سوسيولوجيا ، المحرضون الدينيون و السياسيون كانوا حاضرين في مثن أهرامات هذا العلم و نقصد بالتحديد "ماركس و دوركهايم و ماكس فيبر " و إن بشكل خفي في خضم التحليل ، حيث لا يمكن الحديث عن قوة دين أو موقف سياسي دون التركيز على دور " المحرضين " و هم أولئك الذين يجمعون حولهم الناس و يوجهون ممارساتهم في اتجاه ما يرونه بمنظارهم جوهر الدين ، و ينمطون ممارسات المؤمنين و يضعون هم بقوة النص الديني أو بقدرتهم الفائقة على التلفيق و التمويه حدود الحلال و الحرام و الكفر و الإيمان ، و كل ما يقع اليوم و ما وقع عبر التاريخ من مكارم أو فتح أو غزو أو جرم باسم الدين هو في الحقيقة يؤول إلى قوة هؤلاء و قدرتهم على الاستمالة و التجييش و الاستقطاب ، لذلك كان مهما دائما البحث في ما يستند إليه هؤلاء من مقولات و مواقف و إلى منهجياتهم المعتمدة لتحقيق الهدف ، و كان ضروريا العودة إلى هذا المتن و استثماره . سوسيولوجيا الدين في هذا السياق هي تماما كسوسيولوجيا الفعل السياسي أو باقي أشكال الفاعلية الإنسانية تحتاج لكي تكون مفيدة لأن تتجاوز عتبة الإبداع النظري و التأمل الفكري إلى مستوى الأجرأة الميدانية و تبني حس التغيير ، و السوسيولوجيا في الحقيقة كباقي علوم الإنسان محكوم عليها بواحدة من اثنتين : إما أن تكون مناضلة أو أن لا تكون ، إما أن تخدم نزوعات التحرر الإنساني بتحليلها الملموس للواقع الملموس بموضوعية و دون تزويق كلام و تزويدها للفاعلين الاجتماعيين بمعطيات و أدوات العمل الميداني و إما فلا طائل منها ، إما أن تتجه رأسا إلى التنقيب و الكشف و الفضح و التكذيب و إما أن لا تكون ، فما عادت حاجة الناس ملحة لأنواع الترف الفكري و الاستمتاع بجمالية اللغة و تماسك الأنساق ، إنهم في حاجة إلى تلمس طريق المستقبل الذي يأتي حتما من رحم علوم الإنسان عندما تكون ملتزمة و موضوعية . في سياق ما سبق قارب رواد علم الاجتماع الكلاسيكيون الدين من زوايا متعددة لكن دائما في علاقته ببعد من الأبعاد الأساسية للمجتمعات الحديثة و كان تعريجهم على أهمية رجال الدين و المحرضين واضحا في كل مرة ، و ما كان لزاما على الفاعلين في الميدان سوى التقاط الإشارات و استثمار النتائج ، لقد ركز ماركس مثلا على علاقة الدين بالاقتصاد و كان جوهر أطروحته تأكيده على كون الدين مخترق من قبل الصدامات الطبقية ، مما يعني أن بوسع السياسيين الذين يحومون حول مراكز السيادة توظيف قوته الاقناعية لتحويله إلى آلية مهمة في عملية" شرعنة" السلطة القائمة و هو ما تقوم به دائما و بجدارة و استحقاق القوى الرجعية و المحافظة،كما و بالعكس تماما يمكن للسياسيين الملتزمين بهموم عموم الكادحين تحويله إلى سهم احتجاج موجه ضد هذه السلطة نفسها و هو ما لم يثبت واقعيا ، فقد حسم المناضلون اليساريون باعتبارهم " محرضين " أمرهم و اعتبروا أن الدين نظام رمزي فوقي مستقل تماما عن التأثير في الحياة الواقعية و في عملية التغيير فهمشوا دوره ، و رددوا كثيرا عبارة أنه "علاقة ثنائية بين المؤمنين و ربهم " و من تم فبين العمل السياسي التقدمي و الدين ما بين السماء و الأرض ، و هو منطق غير صحيح ، حيث لم يكن الدين في يوم شأنا خاصا بل انه ظاهرة اجتماعية و لابد للحالمين بمجتمع العدالة أن ينطلقوا من الحقائق و لا من عجرفتهم ، من حق أي كان أن يرفض تسلط المؤسسات الدينية التي تطمح إلى قولبة الجميع و وضع الكل في سلة واحدة و تسييد منطق الطاعة و منطق "الخارج عن الجماعة كافر يهدر دمه"، من حقهم الكفر بكل التعاليم ، لكن منهجيا ليس من حق أي كان أن ينكر أهمية الدين على الأقل في تغيير توجهات جمهور المؤمنين به ، و بالتالي ضرورة التعامل معه بالحساسية التي يتطلبها . إن الدين عند ماركس يمكنه أن يخلق لا سعادة المؤمنين فرادى فقط بل السعادة الواقعية لشعب برمته ، و من اللازم هنا حسب اعتقادي أن نقرأ ماركس بقاعدة"البرهان بالخلف " ، فالدين يكون أفيون شعوب ، هدا صحيح، عندما يكون سلاحا في يد الحاكمين ، لكنه قد يكون أداة احتجاج اجتماعي في يد المحرضين من رجال الدين أو المشتغلين بالدين كمرجعية أو المناضلين التقدميين ممن فهموا المطلوب، فقد ينادي من خلاله المؤمنون بلا شرعية النظام القائم ، و ذلك أولا عندما يلقح المحرضون الوعي الطبقي و تتحول المقولات الدينية على أياديهم إلى قوة ضغط و ثانيا عندما يعي هؤلاء المحرضون أساسا أنهم يشكلون مع البقية طبقة اجتماعية تصارع أخرى من أجل العيش الكريم و توزيع عادل للثروة...