حدثان وقعا في "الثورة" المصرية و"الثورة" الليبية لامفر من التوقف عندهما لأنهما يعطيانا النموذج لما يمكن أن يقع في كل الدول الأخرى لو سرنا على النموذجين المصري أو الليبي في تصفية الخلاف السياسي بالرهان على المجهول, والإصرار على الشعبوية مهما كان. النموذج الأول مليونية الإسلاميين في القاهرة يوم الجمعة الفارط. والنموذج الثاني مقتل عبد الفتاح يونس على يد سرية سلفية متطرفة تابعة للثوار الليبيين.
بالنسبة للنموذج الأول الكل يتذكر أن التخوف الأبرز الذي عبر عنه الخائفون فعلا على مصر هو من سطوة الإسلاميين على "ثورتها" وتحويلها إلى رسم تجاري لهم لايحق لمن لم يكن ذا لحية أو خمار أن يتحدث عنها نهائيا. كان الشباب ف ائتلاف الثورة المصري حينها يقولون "ولاعليكم, نحن قادرون على ردهم إذا ما أرادوا يوما الاستيلاء على نضال الشعب المصري, وبيننا وبينهم الميدان (يقصدون ميدان التحرير) وسننزل إليه كل مرة أحسسنا فيها بخطر على الثورة أو بثورة مضادة تريد جعل ثورة كل الشعب المصري ثورة أحزاب وجماعات بعينها". طبعا كم البراءة في كلام الشباب كان يقارب السذاجة, والكل كان يعرف أنهم يتحدثون عن حاضر هو في الحقيقة ماض, طاالما أننا رأينا من قبل الثورة الإيرانية وماوقع فيها من استيلاء للملالي على نتائجها وتحويلهم إيران الليبرالية إلى دولة مرعبة تحكم بولاية الفقيه, وبتهديد العالم في أي لحظة بالإرهاب وبالجماعات المندسة في كل مكان.
الشباب استفاقوا الجمعة الماضية على مليونية الإسلاميين التي دعت إلى "إسلامية" دولة مصر, والتي قالت للمجلس العسكري ولائتلاف الثورة ولكل من يريد الإنصات إن المرحلة الجديدة من مراحل الاستيلاء الكامل على "ثورة" مصر قد اقترب موعده وأن الإسلاميين _ بمختلف أطيافهم وهذا هو المثير في مظاهرة الجمعة الفارطة التي جمعت السلفي بإسلامي البرلمان بالمعتدل بالمتطرف دلالة أنه فعلا ليس في القنافذ أملس _ لن يترددوا في السطو على البلد في لحظة ضعفه هاته, لمعرفتهم أنهم لن يتمكنوا من الأمر ذاته لو وقفت مصر من جديد على رجليها, واستعادت عافيتها, وقالت "هاأنا" مرة أخرى.
النموذج الثاني أتانا من ليبيا ومن ثوارها بالتحديد, الذين ظلوا منذ أن التحق بهم الجنرال عبد الفتاح يونس اليد العسكرية الأولى للعقيد معمر القذافي يشكون في ولائه للثورة ويعتبرون أنه مندس عليهم, بل ذهبوا مرارا وتكرارا إلى اتهامه أنه هو الذي يعرقل الحسم العسكري ضد القذافي. الرجل تحمل في صمت كبير كل الاتهامات التي مست شرفه العسكري الذي كان ممكنا أن يحافظ عليه لو اختار اللجوء السياسي خارج أرض ليبيا, لكنه اختار الانضمام لمن اعتبرهم "فرصة ليبيا الأخيرة للتخلص من جنون معمر", وساند الثورة وأعلن اصطفافه إلى جانبها تاركا القذافي غير قادر على تصديق صفعة مثل هاته إلى الدرجة التي جعلت مجنون ليبيا والحكم يقول في إحدى خطبه إن "الثوار اختطفوا عبد الفتاح يونس, وأنا أطاالب بالكشف عن مكانه" في الوقت الذي كان عبد الفتاح يونس يعلن انضمامه رسميا لثوار ليبيا ورغبته في الإطاحة بالقذافي.
