طيلة السنوات الأخيرة أمطرنا الخطاب الرسمي والغير الرسمي بالحديث عن التسامح والتعايش وقيمهما، وفي كل مناسبة يأتي أساقفة الكنيسة الأجانب وأحبار اليهود ليقفوا أمام الكاميرات لتأكيد تلك الحقيقة, والكل يتذكر الصورة التي تم الترويج لها داخل كنيسة الرباط بحضور مسؤولين مغاربة بعد أحداث 16 ماي الإرهابية لتسويق خطاب التسامح. وكان جل الحداثيين والديمقراطيين يأملون أن يتحول الشعار إلى واقع معاش، وأن تسمح الوثيقة الدستورية كأسمى قانون للبلاد بحرية المعتقد بعد أن أكدت على معتقد الحرية. لكن خاب الأمل وتأكد أن الشعارات بعيدة كل البعد عن الواقع وأن الكثير من الخطابات الدينية والمبادئ الديمقراطية لا يتم اللجوء إليها إلا لتسخيرها لخدمة شرعية السلطة الحاكمة ونظامها الثيوقراطي الموغل في التقليد، بل صار الدين قيمة لشيطنة المطالب بالحقوق وتسفيه الحركات الإحتجاجية كما هو حال حركة 20 فبراير التي نعث كثير من شبابها ب"وكالين رمضان" سعيا للتنقيص من قيمتهم المجتمعية وتنفير معشر "المؤمنين" منهم.
ليس ذلك فقط، لبل إن الدولة تعاملت من قبل بانتقائية مع المواثيق الدولية سواء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية اللذان ينصان على حرية العقيدة، ورغم أولويتهما على القانون الوطني لكن يتعامل معهما بمكيالين حين يعطى للقانون الوطني امكانية أن يتدخل لتنظيم جوانب من هذه الحرية بما يتلاءم وخصوصيته المزعومة.
وهكذا في بلدنا تنقلب المبادئ إلى أضدادها في الممارسة, فإذا كان القانون الجنائي يعاقب كل من عرقل حرية ممارسة الديانة، ولا يعاقب على اعتناق دين غير دين الدولة الإسلامي، ولا ينص على جريمة اسمها «الردة»، بل ويعاقب كل من أقدم على عرقلة الشعائر الدينية للآخر، فإنه بالمقابل يعاقب من اختار غير دين السلطة وبمبرر زعزعة عقيدة مسلم رغم أن القانون الجنائي المغربي لم يحسم في تجريم الخروج عن الدين الإسلامي أو ما يصطلح عليه دينيا ب« الردة»، وهنا يكمن الإنفصام بين الممارسة والخطاب.
فالفصل 220 المتعلق بالجرائم المتعلقة بالعبادات ينص على أنه «من استعمل العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبادة ما أو على حضورها أو لمنعهم من ذلك، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم. ويعاقب بنفس العقوبة كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو المياتم، ويجوز في حالة الحكم بالمؤاخدة أن يحكم باغلاق المؤسسة التي استغلت لهذا الغرض، وذلك إما بصفة نهائية أو لمدة لا تزيد عن ثلاث سنوات".
والفصل المذكور هو الوحيد الذي ينص على الجريمة التي يطلق عليها «زعزعة عقيدة مسلم وتحويله إلى ديانة أخرى»، لكنه يتحدث أيضا عن استعمال العنف والإكراه والإغراء دون أن يتحدث عن الإرادة الحرة لأن المشرع يفترض في كل المغاربة أنهم مسلمين رعايا أمير المؤمنين حامي الملة والدين من حيث المبدأ، ولا يستثني منهم غير المغاربة اليهود من دون معتنقي الديانات الأخرى كالمسيحية أو البوذية بل وحتى المذاهب والطرق الإسلامية الأخرى كالمذهب الشيعي وأيضا البهائي، وإن كانت هذه الطوائف بدورها تدين بالولاء لأمير المؤمنين.
عدم الوضوح في الموقف القانوني يعتبره البعض حيلة لتحويل التهمة بالردة كتهمة دينية إلى تهمة سياسية لأنها في حقيقتها حيلة سياسية للنظام السياسي وهو ما تجلي في نظره في قضية البهائييين في سنة 1962 وحل الحزب الشيوعي المغربي سنة1960 الذي تم استنادا إلى خطاب ملكي...
