انطلق النقاش حول القانون الجنائي حين بلورت وزارة العدل سنة 2008، مسودة مشروع يرمي إلى تعديل القانون، وأثارت هذه المسودة وقتها الجدل في أوساط الحقوقيين، خاصة وسط الحركة النسائية وذلك رغم أن المسودة حذفت العديد من الفصول ضمنها الفصل 475، الذي أثير حوله النقاش على قضية أمينة الفيلالي، الفتاة القاصر، التي انتحرت بعد أن جرى تزويجها من مغتصبها. مصطفى الناوي، الحقوقي والمحامي ضمن هيئة الدارالبيضاء، يستحضر، في الحوار التالي، المؤاخذات التي يمكن تسجيلها بشأن المسودة، وكذلك الجوانب المشرقة في هذا المشروع، ويقف عند حقوق الإنسان وحقوق النساء الواردة منها والغائبة في مسودة المشروع، مشددا على أن الإيجابيات تبقى محدودة وبسيطة من جهة، ومحكومة بسقف دستور 1996، ولم ترق، بالتالي، إلى مستوى التغيير الجذري والشامل. ما هي المؤاخذات العامة التي يمكن تسجيلها بشأن مسودة المشروع التي كانت وزارة العدل بلورتها من أجل تعديل القانون الجنائي؟ من أبرز المؤاخذات التي يمكن تسجيلها بخصوص المسودة كونها لم تخرج عن نطاق القانون الجنائي، إن على مستوى فلسفته المحكومة بالهاجس الأمني، وعدم التشبع بروح الحق والحرية وقيمة الفرد واختياراته واستبعاد مبدأ حرية الضمير والمعتقد، أو على مستوى بنيته، التي لا تعطي الأولوية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، ولا للفرد باعتباره كيانا جديرا بالاحترام والحماية، بل ترجح على مستوى العناوين وصياغة المقتضيات، الأسرة والأخلاق العامة، وحتى الزوج أحيانا، على المرأة التي تذهب ضحية بعض الأفعال الإجرامية، مثل حالات التحرش الجنسي والاغتصاب والتغرير والاختطاف...، أو على مستوى المقتضيات التي تميز، من حيث الحماية والتجريم، على خلفية عقلية ذكورية محافظة ونكوصية، بين المرأة المتزوجة وغير المتزوجة وبين البكر والثيب. ويؤاخذ على المسودة أيضا، افتقارها إلى ديباجة يفترض فيها أن تبين روح النص وأن تشكل إطارا طبيعيا، لا مندوحة عنه، لتطبيقه وتفسيره، وبيانا لنية مشرعه كما لأسباب النزول والأهداف الاستراتيجية، علما أن نص القانون الجنائي يشكل عماد السياسة الجنائية، ومفصل الحقوق والحريات، وثاني نص قانوني بعد الدستور من حيث الأهمية والحساسية. كما يؤاخذ عليها كونها لم تأخذ بعين الاعتبار التحولات العميقة التي يعرفها المجتمع المغربي، ولا التزامات البلاد في مجال حقوق الإنسان عامة، والحقوق الإنسانية للنساء بشكل خاص، ولا مستلزمات التقدم وازدهار الأفراد وتحررهم وانخراطهم الكامل في الحياة، واستفادتهم الكاملة والمتساوية من الفضاء العام، بوصفه فضاء للتعبير والإبداع والحياة... ويؤاخذ عليها، قبل كل ذلك وبعده، أنها لا تحمي النساء حماية حقيقية من العنف والتمييز، وأنى لها ذلك ما دامت مبنية على الخلفيات الكبرى نفسها التي بني عليها نص القانون الجنائي عام 1962. وغني عن البيان أن هذه المؤاخذات وغيرها هي التي حذت بعدد من المنظمات النسائية إلى التحالف من أجل تأسيس "ربيع الكرامة" الهادف إلى تغيير القانون الجنائي، وبلورة مذكرة معللة جيدا لهذا الغرض، ومقنعة لكل ذي قلب سليم، ومنطق منسجم وحس حقوقي. هل يمكن الحديث عن إيجابيات وردت في هذه المسودة؟ أجل، فسوف يكون من الجحود أن ننفي تضمن المسودة لإيجابيات تصب في اتجاه حماية النساء من العنف، وتتمثل في تعديلات وإضافات وحذف مواد (نذكر منها على سبيل المثال تعديل الفصل 404 بإضافة العنف المرتكب ضد الطليق أو الخطيب أو الخطيب السابق، وتعميم إمكانية الاستفادة من عذر مخفف، المنصوص عليها في الفصل 420 على كافة أفراد الأسرة، بعد أن كانت مقصورة على رب الأسرة، وحذف لزوم إشعار الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم قبل ممارسة الإجهاض، إذا كانت حياة المرأة الحامل في خطر، إضافة إلى الفصل 503-1 القاضي بتجريم التحرش الجنسي في الفضاءات العامة، أو من قبل زميل في العمل، وأيضا إلغاء مقتضيات الفصل 475 التي تنص على سقوط المتابعة في حق مختطف القاصرة في حال زواجه منها، وتشترط لتحريك المتابعة تقديم شكاية ممن له الحق في المطالبة بإبطال الزواج...