لم يكن العيب في فكر ماركس إذن بل في الماركسيين عموما لأنهم ما استطاعوا الدنو من الحقل الديني. "إميل دوركهايم " باعتباره" هرما "كان يؤكد دوما على أن المجتمعات لا يمكنها الاستمرار دون التركيز على قدرات الأفراد و دعم إبداعيتهم و حريتهم بل و تقديس حريتهم و احترامهم من جهة و البحث حول المشترك الذي من خلاله يمكن إذكاء روح الجماعة لديهم ، و من تم تدعيم فكرة التضامن العضوي و الآلي كمقولات سوسيولوجية احتمى بها كثيرا و بنا عليها مشروعه . في هذا السياق يكون الدين عنصر وحدة و اندماج اجتماعي و عنصر قوة للأشخاص فرادى أيضا ، إن الإنسان إذ يناجي ربه يعترف بقوة الله و بقدراته ، و جدلا يعترف بقدرته هو كفرد على تحمل الصعاب و كذا التغلب عليها في انتظار التدخل الإلهي ، هذا الإنسان القادر على تجاوز شقائه الفردي و عبثية قدره يمكن أن يبث المحرضون في عمق ذاته فكرة العمل في أفق انفراج جماعي أو اجتماعي ، هذا المطمح لا يمكن إدراكه إلا بالتربية الدينية الواعية بدورها و هي مسألة تشتغل عليها الجماعات الدينية عبر العالم لكن بنظرة و توجه ظلامي . لقد قسم دوركهايم المادي و الرمزي إلى مقدس و مدنس ، و أكد أن انتماء الناس إلى نفس المرجعية الدينية هو في الحقيقة تسام للشعور الجماعي، لأن الدين هو الشعور الجماعي الجوهري ، و من شأن تعزيزه تحويل الإنسانية الكامنة فينا إلى دين حقيقي ، فالمجتمع ينقل إلى أفراده شعورا بالاستقلال الفردي و احترام الذات و في نفس الوقت تمسكا باستقلال المجتمع و تنقية للحياة المشتركة و تدعيم للرابط الاجتماعي و هاهنا تقع المسؤولية على عاتق المحرضين . من الأكيد أن بين تصور دوركهايم و التصور الماركسي تناقض تام، فديوركايم ينظر للتماسك الاجتماعي لتثبيت الهوية الوطنية و لمراقبة الانفلات و إعادة التوازن في كل مرة تفاديا للأزمات ، في حين يؤكد ماركس على تناقض و تناحر الطبقات كدافع للتغيير الواقعي ، و من الأكيد أيضا أن لنسقيهما تناقضاتهما الداخلية ، إلا أن بينهما مشترك و هو أن الدين عنصر وحدة تتحلق حوله طبقة اجتماعية أو مجتمع بأسره و على من يهمهم الأمر عدم إغفال أهمية المعطى الديني . "ماكس فيبر" من جهته و من خلال بحثه في العلاقة الكامنة بين "أخلاق البروتيستانتية و روح الرأسمالية" أكد على أهمية الدين في الرقي باقتصاد المجتمع و من تم بالمجتمع في شمولية أبعاده ، فالفرد قد يعمل من تلقاء ذاته من أجل تطوير مرتبة بلده في سلم النمو كما يمكن لدينه أن يكون المحفز إلى ذلك، و بإمكان الخمول الذي يحيا الشخص في عمقه أن ينسحب سلبا على عموم المجتمع و يساهم في تخلفه ، و نفهم من ذلك أن عقلنة المجتمع و "تكتكة" المشاريع و المخططات الاقتصادية وحدها لا تكفي بل من اللازم الاحتماء وراء عقلانية أخرى تستوحى من روح الدين و قوة الشخصيات الكاريزمية التي تبث في الناس حب الوطن ، لهذا فعندما تحدث "فيبر" عن أنماط السلطة و الشرعية أكد على ثلاثة أنماط أساسية و منها التي تهمنا في هذا المقام و هي سلطة الكاريزما أو قوة الشخصية ، إضافة إلى :- التقليدية أو التاريخية، و شرعية الكفاءة - ، و هنا لابد من التقاط الإشارة فتماسك التصورات السياسية و انسجامها المنطقي في علاقتها بذاتها و بالواقع يلزمها شرط يتوفر في المشتغلين بالحقل الديني و هو اقترابهم اليومي من المؤمنين و تأثيرهم المباشر على اختياراتهم و قناعاتهم ، فالإمام و الكاهن يحتكون بالناس أكثر من قائد الحزب أو النقابة و يتحدثون لغتهم بعفويتهم و بوسعهم توحيدهم حول مشاريع التغيير ، و قد أكد "فيبر" أن الوعي بأهمية سلطة الدين جعل رجال الدين يتخندقون في تصنيفات متعددة ، فكان منهم الايجابي و السلبي ، المصلح و الإمام و النبي و الساحر و المنجم و القديس ، و آلت علاقة هؤلاء بأولئك إما إلى شيخ و مريد يحرم أتباعه من حق الرفض و التمرد، أو إلى مجرد مربي يدفع تلميذه نحو العمل و الاجتهاد و هنا بالتحديد يمكن أن نتحدث عن علاقة جديدة و هي علاقة المحرض الذي يدفع الناس إلى حب الوطن و خدمته و تحصينه . المحرض إذن ليس هو ذاك الذي يجند الناس للحرب في سوريا و العراق ، بل قد يكون منا محرضون يجندون الناس لتنمية الوطن .