الصلا والسلام على رسول الله… كانت الأصوات تتردد من بعيد، فيما حشد هائل من النساء والفتيات يزحف على امتداد الشارع ، مزيج من الأهازيج و أصوات « الطعارج والبنادر»، سكان الحي الشعبي لم يستوعبوا الأمر، ماذا يجري في هذا الوقت المتأخر من الليل ؟ هل الضجيج يتعلق بهدية زواج ، الفضوليون يشرئبون بأعناقهم من الشرفات والنوافذ، لعلهم يستطلعون الأمر 0 فجأة تتراءي لهم نساء وفتيات من مختلف الأعمار، يحملن « قوالب السكر» و قنينات الزيت، و صينيات فوق الرؤوس تضيئها الشموع المشتعلة، وسط رنين الزغاريد التي تتعالى وسط أرجاء الحي ، ليس هذا فقط بل إن الحشود كان يطغى عليها زي موحد, تعكسه الصدريات والقبعات, والمناشير التي توزع هنا وهناك مرفوقة بالشعارات الحزبية ، « داها وداها والله ما خلاها… » كانت تتردد على ألسن الفتيات والنساء، أخيرا يتكشف لسكان الحي أن الحشود البشرية التي كسرت هدوء ليلهم، تشارك في الحملة الإنتخابية لأحد المرشحين لإنتخابات يوم غد. سكر وزيت وشموع الموكب البشري أضفى على ليل هذا الحي الشعبي أجواء احتفالية ، و كانت الصيحات تتعالي من بعيد، لتنضاف إلى سلوكات ينهجها مرشحو بعض الهيئات السياسية، من قبيل توزيع قوالب السكر ليلا ، لاستمالة أصوات الناخبين، ومعاهدة الساكنة بإنجاز مطالبها عاجلا ، كتزويدهم بالماء الصالح للشرب أو تبليط الطرق والأزقة و توفير الأمن، وغيرها من الخدمات والبنيات الأساسية، فيما أصبح يتعارف عليه في الأوساط الشعبية ب « العار» 0 النساء يملأن الدنيا صراخا وهرجا، يرافقهم العديد من الشبان ب «الكاسكيطات» التي تحمل شعار الحزب، وهم يلوحون بالأوراق والمناشير ويحثون السكان على التصويت لهذا المرشح، الذي اعتبروه مفتاحا لكل المشاكل التي تعرفها المنطقة، خلافا لباقي المرشحين الآخرين ممن وصفوا بكونهم ” ماشي ولاد الدرب ” , ووسط الهرج والمرج تتحدث نساء الحي عن التصويت للنساء فقط, حيث خلقت اللوائح الوطنية ارتباكا كبيرا لدى أوساط الناخبين، خاصة أنها قسمت الناخبين إلى ذكور وإنات وهو ما تعاملت معه بعض الناخبات بمنطق « الحمام » حيث حمام الرجال ممنوع على النساء, و بعض النساء أكدن أنهن سيصوتن على النساء ليدافعن عن حقوقهن، ويتفهمن أكثر همومهن اليومية، فيما عبر بعض الرجال عن رغبتهم في التصويت على الرجال اعتقادا منهم أن هناك تنافسا بين الجنسين . الحشد الذي اقتحم الأحياء المختلفة ليس كل المشاركين فيه مناضلين بالمعنى المعروف في الأحزاب السياسية، وإنما مأجورين يعملون بأجر يومي، مقابل القيام بمهمة , فموزعو المناشير يحصلون على ب 100 درهم يوميا و » الحياحة» قد يصل المبلغ معهم إلى 500 درهم يوميا، ولا يمكن تغافل الأدوار التي تقوم بها متممو اللوائح ثم النكافات والخطاطون , فمهن عديدة تزدهر بشكل كبير خلال الحملات الإنتخابية، وتعرف انتعاشا لا مثيل له ، خصوصا أن الغلاف المالي الإجمالي الذي تم رصدته الدولة لتمويل العمليات الانتخابية 22 مليون درهم، عبارة عن دفعة أولى من مساهمة الدولة في تمويل الحملات لفائدة الأحزاب السياسية، وهي المبالغ التي تشكل دعامة مهمة لتمويل بعض الأنشطة المختلفة والمهن، واكتساب المزيد من المداخيل 0 « ماركوتينغ» إنتخابي أنفا الجميلة والهادئة … لم تتخل نهائيا عن طابعها الهادئ ، هنا لا أثر لتجمعات النساء والأطفال والمراهقين الذين يرددون هتافات تدعو للتصويت على هذا المرشح أو ذاك .. ولاأثر للزغاريد أو « البنادر والطعارج ..» ، مظاهر كلها تنتفي في هذه المناطق الراقية، هنا بين القصور والإقامات الفارهة لغة موليير هي اللغة الأم، والمناشير عبارة عن أوراق صقيلة بالوان زاهية، لا تختلف كثيرا عن المجلات الأجنبية الذائعة الصيت، ومن كان يعتقد أن