في لقاء بمقر وزارة الشبيبة و الرياضة بالرباط حين كان محمد الكحص الصحفي وزيرا للشباب جالسنا في لقائي مسائي محمود درويش يتحدث لنا عن الأدب و الشعر و الصداقات و الحياة و قليلا من السياسة كان يرافقه في الجلسة التي دارت في أجواء ود و ألفة عبد الرفيع الجواهري .نسيت تفاصيل الجلسة الصحفية مع الشاعر لكن سؤالا طرح لا زلت أحتفظ به في ذاكرتي : هل درويش الذي كتب سجل أنا عربي هو نفسه درويش الذي معنا في القاعة ؟ أجاب محمود درويش على أن من الخطأ الاعتقاد أن الشخص هو نفسه و قال ما معناه أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر و أن 30 سنة أو أكثر سافر فيها الشاعر إلى بلدان و مدن كثيرة و قرأ فيها روايات و شاهد أفلام سينما كثيرة و مسرح و مات من مات و التقى بأشخاص في كل العالم هل يجوز أن ندعي أن الإنسان ظل هو لا يتغير لا يتبدل مثل جبل رخام ؟ انأ لست أنا الذي كان .. أتذكر هذه الأشياء اليوم و أمامي ذكرى ميلاد الشاعر الذي هرولنا إليه لنراه و نحن شبان في مسرح محمد الخامس لننشد معه سقط القناع عن القناع و قال لنا قبل أن يتلو قصيدته الأولى في قاعة ضاقت بالجمهور: " أني أحبكم". قالها فخطف قلوبنا فرحنا و انتشينا و صرخنا و كبر الرجل أكثر في عيوننا . أبهرتنا هذه الملعونة : إني أحبكم " لم نكن نسمعها من قبل . لم نكن متآلفين على سماع الشعر بالمقدار الذي كنا متعودين سماع خطب سياسية و انشائيات مكررة محفوظة لبقايا الحركة الوطنية. ما أوسع الشعر و ما أضيق السياسة . . درويش سيجد نفسه في يوم من الأيام مكرها لمواجهة هذا الجدار الذي يحجب رؤية و أفق الشعراء : السياسة. فطلقها تقريبا حين قدم استقالته من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية .. الناس لم تفهم في حينها قرار الشاعر و اختياره في الحياة..أرادوا له أن يبقى رغم عزلة الشعراء وسط السياسيين.. درويش سيعرفه قراءه و العالم لاحقا مع مرور الزمن و بعد سفره إلى فرنسا شاعرا لا يكتب فقط عن المقاومة بقدر ما يكتب عن الحب و الحياة و المرأة و الموت و الوجود و الفلسفة.. قلنا أن جبة السياسيين أضيق أفقا من شرفات الشعراء. ليس درويش وحده في تجارب الكتابة العالمية من ضاق بخيمة السياسة و هرب منها. هناك قبله أدمون عمران المالح المغربي اليهودي و جان بول سارتر في فرنسا و البيركامو و شعراء و روائيون و رسامون من مصر و العراق و السودان و تونس و الجزائر و كل العالم.. درويش الذي نحتفل به اليوم تعب من السفر و راح إلى هناك نحو العالم الآخر الذي كتب عنه " جدارية الموت " في أرقى ما تكون الرؤيا الفنية الرفيعة .. لا شيء أجمل و أقوى لمواجهة الموت غير الشعر و الكتابة و الموسيقى .. كان درويش أقوى من موته . كتاب آخرون واجهوا الموت بالخوف و العذاب و كان ذلك مفاجئا لكن درويش الذي ظل يدخن إلى أن أوقفه الطبيب قال أن التدخين يقصر من عمر الشيخوخة . الصدمة كانت قوية حين كشف عبد الباري عطوان عن سر من أسرار درويش..من بين ما أفشاه أن الشاعر الذي وصل شعره إلى كل العالم عاش ظروفا مادية جد صعبة في آخر أيامه في صمت.. لم يكشف درويش شيئا و فضل العزلة قبل أن يتعب من السفر و هو يكتب " لا شيء يعجبني".. هنا أيضا كان محمود درويش أقوى وأسمى ..كبرياء الشعراء الحقيقيين أكثر رهافة و نبلا من البوح بهشاشة مادية .. ظل يواجه النهايات و قد تدرب على الرحيل كما يتدرب أي محارب لا يخشى مصيره . درويش الذي قال لنا في الرباط أنا لست أنا ..و لا يمكن لبني آدم أن يظل هو هو ..سنكتشفه مرة أخرى أوضح و أرق و هو يكتب في الحب و الحياة..قصائد من مثيل " لا أنام لأحلم " و " لم تأت " و " لا شيء يعجبني" و " الحب كذبتنا الصادقة" و "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" و " أنا يوسف يا أبي " و "ورد أقل" و " لاعب النرد" و غيرها من النصوص الشعرية.. سميح القاسم رفيقه في الحياة و الشعر و الذي نشرت "اليوم السابع" حين كانت تصدر بباريس مراسلاته مع درويش كتب عنه " خذني معك" بعد سفره الأخير.. مرات عديدة أعيد قراءة و سماع " لا شيء يعجبني" فتعجبني كما يغريني في كل مرة كأس نبيذ جيد على طاولة عشاء سأعيد قراءتها معكم ...اقبلوا مني هذا .. يقول درويش. يقول مسافر في الباص.. لا شيء يعجبني لا الراديو و لا صحف الصباح و لا القلاع على التلال أريد أن أبكي.. يقول السائق: أنتظر الوصول إلى المحطة و إبك و حدك ما استطعت.. تقول سيدة:أنا أيضا أنا لا شيء يعجبني دللت أبني على قبري فأعجبه و نام و لم يودعني. يقول الجامعي ....و لا أنا لا شيء يعجبني درست الاركيولوجيا دون أن أجد الهوية في الحجارة هل أنا حقا أنا. و يقول جندي : أنا أيضا أنا لا شيء يعجبني أحاصر دائما شبحا يحاصرني , يقول السائق العصبي: ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة فاستعدوا للنزول فيصرخون ,,نريد ما بعد المحطة فأنطلق. أما أنا فأقول: أنزلني هنا أنا مثلهم لا شيء يعجبني و لكني تعبت من السفر. لقد نزل درويش من باص الحياة و لا يهمه الآن السائق العصبي لكنه ظل معنا نحن الذين نواصل السفر...الاركيولوجي و السيدة التي فقدت أبنها و المحارب الذي يحارب شبحه و... أنا و أنت و انتم ونحن و كلنا ..