قررت أن أكتب إليك في الذكرى السادسة لرحيلك... لا أن أكتب عنك، الذين فعلوا وكتبوا عنك، اكتشفت أنهم يحبونك ميتا، ليقولوا: لقد كان منا، وكان لنا... كتبوا كثيرا عن قربهم منك حين بدأوا بغزل حبال الابتعاد عنك، حين أداروا ظهورهم للمرتفع الصغير الذي يتربع عليه قبرك المرمري وأسقطوا تاريخ رحيلك من لائحة الأعياد في هذا الوطن. أكتب إليك كي أشي بالرفاق، بالذين حملوا منك وعنك كل تلك الأسفار والمخطوطات التي رسمت بها خريطة البلاد في خطوها الحثيث نحو نور يضيء زوايا العتمة ... حملوا أسفارك وأشعارك ليركنوها في أول منعرج يفتح لهم شهية السلطة ولذة الجاه.
أكتب إليك كي أخبرك عن حال الوطن، عن جغرافيا الربيع الذي اصطدم بمظلة الخصوصية فنبت ورد الدستور على شبهة توصياتك... ما الوجيه في توصياتك؟ أو ما الذي لم يكن وجيها وأنت تحفر بإزميل التاريخ والسجن وآلام النساء اللواتي عانقت دموعهن في جبال مولاي بوعزة، والشيوخ الذين حملوا أتربة الزنازين والمعتقلات وعيون المهدي وهي ترقب خطوك من رصيف مقهى ليب والعجوزان اللذان شاخا على حب بعضهما وانتظار ابنهما المانوزي ... ما الذي لم يكن وجيها، غير رغبة الرفاق في محاصرة طيفك كي لا يعدو أن يكون ذكرى وشريطا طويلا للحديث يليق بالسمر النضالي رفقة ما بقي من الجلاد؟
أكتب إليك أيضا كي أخبرك بأنه في سجون الوطن ما يزيد عن المائة وخمسين سجينا سياسياً، شباب صدقوا تاريخك فاتبعوه، خرجوا ضد النسيان الذي قصه الآخر والرفيق من قد ألمك، بعثروا هذا الانقياد الأعمى نحو وطن الصوت الواحد، ليؤسسوا حدائق مزروعة بأغانيهم الجديدة، لكنهم اقتيدوا نحو غياهب المعتقلات بتهم بيع الحشيش... بعضهم الآن مضرب عن الطعام كي يسمع صوته لمن تركته وصيا على حريتنا
الكتابة إليك شرود ومتاهة، رغبة في نفث كل الوطن على مسامعك، تم الابتعاد عنك كي أترك لك فرصة غربلة هذا المشترك المدنس الذي تركته بيننا وبينهم... آمنت بك لحظة صمودك ضد الانغلاق، وقدرت في نفسي أنه لن تعود لكلمة اعتقال سياسي في هذه البلاد من معنى... ذهبت إلى حال سبيلك، وفتحت الزنازين أبوابها كي تبتلع شبابا لا اسم و لا هوية لهم غير كونهم معتقلين... ونبت شهداء آخرون في مزهريات الذاكرة ولازال الجنبرالات وأصحاب السياط في السجون والمعطلون والشرطة التي تداهم المنازل في الخامسة صباحا وبعض الرفاق يموتون جوعا وآخرون ماتوا ... لأنه كان عليهم أن يموتوا
لا أدري إن أصخت السمع في الثاني من ماي هذا، لحوافر دابة وهي تهشم شاهد قبرك المرمري... كان الحجر الذي كسر الشاهد شاهدٌ على الجريمة... لكنهم أصروا على أنها حوافر دابة... أدركت لحظتها أنك قُتلت للمرة الثانية، وأنه من الواجب أن أهرب ذكراك نحو عمق الفؤاد، لأصرخ بك عميقا في غضب هذه البلاد. سيسيرون عكس ما اشتهيت واشتهينا معك، سيبنون وهم حداثتهم ومصالحتهم وحكامتهم، وحين سينهار آجور التنطع على رؤوسهم وبعض من رؤوسنا، سيدركون أنه كان عليهم أن يحبوك وأنت حي... كان عليهم أن يعترفوا بك أنك منهم...