المبدع عبدالله عدالي الزياني يرحب بالقراء الكرام في حريقه السادس عشر من حرائق المائة عام ويتمنى لكم سنة سعيدة من غير حرائق الحلقة 16 و تتسيب اللغة مع تسيب التهديدات و النزاعات؛ "إلى نخليها في بوك راني ماشي من أولاد زهرة"،"إلى تبقى فيك تبكي عليا تادلة كلها!! هناك أمة القطط و الكلاب الضالة المتساكنة مع المواء و النباح و المطاردات..و الذباب و الناموس..كل شيء يتساكن في هذا العالم المحاصر بأسوار المزابل و المستنقعات و الروائح و الأولياء و الأبالسة..في هذا العالم، اكترى لنا الجيلالي براكة بمئات الألوان و بدون عنوان و لا اسم،الا كاريان سانترال! فتح صاحبها الباب بكُلاّب و هو يزيل قطعة خشبية مُسمّرة اعتبرها مفتاحا. قال: -شوفو راها واسعة و نقية و هانية! غلى تهليتو فيها راها تاعتكم. تسلم من أبيكم عددا من الفرنكات و أشعل شمعة و راح. قال الجيلالي: -ابقاو هنا أنا جاي. و ذهب الجيلالي و لم يعد! أمسك أبوكم الشمعة و تطلّع إلى جنبات البراكة الخالية من كل شيء و نحن لا نملك إلا ما فوق أجسادنا من ملابس و هي مجرد خروق..هدّنا التعب و الخوف و القلق، فجلسنا القرفصاء و نحن نتحسس أرضية البراكة. مضى زمن حتى تجمد الدم في أرجلنا و الشمعة تكاد تخبو. من البراكات المجاورة تصاعدت روائح الطبخ، المرقة و الكسكسو و الخبز و روائح أخرى لم أميزها. كانت إيزة في ظهري نائمة، و فاطنة الكبرى أصبحت متعقلة و صامتة و مستسلمة للمكتوب. فاطنة الصغرى و رابحة بدأتا تبكيان من الجوع. وقف أبوكم فجأة و قال: -هاد الفرنكات اللي باقين نمشي نشري بهم حصيرة إلى صبتها. تعلقت به صائحة: -لا لا!! تمشي تضيع في هاد الزحام ما باقي ترجع. نمشيو كلنا و لا نبقاو كلنا. كنت متشبتة بتلابيب جلابته المهترئة و كأنه سيهرب منا. أحنى رأسه و صمت. سلخ الجلباب من على جسمه و فرشها على أرضية البراكة و قال: -الجيلالي ما يهرب علينا أبدا، شي حاجة جرات لو! و جلسنا نتزاحم على خرقة الجلباب. انطفأت ذبالة الشمعة فغرقنا في ظلام دامس. تصاعد بكاء البنات إلا فاكنة الكبيرى، و بدأت ضربات الجيران على الجدران الفاصلة بيننا احتجاجا على الضجيج. لم نكن وحدنا نثير الضجيج، فقد ارتفعت أصوات مشاجرات و خصامات و سباب و تلاعن و هرولة أشخاص يجرون عبر الأزقة. بدأت أندم على مغادرة الدوار، ذلك العالم الساكن الهادئ المليء بالصمت و السلام و الهدوء. نامت البنات من التعب و بقينا جالسين أنا و أبوكم القرفصاء تجنبا لبرودة الأرض. لم ندر متى طلع الصباح، فظلام البرّاكة يصعّب تمييز الليل من النهار، إلا أنّ الصخب و أصوات المارة و ذبيب الحياة دلّنا على انبلاج صبح جديد في عالم جديد لم نتمنّ أن نراه أو نعيش فيه. فتح أبوكم البراكة فرأينا ضوء النهار، نهار كاريان سانترا. قال: -واش احنا غادين نبقاو هنا حتى إيجي سيدنا جبرين يوكلنا؟ نوضي نشوفو آش نديرو! أيقظنا البنات و بدأنا نناقش كيف سنتعرف على البرّاكة عندما نعود. نترك الباب مفتوحا و ليس لنا شيء نخاف عليه، و لكن، ماذا إذا جاء أحد و احتلها؟ نعقد شرويطة على الباب أو نضع حجرا أمامه. نعد البراريك و نسير في اتجاه واحد لا يتغير. لكن ماذا إذا انعطفنا يمينا أو شمالا؟ تكدسنا أمام الباب، أربع بنات و رجل و امرأة، قادمون من لا مكان، بلا خريطة تثبت وجودهم على الأرض أو السماء. نحدق بذهول في الدنيا الغريبة و نلتفت في كل اتجاه. أينما التفتنا تمتد أزقة بلا نهاية ببشر ينهمرون كمطر لا يتوقف في صفوف تختل و تتشابك كالنمل. في حيرتنا الشبيهة بقرن، خرجت امرأة من البراكة المجاورة و حدقت فينا. مرّرت عينيها علينا من فوق إلى نحت. كانت ترتدي ثيابا نظيفة و تشد رأسها بشدٍّ أصفر شبيه بشدّ الحاجات. قالت: -صباح الخير! أجبت: -صباح الخير ألا لا! هيئتنا المزرية تترجم مأساتنا، فلم تكن في حاجة إلى أن تعرف أكثر مما ترى. سألت بلطافة و هي تبتسم: -منين انتم في الناس؟ أجبت: -من بني عمير ألا لا! صمتت لحظة مفكرة ثم قالت: -آه! انتم تادلويين. لم أفهم ما علاقتنا بقصبة تادلة و لكن عرفت بعد ذلك أننا كنا جزءًا من منطقة تادلة. سألها أبوكم: -ابغينا نشريو شي حاجة لهذا الدريات، ما عرفنا فين نمشيو. أجابت مبتسمة: -تسناو هنا، هانا جايا. نظرنا إلى بعضنا في حيرة و بقينا منتظرين و هي تدخل برّاكتها. بعد لحظات برز رجل في ثياب نظيفة و لحية بيضاء و قال: -صباح الخير عليكم! زيدو تفطرو. قالت لي الحاجة مراتي راكم برّانيين من تادلة. تبعناه إلى الداخل. مدت الحاجة يدها إلى ظهري و سحبت إيزة هامسة: -سبحان الله على عينين هاد البنية! الله يحجبها! ضمّتها إليها و قبّلتها غير منتبهة إلى رجليها الحافيتين المتسختين. كلنا كنا شبه حفاة و عراة. ذهلت لا رأيت، هذا العالم المخفي الذي يناقض ما هو في الخارج. ثلاثة أبواب متداخلة كل منها يؤدي إلى براكة منفصلة عن الباقين. على اليمين توجد الكشينة و على اليسار غرفة فيها سرير من الخشب المنقوش مغطى ببطانية ملونة و مخدتين و أرضها مفروشة بقَلْع مشمع ذي ألوان براقة. في مواجهتنا غرفة مفروشة أرضيتها بنفس القلع الفاقع الألوان تمتد فوقه عدة زرابي و مخدات محشوة بالصوف. سار أمامنا الحاج و قال: -زيدو مرحبا بكم! لاحظ ترددنا و نحن ننظر إلى أرجلنا المتسخة فقال: -أسيدي زيدو! احنا كلنا مسلمين بقلوبنا ماشي بحوايجنا. نهار تولدنا كنا بلا حوايج. و جلسنا حائرين. الغرفة تبدو كمقصورة، بفراشها و القلع المشمع الذي يغلّف جدرانها و سقفها، جعلتنا نحس أننا في عالم آخر غير كاريان سانترا الذي رأيناه في الخارج. الأثاث و الأواني و الفراش و شكل البراكات يبدو من عالم آخر لم نتعرف عليه من قبل. مائدة منقوشة مغطاة بمشمع ملون و صحون ملونة و أكواب و إبريقين صينيين..صاح الحاج: -القهوة الحاجة! همست في نفسي حائرة؛ "آشنو عي القهوة؟" لم أحضرت الحاجة الإبريق و صبّ الرجل ما فيه في الكوب ذهلت، شراب أسود اللون يشبه القطران! في أيام العز شربنا كل شيء أبيض، اللبن و الحليب و الرايب و هاد القهوة آش هي؟ ثم صبّ عليها الحليب فتحول السائل إلى لون رمادي. لاحظ الحاج ترددنا فصاح: -زيدو! كولو! هدي دار بيضا! تعرف فيها اللي ما يتعرف! السيعمار لبلادنا فيه نقمة و فيه نعمة. نقمة ما عدنا سيقلال! و نعمة كل يوم نتعلمو حاجة جديدة. كل شي كايجي من ورا البحر. باسم الله كولو! حتا احنا لما جينا كنا جيعانين و عريانين. الله الرزاف و دار بيضا! غصت المائدة بالمسمن و الزبدة الرومية و البيض المقلي. أكلنا كالمجانين و المرأة تملأ المائدة و تعيد حتى بدا لي أننا لن نتوقف و لن نشبع. نظر إلي أبوكم فخجلت ثم تراجعت عن المائدة و فعل نفس الشيء. أطعمت إيزة بيدي في حين كانت أخواتك الأخريات تُقمن فريسة على المائدة. انتهت الحاجة من طبخ الأكل بعد أن توقفنا. لقد أغرمت بالقهوة، ذلك السائل الشبيه بالقطران و المخلوط بالحليب. تحدثت الحاجة بابتسام. قبل أن تبدأ حرب الألمان و الفرنسيس بحوالي عام، هرب كل أهل الدوار و لم أدر أين ذهبت أمي. ما وراء مدينة الجديدة، غادرت الدوار و أنا أسير بجانب البحر، جائعة عارية، آكل السمك الذي يرميه البحر و أنام ليلا على الرمل. أيام لا أذكر عددها، حتى وصلت سيدي عبد الرحمان، نفّعنا الله ببركته. ارتميت أمام القبة فاقدة الوعي. عندما استيقظت، وجدت عددا من النسوة تطلقن علي البخور و تسألنني من أنا. لم أعرف جوابا إلا أن أهلي اختفوا و تبعت البحر إلى هنا. أطعموني حتى شبعت. قالت لي امرأة: -يالله تمشي معايا تخدمي عند النصارى! ما كنت عارفا شكون النصارى. باغيا نعيش و السلام. في حي أنفا، الفيلات و القصور و الديار لكبار، خدمت عند النصارى. علموني كل شي، الغسيل و الطياب و التجفاف و حتى الجردة كنت نحفرها..واحد النهار مشيت للحانوت وجدت الحاج موسخ مغوفل و مخزون في الركن. قال لي: -ألا لا! أنا جيعان! مشيت نجري عند النصرانية ڭلت ليها: -مدام! واحد الراجل حيعان ابغا شوية الخبز! سولاتني انت ما يخاف فاطنة؟ قلت ليها: -نو مدام، هو راجل جيعان! قالت : -جيبيه يخدم في جردان. و كذلك كان! تزوجنا و حطينا الراس على بعضنا و جمعنا فليسات، حتى لواحد النهار قال لي النصراني: -فاطنة احنا يمشي لفرانس، تمشيو معانا. قلتها للحاج قال : -لا! قطران بلادي و لا عسل البلدان. جمعنا فليسات و شرينا هاد البرّاكات و حجينا. ما جاب الله أولاد و لكن الحمد لله.! الحاجة!! يا ريت نلبس الشّدّ لصفر و الشقة البيضا و البلغة الصفرا و يسموني الحاجة! ضحكت من نفسي و قلت؛ "آش خاصك يالعريان؟ قالو، خاتم يا مولاي! كنت أحلم، و لِم لا؟ أليس من حقي أن أحلم و أدرك بالحلم ما لا يدرك بالواقع؟ رافقتنا الحاجة إلى الخارج و هي تقول: -تسناوني هانا جايا ناخدكم تعرفوا الكاريان. قال الحاج: -أنا ناخذ سيدي خليفة معايا، نتلقاو هنا بعد ساعتين. أصبت بالخوف من الزحام و التزاحم و من أن تضيع مني إحدى البنات، نضيع كلنا أو تضيع منا الحاجة. مشينا في زقاق طويل و عيني على الحاجة أكثر مما هي على الدنيا التي تغلي بكل شيء، البشر و العربات و الكلاب و القطط و البضائع و كل أنواع الروائح و العفونة..و البراريك. إيزة في ظهري و رابحة في قبضتي اليمنى و فاطنة الصغيرة في قبضتي اليسرى، في حين أمسكت الحاجة بفاطنة الكبيرة. ابتعدنا قليلا فتوقفت الحاجة و التفتت وراءها قائلة: -شوفي الجامع! الصمعة ديالو اعلا نت البرارك! البراكة ديالنا هي اللي ملاصقة معاه من ظهرو. فين ما مشيتي كاتشوفي الجامع. سيري وراه و ها البراكة. غلى تلفتي قولي الحاج الحريزي. كان كل شيء قد انطلق من مرقده و بدأت حرب الحياة بكل أشكالها و أساليبها التي لم أتصورها من قبل. عربات بكل الأحجام تجر الأجساد أو تربط إلى حمير محملة بالفواكه و الخضر و التوابل و النعناع..