كان يلزم مقتل خمسة أشخاص على إثر انهيار منزل بالمدينة القديمة بالبيضاء لتتجاوز السلطة العمومية التكلس البيروقراطي وتوافق على الترخيص لإنفاذ تصميم استثنائي (Derogation) لإيواء 312 أسرة مهددة بدورها هي الأخرى بالانهيار بدرب خليفة بعمالة بنمسيك.
ذلك أن الوالي الجديد للدار البيضاء محمد بوسعيد لم يستوعب لماذا «تركَد» مصالح الولاية والوكالة الحضرية والجماعة الحضرية على ملف إعادة إسكان سكان درب خليفة رغم وجود المونطاج المالي والمؤسساتي ووجود المستثمر الذي قبل بإنجاز المهمة في ظرف زمني معقول ورفضت منح رخص الاستثناء لهذه القضية، علما بأن رخص الاستثناء الممنوحة لبعض كبار المنعشين وكبريات شركات المقربين من دوائر القرار يتم التوقيع عليها في رمشة عين!
سنوات الرصاص الحضري
الكارثة الإنسانية التي وقعت بزنقة خروبة جعلت الوالي بوسعيد يستشيط غضبا في الاجتماع الذي احتضنته الولاية يوم الجمعة 18 ماي 2012 بحضور كل المصالح العمومية المعنية ووقع على المحضر فوق المقعد (séance tenante) للسماح بترحيل درب خليفة.
لكن إذا كان أمر ترحيل 312 عائلة بدرب خليفة استدعى انتظار مقتل خمسة مغاربة، ترى كم يلزم من وقت لترحيل 8000 عائلة تقطن بالمدينة القديمة يتطلب وضع أحيائها المتآكلة إعادة إيوائهم حالا!؟ وكم من وقت يلزم لترحيل 37 ألف عائلة بعمالة الفداء و6000 عائلة بدرب غلف و600 عائلة بدرب لقطع ولد عايشة؟ بل كم يلزم من الوقت لإعادة إيواء سكان الكهوف والمغارات ببني ملال وسكان الأنسجة المتقادمة بفاس ومكناس وأسفي وأزمور وغيرها؟ لن نطرح السؤال على حكومة بنكيران، لأن قراءة البرنامج الحكومي تعري هذه الحكومة، حيث لم نعثر على أي ملامح لسياسة عمومية خاصة بالأحياء المتقادمة والدور الآيلة للسقوط بالمغرب في برنامجها، وبالتالي لم يتم رصد أي اعتماد في القانون المالي لهذا الملف من جهة، ولم يتم إعداد أي مونطاج مؤسساتي (مثلا خلق وكالة أو هيأة مكلفة فقط بالدور المنهارة أو تلك المتداعية للانهيار)، بمعنى لم تحرص هذه الحكومة على تحديد من يقوم بماذا (Qui fait quoi). ولن نسائل الأحزاب التي -بالعودة إلى برامجها الانتخابية- لم تدرج قنبلة الأحياء المتآكلة في برامجها سواء في الانتخابات الوطنية أو المحلية... ولكن سنسائل من ما زال يحمل جينات إنسانية في أفق خلق رأي عام مضاد لحث الأجهزة المركزية على إدخال هذا الملف في رادار السياسات العمومية.
فمن يتكلف بالمدينة القديمة مثلا اليوم؟ هل صوناداك أم الوكالة الحضرية أم البلدية أم الجهة أم الولاية أم وزارة الداخلية أم رئاسة الحكومة؟ فالوكالة الحضرية هي جهاز تقني مكلف -حسب الظهير- بإعداد وثائق التعمير بالدار البيضاء، وهي مهمة أصلية لم تقم بها الوكالة لحد الآن (انظر العدد 472)، فأنى لها أن تنجز مهمة أعقد وأصعب، ألا وهي تأهيل المدينة العتيقة؟
وصوناداك شركة خلقها المشرع في عهد المرحوم الحسن الثاني لإنجاز مهمة واحدة ووحيدة ألا وهي التجديد العمراني بمحيط مسجد الحسن الثاني مع ما يعنيه ذاك التجديد من إعادة إيواء سكان المدينة القديمة (خارج السور) وتهيئة المحج الملكي الحاضن لكبريات الشركات والفنادق والمطاعم وتهيئة كورنيش المسجد. لكن ما أن مات الحسن الثاني حتى تم إعادة ترتيب الأولويات وأسقط ملف تهيئة المحج اللكي وتجديد النسيج العمراني بالمدينة القديمة من أجندة الدولة، لدرجة أن كل الحكومات المتعاقبة (اليوسفي، جطو، عباس، بنكيران) لم تدرجه في برامجها أو قوانينها المالية، وأصبح مسجد الحسن الثاني بمثابة «خازوق» مزروع وسط تلك الفظاعات العمرانية بدون أن يتمكن من لعب دور الرافعة الحضرية التي بإمكانها جر البيضاء (والمغرب عموما) نحو الأحسن والأرقى رغم أن المغاربة تعرضوا لأبشع أنواع الابتزاز في عهد إدريس البصري لمص حوالي ألف مليار لبناء هذا المسجد. وبدل أن يتم طي سنوات الرصاص الحضري والعمراني وتحويل هذه المعلمة إلى منارة مغربية (بل ودولية)، تمت المبالغة في سياسة احتقارالمغاربة عبر تخلي الأجهزة المعنية (مركزيا وجهويا) عن فتح نقاش عمومي حول مآل ملف المدينة القديمة ومن سيمول العملية وكيف وأين ومتى؟ (انظر ص 9).
والبلدية غارقة في الصراعات والتطاحنات الشخصية بين الأعضاء لدرجة أن «ياجورة» لم تتم إضافتها بالدار البيضاء منذ انتخاب هذا المجلس البلدي المشؤوم، بل لم يتم نصب ولو عمود إشارة ضوئية أو فتح مركز صحي أو حديقة صغيرة بهذه المقاطعة أو تلك أو تهيئة ساحة عمومية، فأحرى أن يباشر المجلس البلدي ملف كبير من حجم المدينة القديمة وعمالة الفداء. 16ماي
أما الجهة والولاية فهمهما الأساسي هو أن لا يتم إقصاؤهما من البروتوكول الملكي أثناء التدشينات أو !! استقبال الضيوف الأجانب بالمطار
في حين نجد أن وزارة الداخلية منشغلة ب 20 فبراير وتناست 72 ألف عائلة مهددة بأن تدكها المنازل المتقدمة بدرب السلطان والمدينة القديمة.
أما رئاسة الحكومة، فتلك هي الطامة الكبرى، إذ يحلو لهذه الرئاسة الحديث عن سكان قندهار وحلب وحلبجة وسبأ في تجاهل مطلق لسكان درب الإنجليز والسبانيول ودرب مولاي الشريف ودرب الطلبة والحفرة، وكأن الذين صوتوا على بنكيران هم سكان أفغانستان وسوريا والعراق واليمن.
إذا كانت أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية قد فجرت صحوة عمومية بملف الصفيح وأثمرت تلك البرامج الخاصة بمحاربة دور الصفيح، فالأمل أن يفجر حادث انهيار منزل المدينة القديمة ليلة 16 ماي 2012 (يا للصدف الماكرة!) صحوة عمومية لوضع سياسة خاصة بالدور الآيلة للسقوط وتحديد من سيقوم بماذا، حتى نتفادى غدا أو بعد غد سماع خبر آخر أليم بسقوط جماعي للدور على من يقطنها.
الخميس 24 ماي 2012 العدد 475 ينشر في "كود" باتفاق مع الناشر