الحملات الإنتخابية ليست طبقية، فعليه بزيارة منطقة أنفا بالدارالبيضاء 0 كان الوقت ظهيرة، فيما مجموعات صغيرة مشكلة في الغالب من فردين اثنين, يرتدون قبعات موحدة الألوان, ويحملون حقائب ظهر (ساكادو) مليئة بالمنشورات، كل مجموعة تتكلف بمقطع معين, تستهدف بهدوء علبة الرسائل عند مداخل الفيلات, توضع فيها المناشير بعناية ثم تغادر المجموعات في صمت بحثا عن علبة اخرى، مهمة الموزعين هنا مقنعة فقط بالألوان الحزبية, لكنها في حقيقتها لا تختلف عن توزيع المنشورات الإشهارية، والحقيقة أن منشورات البرامج الإنتخابية، تختلط هنا بإعلانات الصالات الرياضية ومنتوجات التخسيس، أو مقاومة تساقط الشعر، وإشهارات المنتوجات الإلكترونية وملصقات الأسواق الممتازة . بعد مرور الموزعين مباشرة يتقدم حراس الفيلات إذا لم يتصادف وجودهم خارجا، غالبا يأخد الحراس الأوراق من علبة الرسائل يحتفظون بالإشهارات و المنشورات التي توزع بالمجان، ويهملون المنشورات الحزبية ، فالسياسة تأتي في آخر قائمة اهتمامات سكان هذه المناطق ، لكن ذلك لا يهم الشبان والشابات الذين يوزعون المنشورات ويمتهنون في الحقيقة مهمة التوزيع ويعرفون هذه المناطق جيدا ، و كل ما يهمهم هو توزيع المنشورات بمقابل مادي , ولا يهم مصير المنشورات الإنتخابية، أو اهتمام سكان هذه الأحياء من عدمه بالإنتخابات التشريعية، أحد هؤلاء الشبان صرح بالقول « يمكن أن أوزع المناشير للجميع شريطة تحقيق عائد مادي ، وهذا هو الأهم » 0 أنفا في عز الحملة الإنتخابية تعيش على ايقاعها المعتاد، بين الفيلات والمساكن الراقية تقل أعداد المارة، وتنتشر الخضرة والحدائق وتكتسي الحملة الإنتخابية طابعا خاصا يختلف كثيرا عن باقي مناطق الدارالبيضاء، فهي لمن لمن لا يعرفها أرقى حي في الدارالبيضاء وأكبر تجمع بورجوازي في المغرب موطن الأغنياء والأثرياء والعائلات الشهيرة، و الأجانب والقناصل حيث لاتزال تحتفظ بطابعها الكاليفورني، تعيش حياتها بشكل جد عادي ورومانسي، لا شيء يدل اطلاقا على أنها في أجواء حملة انتخابية قوية، لا ملصقات أو منشورات تتقاذفها الرياح، لا يمكن نهائيا هنا تواجد كراجات أو دكاكين انتخابية أو تجمعات لإغراء السكان بالتصويت على هذا المرشح أو ذاك، وإنما يتم الأمر بطريقة «الماركوتينغ » من قبل شركات التوزيع والمجموعات الكبرى 0 التي تحقق عائدات مهمة خلال فترة الحملة الإنتخابية . نكافات وطيابات ومنحرفون كل مرشح يستعين خلال الحملات الإنتخابية, بالشباب العاطل عن العمل و النساء الباحثات عن مورد، ويقوم هؤلاء “الحياحة” بترديد الشعارات والهتاف باسم المرشح ومحاولة تعبئة السكان وإقناعهم بضرورة التصويت على مرشحهم ، كما يقوم بعضهم بتوزيع المنشورات والمطويات والملصقات التي تحمل صورة ورمز مرشحهم على المارة أو على المنازل والدور السكنية كل ذلك مقابل مبلغ مالي يظفر به كل واحد منهم في نهاية النهار ، ويتراوح هذا المبلغ ما بين 50 و 200 درهم حسب كل مرشح وقوة حملته ، بالإضافة إلى الشباب والنساء يستعين المرشحون أيضا في حملاتهم الإنتخابية ببعض الفرق الموسيقية المحلية (الدقايقية, الطبالة والغياطة) , وهي مجموعات تستجيب للإغراءات المالية المقدمة لها من قبل بعض المرشحين الذين يتعمدون لفت الإنتباه إليهم بالطبول والمزامير والشعارات المرفوقة بوصلات غنائية صاخبة . بعض المرشحين الآخرين يقبلون على خدمات نساء يشتغلن في مهن شعبية وهامشية من قبيل « العرافات و الطيابات» في الحمامات التقليدية، و« النكافات» و صالونات الحلاقة , وحتى خدمات بعض المنحرفين من أصحاب السوابق بغية استمالة الناخبين يوم الاقتراع للتصويت عليهم, خاصة وأن هذه الفئات لها حضورها الوازن، خاصة في صفوف النساء وقد يستطعن