في سياق الملف «حرية المعتقد في المغرب» الذي نشر ضمن ملحق الثقافي ليوم أمس الجمعة ، خص الباحث والحقوقي مصطفى الناوي جريدة «الاتحاد الاشتراكي» بحوار هام تحدث فيه عن مقاربة الجانب القانوني لهذا الموضوع، ودسترة الإسلام كدين للدولة وما خلفه من أسئلة..إلى غيرها، وتتمة للنقاش الذي أثاره الملف هذه رؤية القانوني في الموضوع تضمنها نص هذا الحوار: إشكالية «حرّية المعتقد»، في علاقتها بمواقف النّخب المغربية السّياسية والمدنية. أين يحضر الجانب القانوني في مقارباتها ؟ أم هو غائب تماما؟ الواقع أن إشكالية حرية الضمير (وأنا أفضل هذه العبارة لشموليتها ودقتها في ذات الآن)، باعتبارها قضية ومطلبا وهدفا، شبه غائبة عن اهتمامات النخب السياسية والمدنية. إنها تبدو مسألة حارقة لا يجلب الاقتراب منها سوى المشاكل والوصم والإقصاء، وفي أحسن الأحوال فإنها غالبا ما تعتبر مسألة ثانوية ليس لها أية أولوية، خاصة بالنظر إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. بيد أن الأمر يتعلق هنا بموقف إيديولوجي استسلامي يهرب، تحت تبريرات واهية، من مواجهة الإشكالات الحقيقية التي ترهن مصير الإنسان المغربي وراهنه وتحكم عليه بالعجز عن معاصرة عصره والدخول إلى الحداثة من بابها الواسع وعن أن يكون ديمقراطيا ومساهما في بناء الديمقراطية. وبالفعل فإن أهمية إقرار حرية الضمير تتجسد في الأبعاد والامتدادات والأفضال القانونية لهذا الإقرار. فالحقيقة أن المرء لا يحتاج إلى كبير جهد ليتبين مدى التناقض والتضارب اللذين يطبعان المنظومة القانونية جراء عدم إقرار هذا الحق وهذه الحرية ويحولان من ثمة دون انسجامها وفعاليتها وتطبيقها التطبيق السليم اللائق بها. ولا أدل على ذلك من وجود مقتضيات وضعية إلى جانب مقتضيات ذات طبيعة دينية أو ذات خلفية دينية، كما هو الشأن بالنسبة للقانون الجنائي الذي يعتبر قانونا وضعيا على مستوى مجمل أحكامه وعلى مستوى آليتي التجريم والعقاب، لكنه يجرم الإفطار في رمضان، وهو مخالفة دينية، ويفرض عليه عقوبة دنيوية لا علاقة لها بالجزاء الديني ! ويجرم العلاقات الرضائية بين الجنسين بخلفية دينية، ويجرم الإجهاض بكيفية شبه مطلقة ويقرر له عقوبات قاسية جدا بخلفية دينية أيضا، ويعطي الأولوية في جرائم خطيرة بالنسبة لضحاياها، مثل الاغتصاب، لنظام الأسرة والأخلاق العامة، وكل ذلك بناء على خلفية دينية واضحة. ومن أبرز القوانين التي يتجلى فيها الأثر التشريعي السلبي لعدم الاعتراف بالحق في حرية الضمير مدونة الأسرة التي تفرض على الناس، بصرف النظر عن اختياراتهم الشخصية في الحياة وحرياتهم الفردية، طرقا وأشكالا وحيدة وحصرية للزواج والطلاق والنسب والبنوة وانتقال التركات... ربما كانت بعد تعديلها سنة 2004 تمثل الجوانب المشرقة في الدين (بعد صراع مرير طبعا)، ولكنها تبقى أحكاما دينية بالأساس وعلى وجه العموم تحول دون تحقيق المساواة الحقيقية بين النساء والرجال ودون ممارسة عدد من الحقوق مثل التبني الذي قد يشكل، فضلا عن كونه حقا إنسانيا، حلا لعدد من المشاكل الاجتماعية التي نقف أمامها حائرين ونحن نلمس المفارقات التي نتخبط فيها والازدواجية الخطيرة التي نغرق فيها والتي تكاد تضحي شيزوفرينيا شاملة لا توفر القوانين، ولا القيم الأخلاقية ، ولا المعايير الثقافية، ولا أنماط الوجود والسلوك. ويبقى الالتباس الكبير في هذا الباب، هو كون عدم تجريم القانون الجنائي للردة لا يمنعه من تجريم الإفطار في رمضان وهو دونها بما لا يقاس. وغني عن البيان أن الاضطراب والتشوش في القوانين يعتبران أكبر مشجع أو مساعد على خرقها والتحايل عليها وعدم احترامها وإخضاعها عند الاقتضاء لقواعد الكيل بمكيالين ناهيك عن تحويل المواطنين المتشبثين بحريتهم إلى رهائن. وإن هذا الأمر ليس له سوى حل وحيد هو تحرير القوانين، باعتبارها شأنا دنيويا خالصا، من كل مقتضى ديني ومن كل خلفية دينية. ولن يتحقق ذلك بالطبع إلا بإقرار حرية الضمير التي هي في حقيقتها