كان للدينامية التي أطلقها شباب مغربي يوم 20 فبراير على غرار ما قام به الشباب في كل من تونس ومصر، أثر طيب علي، ساعدني على استعادة الأمل في إمكانية إحداث التغيير الذي ينشده المغاربة، أو على الأقل جزء من المغاربة الذين لهم مصلحة في ذلك. استحسنت التفاعل الإيجابي للخطاب الملكي بتاريخ 9مارس الذي اعتبرته شخصيا مهم في معناه ومبناه. قدرت جرأة الخطوة التي أنصتت لنبض الشباب المغربي ومن سار في ركبهم من المناضلين والمواطنين حتى وإن كانوا غير وازنين من الناحية العددية.
وقفت عند أهمية الخطوة التي تمثلت في إطلاق سراح عدد من المعتقلين فيما سمي بملف "بلعيرج" خصوصا قياديي البديل الحضاري وحزب الأمة، واعتبرتها،ا شأني في ذلك شأن كل مناصري حرية الرأي والتعبير، إشارة ذات دلالة تدخل ضمن إجراءات بناء الثقة في المسلسل الذي تم تدشينه من أجل وضع دستور جديد يسمح لبلادنا بالانتقال إلى وضع أفضل في سيرورة البناء الديمقراطي.
بالموازاة مع هذه الخطوات، التقطت أن ما شهدناه من أعمال عنف وتخريب في عدد من المدن المغربية هو رسالة بعثتها لوبيات الفساد. رسالة واضحة، اعتبرت أنها لا يجب أن تلهينا عن الاستمرار في إسماع صوت الإصلاح والتغيير السلمي الديمقراطي. شكل غياب الحماية الأمنية للمباني والمؤسسات والمتاع علامة استفهام ونقطة غير مطمئنة في سلوك المؤسسة الأمنية ببلادنا....... انطلق عمل اللجنة التي كلفت بصياغة مشروع الدستور ومعه النقاش من طرف كل الفاعلين السياسيين والمدنيين اعتبرته أحد الجوانب الإيجابية لكل هذا الحراك من منطلق أن المناقشة العمومية هي جزء من عملية البناء الديمقراطي.
وبين لحظة انطلاق أشغال اللجنة والإعلان عن النص، جرت مياه كثيرة ووقعت أمور لا تطمئن يتجلى أهمها في: 1-الهجوم الكثيف على المتظاهرين من شباب 20فبراير أدى إلى وفاة "كمال العماري" بآسفي؛ 2- القمع الهمجي على المسيرات السلمية بشكل يسيء لسمعة المغرب وللمؤسسات الوطنية والمدنية لحقوق الإنسان؛ 3- اعتقال عدد من الشباب الذي تظاهر في الشارع بشكل سلمي، وانطلاق حملة التشكيك والترهيب في حق الشباب الذي أطلق كل هذا الحراك؛ 4- إغلاق الإعلام في وجه الفاعلين وعودة حليمة إلى عادتها القديمة المتمثلة في ترسيخ ثقافة الرأي الواحد؛ 5- التضييق على حرية الصحافة؛
ومع ذلك استطعت أن أصمد وأتشبث بالإصرار على أن مسافة الألف ميل تبدأ بالخطوة الأولى التي غالبا ما تتميز بالهشاشة. إن ما ساعدني على الإصرار هو أنني لم أكن أتوقع ولم يكن لدي أي وهم بأن مشروع الوثيقة الدستورية التي ستوضع أمام المغاربة للإدلاء برأيهم بخصوصها، ستحسم خيار نظام الملكية البرلمانية، وذلك على الرغم من المطالبة بها من طرف جزء من الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني وأصوات المتظاهرين بمختلف شوارع عدد من المدن المغربية. كنت أعرف أن موازين القوة السياسية لا تسمح بذلك أو إن شئنا كان واضحا ضعف الاتجاه الساعي إلى بناء الملكية البرلمانية وعدم قدرته على التعبئة اللازمة.
حينما أعلن عن الوثيقة، لم أفاجأ بمضمونها، بل اعتبرت أنها مطابقة لما كنت أتصوره وذلك للأسباب التي ذكرت آنفا. وبالرغم مما قيل عن التناقضات التي يحبل بها مشروع الدستور، فقد اعتبرت شخصيا أن منحاه العام يؤسس لخطوة في اتجاه بناء الانتقال الديمقراطي ببلادنا وأنه من غير المعقول أن يتصور تيار ما ومهما كانت عدالة القضية التي يدافع عنها، أن يأتي النص مطابقا لأحلامه، بل اعتقدت أنه لابد من الحصول على توافق بين مختلف الفاعلين على مختلف مواقعهم حول نص يعتبر بمثابة تعاقد. وحتى أكون أكثر وضوحا، شكلت قضية وضع آليات التقييم وربط المسؤولية بالمحاسبة والتنصيص على استقلالية القضاء، الرهان الأساسي الذي تمنيت أن يشكل الحد الأدنى بين كل من له الإيمان بضرورة التأسيس لانتقال حقيقي، بل المحك الذي من خلاله تتم عملية الفرز بين الديمقراطي والمستبد، بين الإصلاحي والفاسد بين المؤمن بفضيلة الحوار والمستعمل للعنف بكل أشكاله.