كل هذا لم يشفع لعبد الفتاح عند إسلاميي الثورة الذين استباحوا دمه, واعتمدوا على بعض القراءات السطحية والجاهلة لما يجري في الميدان لكي يخلصوا إلى أن عبد الفتاح, وهو من قبيلة البريقة, يؤجل باستمرار الدخول إلى هذه المدينة, ويؤجل معه الحسم العسكري لمعركة الانتهاء من معمر, والدخول بليبيا إلى مرحلة جديدة من تاريخها.
هذا النقاش لم يتم حسمه بالطرق الحضارية المختلفة التي يمكن أن تلجأ إليها دول أخرى غيرنا. لا, تم الحسم بالطريقة العربية الإسلامية الحلال, وتم العثور على جثة عبد الفتاح يونس متفحمة وعلم الكل أن الجناح الإسلامي وبالتحديد سرية عبيدة بن الجراح هي التي قامت بتنفيذ عملية القتل بمعرفة كل أعضاء المجلس الانتقالي الليبي باستثناء زعيمهم عبد الجليل الذي عبر عن معارضته التام لأي تصفية لأي واحد من المحسوبين على الثورة, والنتيجة أنه لم يتم إخباره بفتوى قتل عبد الفتاح يونس إلا بعد تنفيذها لئلا يجد أي طريقة لمعارضتها أو إيقاف التنفيذ.
النموذجان معا يصلحان لنا في المغرب للتأمل فقط لاغير, خصوصا وأن "العدل والإحسان" "غفلات" الشعب المغربي, وقالت في تهنئتها التي وجهتها له بمناسبة الشهر الفضيل إن "الشعب قام قومته المباركة ضد الظلم", علما أن ماكنا نعرفه هو أن الأمر يتعلق بحركة شبابية تسمى 20 فبراير تريد القطع مع الاستبداد والفساد, وتضم تشكيلات سياسية مختلفة ضمنها العدل والإحسان وأهل قومته, ولم نكن نظن أن الأمر يتعلق بقومة العدليين حتى جاء بيان رمضان الأخير لكي يخبرنا بأن الأمور ليست بعيدة تماما عن التشابه.
"الخوت" في كل مكان علموا أن ماما أمريكا لاتمانع في إشراكهم في الحكم بهذا الشكل أو بالآخر, واعتبروا الأمر علامة قوة لهم في الشارعين العربي والإسلامي, وهم اليوم لايترددون في قولها بالصوت المسموع : الغد في المنطقة سيكون لنا أحب ذلك من أحبه وكرهه من كرهه. فهل ياترى سنسمع صوتا آخر من لدن من يقولون لنا منذ اندلاع كل شيء إن "العدل لن تسيطر على أي شيء"؟ أم ترانا سنستمتع بالمزيد من الصمت القاتل إلى أن يأتي القتل الحقيقي إلى البلد كله لكي يحكمه؟
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق عملية السرقة الهوليودية التي وقعت الإثنين في البيضاء والتي لم يتعودها المشهد المغربي نهائيا تسائنا جميعا بخصوص هذا التطور النوعي في الجرائم المحلية سواء من ناحية استعمال الرصاص أو طريقة المطاردة ثم طريقة التخلص من الدراجة النارية التي استعملت في السرقة, لكن الجريمة تسائل أساسا شرطتنا المغربية التي تجد نفسها أمام تحد من نوع جديد لاعلاقة له بجرائمنا الأخرى التي تستعين بأدوات تقليدية وبانعدام تخطيط تقريبا للوصول إلى أهدافها. أخطر مافي جريمة البيضاء الأخيرة استعمال الرصاص ثم الظرفية الزمنية التي وقعت فيها, لذلك وجب كثير الحذر والاحتياط لما هو قادم