وجوهرها حرية الفرد في اختيار القيم التي تحدد علاقته بالوجود وبالحياة، وقدرته على تجسيدها باستقلال نسبي عن المجتمع، حقه في أن يتملك ذهنه، كما جسده، يتصرف فيه كما يشاء ويفكر به كما يريد. ومن ثمة فإنها تطرح من زاوية الحدود الفاصلة بين نطاق الخيار الفردي وحدود الإلزام الجمعي، وتومئ إلى الحياة المعيارية والقيمية الداخلية للفرد والتي تتيح له أن يبلور قناعاته، بما فيها القناعات الدينية والإيمان من عدمه، بكل حرية واستقلال، وتسمح له، بعبارة أخرى، أن يبدل دينه أو يعتنق دينا آخر، أو أن لا يأخذ بدين من الأديان، دون أن يكون عرضة لأي حساب أو عقاب أو إقصاء، ودون أن ينتقص ذلك من مواطنته. إنها باختصار حقه البسيط والمشروع والمتأصل في ألا يفكر مثل الأغلبية. فحرية الضمير هي في نهاية المطاف من حريات الذهن التي لا يمكن بأي حال من الأحوال التحكم فيها أو السيطرة عليها. ومعنى ذلك أن حرية الضمير تقوم أساسا في النهاية على الفصل، في الواقع كما في القانون، بين المواطنة والإيمان. الحرص على دسترة الإسلام كدين للدولة كان يهدف إلى تحقيق هدفين : من جهة إثبات أن الدولة المغربية ليست علمانية، ومن جهة أخرى، التأكيد على أن الدين المرجعي للدولة هو الإسلام، وليس هو الدين الوحيد المسموح به.. في نظرك مثل هذا الطرح، ألا يشكل اشكالا قانونيا ، قد يثير اشكالات تبعد النقاش الحقيقي في الموضوع سواء عن السياق القانوني والثقافي ويسيطر عليه السياسي؟ من المعلوم لدى عموم الناس أن الصيغة الأولى للدستور التي كان من المفروض عرضها على الاستفتاء كانت تتضمن إقرارا صريحا للحق في حرية الضمير، اعتبارا لسياق التأصيل الدستوري الشامل للحقوق والحريات الذي حرصت عليه اللجنة التي كانت مكلفة بوضع الدستور باعتباره مدخلا أساسيا للديمقراطية والحداثة ودولة القانون. ومن المعلوم ، كذلك، أن ضغوطا كبيرة مورست في آخر لحظة، من قبل المحافظين والامتثاليين المؤمنين بأن ليس بالإمكان أبدع مما كان، من أجل حذف هذا الحق بالذات، وأن هذه الضغوط لم تتطلب أية تضحية تذكر بسبب تخاذل النخبة وعدم إدراك المجتمع لخطورة عدم إقرار هذا الحق بل فداحة حذفه بطريقة شبه مهينة في آخر لحظة. بيد أن الذين ضغطوا من أجل حذف هذا الحق كانوا واعين جيدا لما يفعلون وواعين لتبعات إقرار حق من هذا النوع. فالمعركة بالنسبة إليهم معركة سياسية بالأساس، استندوا فيها بالطبع على كون الإسلام دين الدولة وعلى كون النظام القائم يستمد جانبا أساسيا من شرعيته من الدين. لكن موقفهم هذا ينطوي على مغالطة فاضحة ومفضوحة. فكون الإسلام دينا للدولة أو لغالبية سكانها لا يمنعها من أن تكون دولة مدنية تدبر أمور دنياها ووضعية مواطنيها وعلاقاتهم فيما بينهم بتشريعات وضعية مسايرة للعصر ولتطور المجتمع ومستلزمات علاقته مع المجتمعات الأخرى، وتترك للأفراد حرية اختيار معتقداتهم الدينية وممارستها ولا تجعل من هذه المعتقدات أساسا أو نطاقا أو حدودا لمعاملاتهم الدنيوية من زواج وطلاق وميراث أو قيودا عليها....، فلم يعد من المقبول أن تمنع المغربية المسلمة من الزواج من غير المسلم في حين يسمح للمغربي المسلم بذلك. وكيف للعقل أن يقبل أن يحرم البنات اللواتي ليس لهن إخوة ذكور من الإرث في حين يقدم لأشخاص آخرين قد يكونون من ألذ أعداء الموروث وأسرته؟ وأي عدل في أن تحرم المسيحية المتزوجة من مغربي مسلم من الإرث؟ وأي مساواة أو عدل يمكن تحقيقهما في ظل هذه المقتضيات؟ وهل مازال من المقبول أن يتضمن القانون الجنائي جريمة اسمها زعزعة عقيدة مسلم، وأي مسلم هذا يمكن أن تزعزع عقيدته بفعل فاعل من الإنس؟... اعتبار الإسلام دين الدولة، يعني أن هذه الأخيرة تضمن فقط حرية ممارسة العقائد التي يعترف بها الدين الإسلامي. أما ما سواها من المعتقدات الدينية والمذهبية، فغير معترف بها وغير مسموح بها أيضا. من الجانب القانوني ، كيف نعالج هذا الاشكال؟ أولا ينبغي أن نوضح أنه لا يوجد أي مقتضى يخول للسلطات أن تحول دون ممارسة الأجانب غير المسلمين، بوذيين كانوا أو بهائيين أو غيرهم، لشعائرهم الدينية وطقوسهم في نطاق القانون، وأنى له أن يوجد. والأكثر من ذلك أن هنالك قرارات قاضية مثلا بتخصيص مقابر لهم يدفنون فيها موتاهم وفق شعائرهم الدينية. لا يطرح الإشكال إلا بالنسبة للمواطنين المغاربة الذين ارتأوا أن يغيروا ديانتهم أو أن يعلنوا أنهم يتخلون عن دينهم أو أن يتجاهروا بالإفطار في شهر رمضان دون عذر أو سبب اللهم إلا قناعتهم... وقد يطرح كذلك بالنسبة للأشخاص المنحدرين من هذه الملل أو النحل والذين يريدون، لأسباب عاطفية أو إنسانية أو اجتماعية... اكتساب الجنسية المغربية ويستوفون شروطها، فهؤلاء تحتم عليهم الجهات التي تبت في طلباتهم أن يتخلوا عن قناعاتهم الدينية ويعلنوا إسلامهم. وثانيا: إن الدستور ينص في الفصل الثالث على ضمان حرية ممارسة الشؤون الدينية «لكل واحد». وهو مقتضى واضح غير مشروط ولا لبس فيه. ومعناه أن لكل شخص أن يمارس شؤونه الدينية بكل حرية، مع أن دين الدولة الرسمي (أي الغالب) هو الإسلام، كما جاء في بداية الفصل. وثالثا: ينص الدستور في الفصل الخامس والعشرين على أن حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. وبالرجوع إلى الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، وخاصة منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية نلاحظ بكل يسر أنها تصوغ المقتضيات ذات الصلة على هذا النحو: حرية التفكير والضمير والدين. فحرية التفكير أصل ومنطلق وحاضنة، وهي التي تسمح للفرد أن يختار أدوات تفكيره. أما حرية الضمير فإنها تأتي بعد ذلك في منتصف الطريق فتسمح للفرد بأن يكون لنفسه اختيارات وقناعات تحدد علاقته مع الحياة، ومع الوجود ، ومع المجتمع، ومع المصير، وما الاختيارات الدينية سوى جزء من هذه الاختيارات. ومن هذا المنظور، فإن حرية الاعتقاد وممارسة الاعتقاد، في حد ذاتهما، مكفولتان بصريح نص الدستور كما أن القانون الجنائي لا يعاقب صراحة (وحسب قواعد صياغة القانون الجنائي وعملا بمبدأ الشرعية) على ممارسة الاعتقاد أو تغييره. وإن كل المتابعات التي قد تجري في هذا الباب تكون، في تصوري، غير قائمة على أي أساس. واسمحوا لي، في النهاية، أن أقترح عليكم نصا معبرا في الموضوع مقتطفا من الفصل العشرين من «رسالة سبينوزا في اللاهوت والسياسية»: «لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يمكن السيطرة على الألسنة، لما وجدت أية حكومة نفسها في خطر، ولما احتاجت أية سلطة لاستعمال العنف، ولعاش كل فرد وفقا لهوى الحكام، ولما أصدر حكما على حق أو باطل، على عدل أو ظلم إلا وفقا لمشيئتهم. ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو، (...) لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر، إذ لا يمكن أن يخول أحد بإرادته أو رغما عنه إلى أي إنسان حقه الطبيعي أو قدرته على التفكير وعلى الحكم الحر في كل شيء. وعلى ذلك فإن سلطة تدعي أنها تسيطر على الأذهان إنما توصف بالعنف، كما تبدو السيادة الحاكمة ظالمة لرعاياها ومغتصبة لحقوقهم عندما تحاول أن تفرض على كل منهم ما يتعين عليه قبوله على أنه حق، وما يتعين عليه رفضه على أنه باطل، وأن يفرض عليه المعتقدات التي تحثه على تقوى الله. ذلك لأن هذه الأمور تعد حقا خالصا بكل فرد، لا يمكن لأحد إن شاء أن يسلبه إياه (...) ،إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان، أي يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير. وأكرر القول بأن الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الكائنات العاقلة إلى حيوانات أو آلات صماء، بل المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم لكي تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما حرا دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع وبحيث يتعاملون معا دون ظلم أو إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة».