"الشر خير عون لنا على معرفة الخير ولولا الشر ما عرفنا على وجه الحقيقة بوجود الخير"، هذا معنى الكلام الذي كانت أمه وفي عينيها عبرات منعها الصبر والتجمل من أن تسيل، فهي جامدة في مآقيها لا ينتهي ما يبعثها، ولا ينقضي ما يحبسها، كانت تردد على مسامعه هذا الكلام كلما بدأ يتبرم من سوء حاله وفقره، وهوانه على الناس، وسيطرة الشر على حياة التعساء الفقراء من الناس، وعدم جرأته على ارتياد ساحات الأغنياء المحظوظين المترفين المنعمين. كان في ما مضى إنسانا رقيقا قريب الدمعة، نقي السريرة، سمح الطوية، صافي الروح، حلو المعشر، رضي الخلق والمسلك، باسم الثغر طلق المحيا، عذب الحديث، سريع النكتة والضحكة، هين الجانب، بعيدا عن التكلف والتعقيد والتظاهر والادعاء. أما الآن فقد أصبح ينوء بهموم عظام انقصم لها ظهره، فأخلد إلى الأرض ولم يستطع بعد ذلك قياما، فهو يقضي أيام الأسبوع والشهر في العمل الشاق المتعب، ومع ذلك لا يكاد يؤمن قوت يومه من المطعم البسيط الخشن، ولولا بعض الدراهم التي كانت تدّخرها أمه من وقت لآخر لاضطر في كثير من الأيام إلى أن يمد يده إلى غيره، ويهرق دم وجهه، وقد جعله هذا الوضع البئيس يفكر مرارا كثيرة في الانتحار، وقد هم بذلك في غير ما مناسبة. في آخر مرة حاول الانتحار فسمع صوتا هادئا بنبرة مريحة مريبة ينبعث من كل مكان ومن لا مكان، فقد أصابه الدوار من كثرة الالتفات والدوران بحثا عن مصدر الصوت، ولكن دون جدوى حتى سمع من الصوت الذي ينبعث من مكان قريب، حتى كأنه يخرج من رأسه جملة الرحمة: - أن اثبت مكانك ولا تحاول البحث عن مصدر الصوت، لأنك لن تجده، وإنما اسمع ما يلقى إليك من القول، لعلك تجد فيه ما يشفي غليلك ويذهب عنك الروع والوحشة واليأس. تجمّدت حركته وأطرافه وتعطلت أعضاؤه عن العمل إلا سمعه الذي أصبح حادا، وقد انقطع عن العالم الذي يحيط به وركز كل وجوده على سماع الصوت الذي أضحى مألوفا أكثر من المعتاد، واستقبل الجملة الآتية: - لماذا تفكر دائما في الأشياء التي لا تملكها، ولا تحتاج إليها بشكل ضروري، وفي مقابل ذلك لا تتعب نفسك ولا ترهق ذهنك بالتفكير في الأمور التي لا تعد ولا تحصى والتي تملكها ولا يملكها غيرك. ابتسم ابتسامة الشر والحسرة والسخرية، ولسان حاله يقول: - وهل أملك إلا أسباب التعاسة والحزن واليأس؟ تدخل الصوت مرة أخرى بنبرة فيها جرعة زائدة من الصرامة والحزم: - ألست تنعم بالصحة والعافية، وتلك الأعضاء والجوارح والأعصاب التي تعمل بطريقة نموذجية بدون توقف، وهل تحس بها أو تشعر بحركتها الداخلية الدائبة، ولولا أنها في أحسن الأحوال لكنت تتألم من سوء سيرها وعدم انتظام عملها. فأجاب: - غيري يتمتع بهذه التي تسميها مزايا وأكثر، وأنا مستعد أن أبادل هذه المزايا ببعض المال والجاه والسلطة، فما رأيك؟ انبعث الصوت من جديد وفيه كثير من نبرات الغضب والإشفاق على درجة اليأس التي يصدر عنها مثل هذا الكلام: - أنا مستعد أن أثبت لك خطأ وجهة نظرك بالملموس، إذا كنت مصرا على ذلك. رد على العرض المقدم بكثير من الإهمال واللامبالاة: - كل ما أريده هو التخلص من هذه الحياة الظالمة التي تحابي أصحاب المال ولا تقيم للفقراء وزنا. انطلق الصوت مقدما عرضه لمخاطبه بثقة عالية وخيبة أمل ظاهرة: -ستحصل على كل ما تتمنى وتحب مقابل أن تتخلى عن نعمة وحيدة من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وهذه النعمة بكل بساطة هي اللعاب الذي تبصقه وتتفله كلما شعرت بالغضب والحنق ...، فما رأيك؟ - موافق بكل تأكيد، فهات ما عندك، أو دعني أودع هذه الحياة التي تستحق اللعن بدل الوداع. لم يعلم كم مرّ من الوقت فوجد أن أحلامه المستحيلة وأمنياته البعيدة قد تحققت، فلم يعد يرى في حياته جوعا أو ظمأ أو حرارة حر أو برودة قر، وأصبح لديه ما أراد من مال، وقد تخلى في سبيل ذلك عن اللعاب الذي لا قيمة له في حياته بعد أن توقفت الغدد عن إفراز الريق. قرر الشروع في الاستمتاع بوضعه الجديد فطلب من خدمه إعداد مائدة كبيرة وملأها بما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات، وقد عزم على التهام هذه المائدة من أجل إشباع الجوع والعطش العتيق، ثم شرع في الأكل فإذا به يجد صعوبة في المضغ والبلع بسبب غياب الريق، فاضطر إلى تعويض هذا الريق بالماء أو بعض السوائل الأخرى، وقبل أن يشبع من الأكل وجد أنه قد شرب لترات من الماء والسوائل، وأصبح كلما أراد الأكل احتاج إلى أضعاف مضاعفة من السوائل، وبالتالي الحاجة الماسة إلى التردد المستمر على الحمام. كما أصبح لا يستطيع الحديث بشكل مستمر إلا بشرب الماء المتواصل إذ يجف ريقه قبل أن ينهي الجملة الواحدة، كما أنه عند النوم وبسبب توالي الشهيق والزفير يجف ريقه وتتصلب عضلات الفم وجهاز التنفس فيكاد يختنق، فيضطر أن يداوم شرب الماء كل فترة، فأصبح لا يستطيع النوم ليلا أو نهارا، وقد أصبحت حياته وقفا على ارتياد الحمام بشكل لا يتوفق حتى أضحى يقضي ثلاثة أرباع وقته فيه، كما أنه لم يعد يفارق كوب الماء عند كل لقمة أو كلمة أو نومة. اغتم غما شديدا وبدأ يفكر في وضعه الجديد والألم الذي يلازمه، وقلة النوم، وصعوبة النطق، وخطورة الأكل، وبعد أن أعياه عسر حاله، وانعدام حله واستحالة انفراجه، أضحى يقضي نهاره وبعض يومه في المكان الذي سمع فيه ذلك الصوت لعله يسمعه من جديد، فيتراجع عن الاتفاق السابق لعله يعود إلى نعيمه الضائع، ويتخلص من هذا الجحيم المقيم. مضت أيام وشهور وسنوات، ومضى عمره مع مضي الزمن، ولم يسعد بسماع ذلك الصوت مرة أخرى إلا في أحلامه.