إقناع شرائح مهمة بالتصويت لصالح هذا المرشح أو ذاك في هذه الانتخابات، كما يتم الإتصال بالعاملات في الحمامات التقليدية والمشرفات على تقديم خدمات التدليك قصد محاولة التأثير على النساء المستحمات واستمالتهن للتصويت في الانتخابات، و حتى الصالات الرياضية لا تسلم من هذه الحملات كما هو حال إحدى المرشحين بالدارالبيضاء, شنت زوجته حملة داخل الصالات الرياضية من أجل دعوة التساء للتصويت لزوجها, ويبرر المرشحون قيامهم باللجوء إلى خدمات هذه الفئات ، إلى كونهن يملكن إمكانيات كبيرة للتواصل مع السكان لاستقطابهم وجلب أصوات الناخبين . سماسرة برتبة مدير خلال الحملات الدعائية تنتعش مهن وحرف عديدة بسبب الطلب الكبير من قبل أغلب الأحزاب عليها ، ومن بين هذه الحرف نذكر مهنة وسطاء أو سماسرة الانتخابات ، الذين يوجهون الناخبين، ويشكل وسطاء وسماسرة الانتخابات في الغالب ظواهر لاتزال متفشية بشكل كبير في الأوساط المغربية، يتوهج نشاطها مع كل موعد انتخابي جديد، ويرجع انتشار ظاهرة سماسرة الانتخابات حسب العديد من المتتبعين للعقليات الحزبية التي تتسابق لأجل ضمان استمرار وجودها داخل المؤسسات المنتخبة، والحفاظ على مستوى تأثيرها داخل المشهد السياسي بواسطة القوة العددية لمنتخبيها داخل المجالس الجماعية والبرلمان, وعن طريق الإستفادة من خدمات سماسرة يجيدون التفاوض مع المرشحين وهنا لا يمكن الحديث عن أجرة يومية أو غيرها إنما مبالغ تقدر بالملايين حيث يتحول هؤلاء السماسرة لمديري حملات المرشحين , لهم الكلمة الأولى والأخيرة على صعيد الدائرة 0 الإنتخابات هي أيضا مناسبة لمتعاطي فن الكتابة والخط ( الخطاطين) لتطوير أعمالهم عبر تلبية طلبات المرشحين والأحزاب, التي ترغب في كتابة شعارات مختلفة بخطوط جذابة على اللافتات أو الجدران المخصصة للملصقات، و كتابة لافتة واحدة لهؤلاء الفنانين تعني بالنسبة لهم مبلغ 200 درهم، وإن كان العديد من الاشخاص غير المهنيين يتعاطون هذا النشاط من باب التطفل على المهنة، دون تغافل المنافسة القوية التي باتت تشكلها التكنوجيا ووسائل الطباعة الحديثة التي تقدم مهاما سريعة و بتكلفة أقل ، من ناحية أخرى تنتعش مسألة الدكاكين الإنتخابية، فالعديد من المواطنين لا يترددون في كراء بيوتهم ، بأسعار مرتفعة, قد لا تتوفر لهم خلال باقي أيام السنة ، بل إن البعض يسمحون بتحويل جدران منازلهم لمقرات حزبية حزبية والكل بمقابل طبعا 0 منتخبون تحت الطلب بالقرب من إحدى المقرات الإدارية في الدارالبيضاء، كان مجموعة من الكهول بسحنات لفحتها الشمس، يلتفون حول طاولة يرتشفون أكواب الشاي ويتبادلون أطراف حديث متقطع بين الفينة والأخرى، يتخللها كثير من الكلمات والمصطلحات الغامضة، لم يكن اختيار المقهى مصادفة، وإنما عن قصد فالحملة الإنتخابية في أوجها وكثير من وكلاء اللوائح بالدائرة الإنتخابية ، كانوا يستعدون لإيداع لوائح ترشيحاتهم، و هاجس مفاجآت آخر ساعة يظل حاضرا لكن الحل جاهز أيضا … في هذا المقهى لا يهم اللون الحزبي أو البرنامج، بقدر ما يهم المقابل المادي، بعض رواد المقهى كانوا يضعون إلى جانبهم وثائق و ملفات جاهزة ، تعفي وكيل اللائحة من كل الإجراءات الإدارية المطلوبة، لإستكمال أعضاء لائحته في حال حدوث مفاجأة أو انسحاب أحد الأعضاء بطريقة مباغثة، شهادات وبطاقة وطنية وشواهد عدلية وصور فوتوغرافية، يوافق اصحابها على نشرها ضمن اللوائح والمقابل مبلغ يتراضي عليه الطرفان طبعا ، هؤلاء الأشخاص نموذج لمستغلي الفرص الذين يعتبرون الإنتخابات، فرصة لا تتكرر كل يوم، والمهم هو تحقيق نوع من الإستفادة المادية، كما هو حال شهود الزور بالمحاكم الذين يقدمون شهاداتهم لكل راغب فيها، والمهم هو المقابل المادي طبعا.