذا قلنا بحرية المذهب فمعنى ذلك نسف الملكية بالمغرب بالنظر إلى أن ضرب المذهب المالكي هو ترخيص لاستنبات وزرع نظام آخر للحكم.. أي أن التوفيق تحول من حريص على ثوابت المغاربة إلى وزير ينظر لنظام حكم آخر. وهذا ما يخدم توجه الأصوليين المرتبطين بأجندات الإخوان المسلمين أو الوهابيين أو حتى الشيعة، بدليل أن الالتقاء السياسي لا يفيد بالضرورة الالتقاء المذهبي. فقد يبايع هؤلاء الملك كملك، ولكن بخصوص إمارة المؤمنين فلهم رأي آخر، وما النقاشات الصاخبة التي رافقت إعداد دستور 2011 ببعيدة عنا، حيث انتصب آنذاك العديد من سفراء الوهابية والخوانجية لتقويض نظام إمارة المؤمنين ليستفردوا بالحقل الديني أثناء صياغة الدستور، وهو ما فطن إليه المشرع الدستوري. فالمواطن قد يفسر الخلاف بكونه اختلافا مذهبيا عاديا، في حين أن المراقب اللبيب سرعان ما يربط هذا التدافع بالصراع الجيوستراتيجي المرتبط بمناطق النفوذ بالشرق الأوسط، وهي المناطق التي تغذيها ثلاث قوى دينية متباينة. الأولى سعودية (التيارات الوهابية)، والثانية قطرية (الراعي الأول لتيار الإخوان المسلمين)، والثالثة إيرانية (حاملة المشعل الشيعي).
وبدل أن يتمسك الوزير أحمد التوفيق بالمذهب المالكي، بل ويحرص على إخبار الرأي العام الوطني بإستراتيجية الدولة لضمان إشعاع هذا المذهب بالعالم الإسلامي إسوة بما تقوم به القوى الإقليمية الأخرى لنشر تياراتها، نراه ينبطح ويرخص للتعدد المذهبي بالمغرب متناسيا أن المغاربة لهم موروث ثقافي لا يمحى وهو كونهم حاملو جينات سلالة كانت تحكم في خريطة تمتد من طنجة إلى غامبيا جنوبا ومن أنفا غربا إلى حدود ليبيا شرقا وتمتد من جبال الأطلس إلى جبال الألب بأوربا. وإذا كتب للمغاربة أن ينكفئوا في الجغرافية، فإن التوفيق «زاد الخل على الخميرة» وأراد للمغاربة أن ينكفئوا أيضا في المذهب الخاص بهم.
فالخلاف الديني أرحم من الخلاف المذهبي، على اعتبار أن الخلاف في المستوى الأول يحسم النقاش في كون ذاك مسلم وذاك مسيحي أو يهودي، أما جر المغرب وجر القوى الديمقراطية إلى ملعب الطائفية والمذاهب فذلك لا يقود إلا للمجهول وإلى تحويل المغرب إلى محميات: محمية السعودية ومحمية قطر ومحمية إيران ولم لا محمية سلطنة عمان أيضا، إذ انتصبت مجموعة ما واعتنقت الإباضية!
إن الوزير أحمد التوفيق حينما تحدث عن حرية تغيير المذهب، فتلك دعوة تقود إلى مساءلته عن أي وجهة يريد أن يدخل إليها المغرب؟ وهو بذلك يعطي الرخصة ليرفع كل واحد مرتبط بأجندة وهابية أو إخوانية أو شيعية (أو حتى مورمونية إن وجدت!) شعارا جديدا: «أبشروا يا سادة، فالمغرب استبيحت أرضه وأضحى دولة طائفية على حد تعبير الوزير التوفيق!»، «أبشروا يا سادة، فبالإمكان أن نستورد مذهبا من السعودية لإسقاطه على المغرب يمنع المرأة من قيادة «الطوموبيل» فأحرى أن تسير شركة أو مستشفى أو منجما أو كلية.. وبالإمكان أن نستورد مذهبا من مصر هو أقرب إلى التحجر منه إلى الاجتهاد.. وبالإمكان أن نستورد مذهبا من إيران لا يؤمن لا بالقياس ولا بالاستحسان ولا بالرأي والمصالح ولا بالانفتاح...».
إن أحمد التوفيق لم ينسف فقط مؤسسة إمارة المؤمنين بانكفائه وانهزامه أمام المذاهب الأخرى، بل أساء الأدب حتى مع أمير المؤمنين حين اشتكى لنفس الجريدة بأنه لا يتوفر على المال لصيانة بيوت الله.. إذ لو طرق «الدار الكبيرة» لما بخل عليه أمير المؤمنين بالمال علما أن حرص الوزير التوفيق على تضخيم الشكوى بتضخيم الرقم في 7 مليون متر مربع كمساحة للمساجد وبكونها تحتاج إلى المال للصيانة كان حجة ارتدت عليه، لأن العقل الهندسي والمالي المغربي الذي ابتكر آلية لبناء 2 مليون متر مربع بالقطب المالي بالدارالبيضاء أنفا لن يعجز إطلاقا عن ابتكار مونطاج مؤسساتي ومالي لصيانة وليس لبناء 7 مليون متر مربع من المساجد بالمغرب ككل، علما أن قطب أنفا لا تتعدى مساحة تهيئته 300 هكتار!. وهذا ما يقود إلى تغيير بنية السؤال: هل فعلا لا يملك أحمد التوفيق المال أم يريد المال لتوزيعه على المؤلفة قلوبهم من الدائرين في أفقه الفكري والأيديولوجي؟
فالمغاربة عانوا في سنوات الرصاص من وزير الأوقاف العلوي المدغري الذي حارب الديمقراطيين بالذراع الوهابي والإخواني وعبد لهم آنذاك الطريق في الكليات وبمراكز القرار الديني في إطار الحرب التي خاضتها الدولة ضد الديمقراطيين وضد الحركة اليسارية عموما، وهم اليوم لم تعد لهم القدرة لتحمل وزير آخر في الأوقاف يعبد الطريق للطائفية ويرخص بردم المالكية وينسف الملكية.
عبد الرحيم أريري، مدير نشر أسبوعية «الوطن الآن» العدد 521- سياسة الخميس 30 ماي 2013