أصوات مبحوحة تنادي معلنة الأسعار و الجودة و الدوام..و الدوام لله. الذي أدهشني، هم بائعو الماء. لن أصدق أبدا أن الماء يباع. صفائح من القصدير يحملها رجال في أيديهم و على أكتافهم، نساء يحملنها فوق رؤوسهن، الجميع يتصايح: -يا ها الما لحلو يا عباد الله، ها الما لحلو! نظرت إلى الحاجة في استغراب. قالت: -هذي بلاد العجب يا التدلاوية، كل شي فيها يتباع و يتشرى! كنا نسير و أنا ألتفت بعدم اطمئنان لكي أتأكد من طريق العودة إلى البراكة. يمتد الكاريان على أرض منبسطة، كل شيء يمتد على مرمى البصر، و تضل صومعة الجامع عالية واضحة. تراءت لنا حفرة هائلة تمتد على مساحة لا تحدها العين يتطاير منها الغبار و أعداد من الشاحنات الهائلة يشحنها عمال بالحصى و أخرى بآلات غريبة الأشكال. قالت الحاجة: -هذا هو كاريان سانترا تاع الحجر اللي كاتبنى به المدينة. حول المحجر حلقة هائلة من أكوام الأزبال و الأخشاب و البراميل و الصفائح و السيارات المعطوبة و إطارات العجلات...و بشرٌ ينقبون في المزابل و يجمعون كل شيء في أكباس من الخيش، و آخرون يتربصون و هم يقضون حاجتهم محاولين التستر وراء كل شيء عال على الأرض. قالت الحاجة: -خلي البنات يتنفسو. هذا هو بيت الما تاع الكاريان. و لكن ما تجي في الليل! رجعنا من زنقة أخرى موازية و أنا ألتفت للتأكد من معرفتي لطريق العودة. قالت الحاجة: -شفتي !الصمعة باينة! شتان ما بين فضاء الدوار الهائل و فراغه و اتساعه و ازدحام الكاريان و كأن أمة البشر كلها بعثت هنا. كان هناك مكان يزدحم حوله الناس في صف طويل من مختلف الأعمار و الأجناس و الألوان، يضعون أمامهم صفائح مختلفة من القصدير و البلاستيك، يدفعونها بأرجلهم كلما تحرك الصف..قالت الحاجة: -هذي هي السّقّايت، العوينة. من هنا يسقيو الناي الما. اللي عندو لفلوس كايشري. الما رخيص! كاينين سقايات اخرين في الجهة الثانية من الكاريان. تزيل أمي منديل رأسها كاشفة عن شعرها الكوب ڭارسون و تدفن سبابتها في دغل شعرها الأحمر الخفيف، ثم تنحني حتى تمس جبهتها الأرض و تقول: -شوف أوليدي هنا. تتحسس الجرح الشبيه بالنتوء البارز و الخالي من الشعر. أثر الطارو ما زال في رأسي. على مرّ السنين لم تختف نقوش المحنة من جسد أمي. من شعرها القصير إلى عضة الكلب إلى أثر صفيحة الماء التي حملتها فوق رأسها لسنين عديدة، إلى النواح الصامت و التنهدات التي خلفتها جروح إيزة ذات العيون الحرشة، و التي تحدث شروخا لم يستطع الزمن أن يمحيها من ذاكرتي أنا و أمي التي جعلت مني بحيرة تصب فيها روافد الزمن المر بكل أحزانه و عذاباته. لم يكن هناك من أحد يستمع لأحزانها و عذاباتها غيري. تلبستني مأساتها حتى أصبحت تدور في دمي مع القلب و الروح و العروق. تحولت الكشينة بدخانها و روائح طبخها إلى معبد وثني تتمّ فيه الصلوات إلى الحكي و الأحزان و التأوهات، على ما مضى و ما فات. لم أكن أملك شيئا لأمي أكثر مما امتلكت. لقد شبعت و لبست و تجولت و حصلت على كل ما حلمت به. شيئان لم أستطع أن أحققهما لأمي، أن أبقى إلى جانبها عمري كله لأستمع إلى حكيها الذي لا ينتهي، و الحج إلى بيت الله الحرام. و مع ذلك لا أذكر أن أمي أبدت رغبتها في الحج.