انتصف الليل وهو لايزال ممدودا على فراشه ينظر إلى شاشة حاسوبه , يتنقل من موقع إلى آخر , ما أجمل سكون الليل , قال لنفسه وقد خطرت بباله ذكريات جميلة مع الليالي البيضاء التي كان يقضيها في المذاكرة زمن دراسته بالثانوية العامة والجامعة , ذهبت تلك الأيام الجميلة من حياته رغم أنه يشعر كلما تذكرها أنها ضاعت من عمره , لكن سكون الليل ظل يتجدد مرة تلو الأخرى لا يفارقه فراقا أبديا طالما هو على قيد الحياة , وكيف يفارقه وهو النافذة الزجاجية البيضاء التي عكست الواقع في أشعاره التي تجود بها خواطره بين الفينة والأخرى , حيث كان ولايزال يعرضها على زملائه فتنال استحسانهم . استقر رأيه على فتح موقع التواصل الاجتماعي المشهور ليطلع على أحوال زملائه وعلى ما جد من أخبار الساحة السياسية الوطنية والدولية , كانت الصور والفيديوهات تمر أمامه وهو يحرك زر فأرة حاسوبه , لم ير ما يثير انتباهه عدا أدعية دينية وصور الخراب بسوريا والعراق التي أصبحت أمورا مألوفة لدى الإنسان العربي , يا لهول الكارثة , ماتت الأنفس وتخربت الديار والعقول حتى صار العربي والمسلم يتقبل بصدر رحب مآسي إخوانه في كل بقاع الدنيا وما له من سبيل للاستنكار إلا قلبه . سمع ثلاث دقات على باب منزله فجأة , قام من فراشه مندهشا , من سيطرق بابه في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟ اللصوص مثلا ؟ وماذا سيسرقون له ؟ فتح الباب دون تردد , تأفف قائلا : " السمسار ؟ ماذا تريد ؟ كم مرة قلت لك إن أواني والداي النحاسية رحمهما الله ليست للبيع , سأحتفظ بها تذكارا منهما ولو هلكت جوعا " , ضحك الرجل ملء فيه وقال : " لا عليك يا علي , جئتك بفرصة عمل تدر عليك أموالا طائلة دون متاعب تذكر " رد الشاب ساخرا : " عمل بدون تعب لا يوجد في هذه البلاد السعيدة كما تعرف يا عم " , قاطعه الرجل : " بل موجود في الحملة الانتخابية مقابل مئتي درهم لليوم مبلغ مهم دون متاعب يا علي " , تنهد الشاب ساخرا : " تبا لك , طننت أنك وجدت لي تأشيرة للعمل بالخارج " , ضحك الرجل ضحكة لا معنى لها وأردف : " العمل بالخارج سيأتي بعد الانتخابات , كن على استعداد , سآتي لإيقاظك في الصباح الباكر " , " ولكن لم تخبرني باسم المرشح والحزب , ومن قال لك أنني مستعد لما تطلبه مني فأنت تعرف موقفي من الأحزاب ومن الانتخابات , وألسنة أصدقائي لن ترحمني إن ضبطوني في حملة لأحد المترشحين " , " لا تخف يا علي لن نشارك في الحملة بمدينتنا هاته , سيحملوننا في الصباح الباكر إلى مدينة أخرى نقضي اليوم هناك ثم نرجع في المساء , لا عين رأت ولا أذن سمعت , أما المرشح فأنت تعرفه جيدا , الشريف عن حزب السلحفاة " , ابتسم الشاب ابتسامة ساخرة وقد حضر في ذهنه خطاب لزعيم حزب السلحفاة يشرح فيه دوافع اختيار الحزب لهذا الرمز مدعيا أن السلحفاة رمز للبراءة والخير , المخلوق الذي لا يؤذي البشر كما أنها رمز للحياة لأنها لا تعيش إلا في الأدغال وأماكن تجمع المياه وهي كذلك رمز للتنمية المستدامة التي تستلزم الثبات على العهد والدوام رغم بطئها . انصرف السمسار إلى حال سبيله وهو يقول : " ادخل لترتاح يا علي سآتي لإيقاظك في الصباح الباكر " . رجع الشاب إلى فراشه بعدما أقفل باب منزله بإحكام , قضى ليلته يتقلب في مرقده ذات اليمين وذات الشمال , ضاعت المبادئ والأحلام الجميلة , طالما اقتنع وهو يتابع دراسته بالكلية بأن من تحزب بهذه البلاد فقد خان , لكن الفقر كاد أن يكون كفرا اضطرته ظروفه أخيرا ليركع أمام جبروت الحاجة . ارتسمت أمام عينيه صورة المرشح الشريف من جديد , رجل الأعمال المشبوه وسبله الملتوية في الترامي على أراضي الفقراء والمساكين وممتلكات الدولة , وقهره للعمال بالإجهاز على حقوقهم وطردهم التعسفي , يا للزمان المر كيف تصرف , كم حلم وهو يتابع دراسته بالجامعة بتغير الأوضاع ببلاده نحو الأفضل , لكن الأمور سارت عكس أحلامه , حتى أصبح المقهور يختار جلاديه رغما عنه , وصار الفقير يقود حملات الطغاة الانتخابية بنفسه , وقد بصم بصمة نهائية على صك عبوديته . فكر في العدول عن وعده للسمسار , لكن الرجل طالما جاد عليه بفرص عمل أنقذته من ذل السؤال , وقد توقف عن الشغل أكثر من شهر , كل ما ادخر من دريهمات أوشك على النفاذ , فاتورة الماء والكهرباء في الانتظار , وفصل الخريف على الأبواب حيث يزداد سوق الشغل شحا , لا مفر له إذن من قبول فرصة عمل صديقه السمسار , حتى وإن اضطرته الأوضاع لرمي أوراق المرشح في حاوية الأزبال خلسة , فأموال الحملة جادت بها الدولة على رؤساء الأحزاب , هي أموال الشعب أصلا , لماذا لا يكون له نصيب منها ؟ دارى نفسه وعقله بهذه المبررات ثم استسلم للنوم مرغما . ركبوا سيارة من الحجم الكبير في اليوم الموالي متوجهين نحو مدينة العمالة , كانوا عشرة نفر , إضافة إلى قائد المجوعة وسائق السيارة , توقفوا عند وصولهم على مقربة من الثانوية التأهيلية للمدينة , تجمعوا حول قائد المجموعة الذي وزع عليهم أوراق الحملة قائلا : " سنقوم بحملة خفيفة مع دخول التلاميذ إلى المؤسسة , أنتم ملزمون بتوزيع الأوراق واستمالة الناس لكسب تعاطفهم , أي تصرف غير لائق يقصي صاحبه من الحصول على الأجرة , مفهوم , انطلقوا " . دنا علي من السمسار وهمس في أذنه : " من يكون قائد المجموعة ؟ " , التفت السمسار يمينا وشمالا وأجاب بحذر : " إنه تقني شرس يعمل بإحدى ضيعات الشريف " , اقتربوا أكثر من باب المؤسسة وراحوا يوزعون الأوراق على التلاميذ , كان أغلبهم يعرضون عن أخذها , تناهى إلى مسمع علي صوت أحد التلاميذ قائلا : " باراكا أبوزبال من الضحك على الناس سروا تخدموا على روسكم " , تسمر الشاب في مكانه وقد عمق كلام التلميذ من جراحه , نظر القائد إليه وصرخ بوجهه : " تحرك يا أخي وزع الأوراق ماذا تنتظر " , التفت علي نحو حاوية الأزبال , دنا منها ورمى داخلها كومة الأوراق , نزع بدلة الحملة ورمى بها إلى الأرض اغتاظ القائد صارخا : " ماذا نفعل أيها الوغد ؟ " , لكن الشاب استدار منصرفا وصوت القائد يتعقبه : " راك معروف ستنال جزاءك " . راح علي يتجول بالشارع الرئيسي للمدينة , كانت الحركة لا تزال خفيفة , فاليوم لا زال في بدايته , دلف إلى أحد المقاهي , أخذ مقعدا مريحا استرخى لحظات ثم تناول قهوة الصباح , وانصرف إلى المحطة الطرقية حيث أخذ الحافلة راجعا إلى بلدته . بكر في الاستيقاظ في اليوم الموالي من النوم , غادر المنزل متوجها نحو الموقف , حيث جاد عليه القدر بفرصة عمل هذه المرة بورش للبناء , استغرق وزملاؤه في الكدح حتى منتصف النهار موعد وجبة الغذاء والصلاة , أخرج هاتفه , شغل موقع التواصل الاجتماعي , متفاجئا بأول فيديو عن الحملة الانتخابية وقد كتبت تحته عبارة : " تعرض أنصار حزب السلحفاة للرشق بالحجارة بأحد أحياء العمالة في اليوم الثاني من الحملة الانتخابية " . عبدالرحمان المكاوي : 03/10/2016 م .