ومع غموض النص القانوني، فإن النيابة العامة عادة ما تلجأ لترحيل الأجانب الذين يتم ضبطهم بممارسة التنصير في حين أن المغاربة يتابعون بتهمة زعزعة عقيدة مسلم كما هو الحال بالنسبة للموسيقيين الشباب (ملف ما يسمى عبدة الشيطان)الذين توبعوا ب «مسك وعرض وتقديم أشياء منافية للأخلاق العامة»، وقررت المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء آنفا إدانة الشبان ال14 بعقوبات تراوحت بين شهر واحد وسنة واحدة حبسا نافذا، مع أداء كل منهم لغرامة تتراوح بين 500 درهم وثلاثة آلاف درهم، لكن محكمة الإستئناف ستقرر تبرئة ساحة 11 شابا من بين المتابعين ال14 في قضية وتخفيض الحكم الابتدائي من سنة حبسا نافذا إلى 45 يوما في حق المتهمين الثلاثة الآخرين، مع إلغاء قرار ترحيل متهم مصري من المغرب.
قضية حركة البهائيين المغاربة مثالا صارخا على مدى حرية العبادات وإقامة الشعائر الدينية، وعرضت على أنظار محكمة الناظور، و توبع ثلاثة عشر بهائيا من المغاربة وآخر سوري الجنسية بتهمة التمرد والقيام بأعمال الشغب والمس بالأمن العمومي وتكوين عصابة إجرامية والمس بالعقيدة الدينية، وأدين بعضهم بأحكام جد قاسية في حين تمت تبرئة البعض الآخرين..
إن حرية المعتقد تضع القانوني في محك السياسي والمرتبط باشكاليات أعمق ذات علاقة بالشرعية الدينية للسلطة الحاكمة التي لا يهمهما ليس الإسلام بعينه وإنما مذهبها في الإسلام, ولا تتعامل بالتسامح الواجب والمفروض مع الفرق الإسلامية الأخرى داخل المذهب السني نفسه, ناهيك عن المذهب الشيعي ليس بمبرر ديني ولكن لغرض إدامتها واستمرارها في التحكم في رقاب العباد بما يتيحه لها اجتهادها داخل منظومتها المذهبية والطرقية دون غيرها، مادام هناك تنازعا وصراعا على الشرعيات من داخل نفس المنظومة الدينية نفسها.
الردة على حد تعبير جمال البنا ليست قانونا اسلاميا وليست من النصوص الأصلية في شيء، لذلك فإن الإسلام يعطي الحق للفرد في الإختيار بين الإسلام وغيره لأن الإعتقاد موقف شخصي حر ليس من حق السلطة ولا المجتمع التدخل فيه بل على الدولة حماية ممارسة الطقوس والشعائر الدينية ورعاية أماكن العبادة.
ذلك ما تفوقت فيه الدولة المدنية التي تحمي الدين وتحمي حرية المعتقد انطلاقا من احترام عقيدة الحرية, وديمقراطيتها تستمدها من حمايتها للدين نفسه وسن القوانين لمنع استعمال الدين في السياسة ورسم الحدود بين المجالين بشكل تحول معه دون استغلال الأول في مجال الثانية, بل وتحمي الأديان من غير المتدينين ومن سيطرة إحداها على الأخرى, ولذلك فإن الدولة الدينية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون دولة الحريات لأن الديمقراطية لا يمكن أن تتوطد في دولة الشريعة، ويستحيل أن يتعايش فيها معتنقو باقي المذاهب ومواطنوها ممن اختاروا دينا آخر أو شاءوا أن يكونوا لادينيين.
إن المواطنة الحقة لا يمكن أن تعاش إلا في مجتمع يعترف بأن الدين لله وحده ولا يمكن أن يكون مصدر شرعنة أي نظام حاكم أو حزب سياسي لأن ذلك سيجعله يستمد شرعية سلطته من السماء ويصبح ظلا لله في الأرض، بدل أن يستمدها من الأرض نفسها ومن الشعب الذي يفوض له تسيير أمور دنياه دون آخرته. ولذلك تركز المواطنة بمفهومها الحداثي على المختلف فيه وليس ما يوحد ولو كان دينا أو لغة أو عرقا, وغدت تعني الرغبة في العيش المشترك بغض النظر عن تلك الإنتماءات التي تفرق بين بني البشر ويستحيل أن تجمع بينهم، بل قد تكون سببا في تطاحنهم.
لذلك فحين لا تعترف الدولة ومعها المتعصبون لفهم ما للدين بحرية المعتقد, فإنهم بذلك يدقون المسمار في نعش عقيد الحرية ويضربون عرض الحائط بأسمى مبادئ الدولة الديمقراطية وهو أن «الدين لله والوطن للجميع» متناسين أن بنيان الدولة يكون متينا بالديمقراطية وباحترام عقيدة الحرية وضمنها حرية المعتقد وليس بقوة السلطة وأدلوجتها.