، وكذلك حذف التمييز بسبب الزواج، كما ورد في الفصول 494 و495 و496... ، وحذف الفصل 446 المتعلق بالسر المهني للأطباء والجراحين وغيرهم، وحذف الفصل 468 انسجاما مع مبدأ حق الأم في التصريح بالولادة، وتغيير اللغة المستعملة، ولو ضمن حدود ضيقة، من قبيل حذف لفظ الأبوية الذي يرد نعتا لاسم "الولاية" المنصوص عليها في الفصل 479. ومع ذلك، فإن هذه الإيجابيات تبقى محدودة وبسيطة من جهة، ومحكومة بسقف دستور 1996، ولا ترقى بالتالي إلى مستوى التغيير الجذري والشامل، الذي يفرض نفسه ويفرضه الواقع بكل إلحاح، وإلى متطلبات الملاءمة مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، ومستلزمات حماية الحقوق الإنسانية للنساء. ارتباطا بقضية أمينة الفيلالي، هل يمكن لما جاء في هذه المسودة حماية المجتمع المغربي من تكرار مثل هذه الحالة؟ لا يمكن بتاتا للقانون الحالي، ولا للمسودة، ولا للتفسير السائد للقانون الحالي وسط القضاء، وفي العمل القضائي، أن يشكل أية حماية تذكر للنساء من العنف القائم على النوع، ومن التمييز، وبالأحرى من الهدر المنتظم للكيان والكرامة والحق في المساواة. وفضلا عن ذلك، فإن الوقاية من تكرار هذه الحالة المؤلمة، حقا وصدقا، والمعبرة عن عمق الظلم المركب الذي ينتجه الواقع والقانون متظافرين، تحتاج إلى عمل متكامل متعدد الأبعاد والأطراف، وإلى ثورة ثقافية حقيقية، تقطع مع البؤس الذهني السائد، والعقلية الذكورية والأبوية، وتحتاج أيضا إلى تغيير جذري للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأنماط العلائقية غير المتوازنة. في نظركم، لماذا توقف الحديث عن مسودة هذا المشروع الذي لم تذهب به الحكومة إلى أبعد مدى؟ إن القانون الجنائي الحالي على حالته، يوافق تماما المكون الرئيسي للحكومة، الذي يتحكم في القطاع المعني مباشرة، وربما حصرا، بالقانون الجنائي وتعديله، يوافق عقليته واختياراته الماضوية المبنية على تقييد الحريات وكبت الحقوق ولجمها. ولا أدل على ذلك من الخطاب الشعبوي الذي ما فتئ يتشدق به هذا المكون حول الأخلاق، ومواقفه المتطرفة بشأن مواضيع مثل الإجهاض والإفطار في رمضان والعلاقات الإنسانية الحرة بين النساء والرجال. لا أدل عليه من الضغط الاستباقي القوي، الذي قام به هذا المكون من أجل حذف الحق في حرية الضمير والمعتقد من مشروع الدستور، لأنه كان يعلم، ربما أكثر من غيره، أن إقرار حق من هذا النوع سوف يقتضي بالضرورة تحرير نص القانون الجنائي من كافة المقتضيات الدينية، أو ذات الخلفية الدينية. وبالتالي، فإن من مصلحته وصميم اختياره أن يجهض كل حلم أو محاولة لتغيير القانون الجنائي، وأن يتمادى في إقبار المسودة رغم محدودية التعديلات المضمنة فيها. ولا ينفي ذلك بالطبع إمكانية لجوئه، تحت ضغط الشارع والمآسي الحاصلة، بسبب القانون الحالي إلى حد ما، إلى تعديلات سطحية وجزئية ترقيعية، تتوخى امتصاص الغضب لا أقل ولا أكثر. والأمل معقود على المتنورين والمتنورات من المجتمع من أجل العمل الدؤوب والواعي والمتضافر من أجل ممارسة النقد الصاحي، الذي لا يخشى نتائجه الخاصة ولا الصدام مع أي كان، وتغيير الواقع والقانون سواء بسواء لمصلحة الإنسان وبما يحقق التقدم ويحفظ الكرامة ويضمن سيادة العقل والعدل، وقيم الحرية والمساواة.