خلال الأربعة أشهر التي عشناها منذ نداء الشباب بتاريخ 20 فبراير، سجلنا كيف أن سلوك بعض الجهات داخل الدولة طبعه التذبذب الذي ظل هو سيد الموقف. فبين مضمون خطاب ملكي، لاقى الترحيب وطنيا ودوليا، وإطلاق عدد من المعتقلين وفتح الإعلام العمومي نسبيا في وجه الفاعلين وضمنهم شباب 20 فبراير، وبين الممارسات المناقضة لذلك والتي اتخذت وثيرة تصاعدية عرفت ذروتها مع انطلاق الحملة حول الاستفتاء، وجدت نفسي أصارع من أجل أن أحافظ على التفاؤل وأن يظل إيماني بحصول الوعي لدى المسؤولين بأهمية اللحظة التاريخية المفصلية التي نمر بها كبلد والتي لابد وأنهم يقدرون حساسيتها بالشكل الذي لا يسمح بإجهاضها والعودة إلى الوراء في خطوات غير محسوبة يمكن أن تؤدي لا قدر الله إلى ما لا تحمد عقباه.
حدث ما حدث يوم الأحد 26 يونيو بعد أن تتبعت عبر نشرات الأخبار وعبر تجولي في المدينة واتصالاتي المتنوعة والمتعددة مع أصدقائي في مجموعة من المدن ما جعلني أغير الرأي وأقرر التصويت ب"لا"، لماذا؟ لأن كل الممارسات التي رافقت سيرورة إعداد النص الدستوري تعبر بالملموس عن غياب الإرادة من طرف الدولة وتؤكد الإصرار على عدم إقران القول بالفعل وهو ما تأكد من خلال : 1-عودة الأساليب التي كنا نعتقد أننا دفنها بدون رجعة في حملة الاستفتاء على الدستور؛ 2- إغراق المدن من خلال فرض استعمال الملصقات الداعية بالتصويت بنعم على واجهات حافلات النقل العمومي وسيارات الأجرة؛ 3- الإمعان في خلط الأوراق عبر زج صور الملك في الحملة بشكل يرغب في زرع الشكوك حول الوازع وراء المناداة بالإصلاح؛ 4- إنزال قوي ونزول ضخم للفاسدين ولبارونات المخدرات ببعض المدن المغربية كطنجة للدعوة بالتصويت بنعم على الدستور؛ 5- اللجوء إلى أساليب بائدة من استعمال للرقص والغناء بدل الدخول في تقديم وتفسير مضامين الدستور في احترام لذكاء المغاربة ولكرامتهم؛ 6- الزج ببعض المواطنين في التهجم على شباب 20فبراير الذين استمروا في التظاهر بشكل سلمي من أجل التعبير عن رأيهم الذي يفترض أن نحترمه حتى وإن كنا لا نتقاسمه. وبالمناسبة فالاختلاف أمر طبيعي بل ومطلوب لمن يود حقيقة الانتقال إلى بناء الديمقراطية؛ 7- إنزال الطريقة البوتشيشية في سابقة من نوعها في حدث سياسي لا علاقة له بالتصوف وبطريقة تغذي الالتباس الذي يرمي إلى الاستمرار في خلط الديني بالسياسي دونما أدنى اعتبار إلى خطورة ذلك على ما سيتبع لحظة تنزيل النص الدستوري وتفعيله؛ 8- استعمل مساجد الله وإكراه الخطباء على تلاوة مضمون، أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه يستبلد المواطنين؛ لم أستطع فك لغز الإنزال القوي للفاسدين وصمت السلطات والتزام الحياد في الحالات التي كانت تستدعي التدخل لحماية المواطنين العزل إلا من آراءهم. لم أستسيغ السماح لبعض الجهات النافذة في التمويل الجزئي لحملة الاستفتاء من مصادر تتطلب التقصي والبحث وإلقاء الضوء. لم أتحمل أن أدلي بنعم مثلي مثل الفاسدين الذين قاوموا بكل ما أوتوا من قوة لكي يظل القول بعيدا عن الفعل وتظل دار لقمان على حالها. صوتت ب"لا" على كل الممارسات التي تقاوم عملية الانطلاق في الإصلاح وعلى الحياد السلبي للسلطات وعلى الرسالة التي بعثها هؤلاء مؤكدين أنهم القوة التي تمتلك كل الوسائل لكي لا يتم تفعيل وترجمة نص دستوري لا يمكن إلا الإقرار بكونه يشكل خطوة متقدمة على سابقه.