إلى حكيم عنكر في بيت طيني بقرية من قرى بني عمير الشرقيين، يقطن بوشتى الذي زحف الشيب على رأسه ... يدخن القنب الهندي ولا يفارق ظل حيطان مسكنه إلا بعد انحدار الشمس نحو المغيب، إنه باخوس الظل! ولأن مفهوم الزمن عنده سلحفاتي، فإنه يرى أن السريع والبطيء من الماء المنحدر من أعلى الجبل يصب في النهر، وكثيرا ما يتساءل: هل يتعب النهر بحثا عن الماء؟! ويسلم بحقيقة " إيلا بغى الزمان يعطيك لبرد يحطب ويجيب ليك" ولا يؤمن بنظرية علمية، فالأرض لا تدور في نظره، بل الرحى هي التي تدور و" كحل الراس هو اللي كيدور فكلامو". وحين يدخن عشبته يقول: الشمس أضخم شمعة في العالم، في الشرق تخاصم نفسها وتتقزز من نفاق وشقاق أهل الشرق، فتعبر طريقا غير مرئية فوق بني البشر، وفي الغرب تتصالح مع ذاتها فترقص وتغني وتكتب رسائل الى الذين تحبهم . أضحت زوجته تمج مجالسة الجارات لئلا تسمع مزيدا من كلام ينهش زوجها، هذه رحمة تراه "معكاز الدوار" وتلك فطومة تعتبر "كتافو خاوين" وتقول حياة الطالبة الجامعية "لو كان يعيش في ألمانيا في عهد هيتلر لصنع منه كفتة للقطط"... تجرأت الزوجة يوما وقالت "يابوشتى، لدينا قطعة أرضية فلاحية، اقترض مالا من القرض الفلاحي لنشتري بقرة يدر ضرعها حليبا نبيعه، وستلد عجلا نبيعه حين يكبر، فنشتري نعاجا وخرافا تتكاثر، إنك تعرف الطاهر بن العربي وحمادي بن الفاطمي وفريقش بن المولودي، كانوا "الله الله" وبفضل القرض الفلاحي هدموا بيوتهم الطينية وشيدوا أخرى رائقة من الآجر (لبريك) واشتروا جرارات، وانتفخت بطونهم، وشبعت كلابهم وقططهم التي كانت تعاني من الهزال المبين، لابد أن تقلع عن الخمول، فكلام الجارات يجرحني". دخن غليون كيف، فسعل ثم قال "القرض الفلاحي حطم عائلات جعلها أضحوكة ياديك الخلقة " فطأطأت رأسها دون أن تتفرس في وجهه لأن نظرة المرأة البدوية إلى وجه زوجها بإمعان يعد قلة حياء يكلفها الضرب وحتى الطلاق أحيانا... صمتت برهة وبعد أن هشت على دجاجة قالت منكسة رأسها " لا تخف، كن متفائلا يا بوشتى، لن تخيب" فكر ثم فكر وحين زفر قال " سأقدم على هذه المغامرة " واللي بغا يكون يكون" فباشر الإجراءات التي لابد منها للاستفادة من القرض وكله أمل في أن يصبح ميسور الحال وذا سمعة، يحضر ولائم القبيلة وحين يأتي دوره يقيم وليمة تقنع الضيوف أنه امتداد حقيقي لحاتم الطائي . وعلى غير عادته نهض مفعما بالحيوية يوم استلام المبلغ المالي، وحلق ذقنه وارتدى جلبابا وانتعل بلغة صفراء ظلت مركونة في صندوق خشبي أزرق مدة طويلة من الزمن... إلا أنه قبل ركوبه عربة الكارو التي استعارها من أخيه أصر على زوجته أن تدعو أمها لزيارتهم اليوم بعد الزوال، ومضى في الطريق دون أن يعنف الحصان الذي يجر العربة لا كلاما ولا سوطا خوفا من ارتكاب ذنب في حق حيوان لعب دورا فعالا في حياة الإنسان العربي أثناء السلم والحرب ... أخذ المال وهو نشوان ثم توجه مباشرة إلى الجوطية، وانتقى "دوارة تحمر الوجه" واشترى دلاحة كبيرة وخضرا وفواكه وتوابل ومنفاخا "رابوز" لأن المنفاخ القديم تكسر ولم يعد صالحا بعد أن ضرب به كلبه الذي أفسد عليه يوما " تقسيسة ديال الكيف" .. وأثناء عودته كان يتأمل الحقول الممتدة ويحلم بأن يجالس الإقطاعيين ويستشيرهم في أمور تهم الماشية والعلف". ولما وصل إلى البيت، وجد الأبناء والزوجة والحماة في انتظاره مغتبطين ناظرين إليه باهتمام غير مسبوق، وانخرطوا جميعهم في إدخال ما تبضعه الأب الذي جلس على كومة قصب هو يغني بهمس "الله على راحة الله ومبقاش البال يخمم..." داخل غرفة مستطيلة ربتت الأم على كتف ابنتها وقالت "اليوم برهن بوشتى أنه سيد الرجال وكفر عن أخطائه التي كانت حديث النساء والرجال، والله لقد سد أفواههم!" . قبيل المغرب بقليل، فرش ببهو البيت حصير وضعت عليه زربية تقليدية نسجتها الزوجة منذ عقد من الزمن حتى يقال عنها أنها "حادكة"، وقطعت الدلاحة ووضعت قرب آنية ماء من طين (خابية)، كما أشعلت النار في مجمرين، واحد عليه غلاية (مقراج) لتحضير الشاي، والثاني سيحتضن الشواء ... تصاعد الدخان إيذانا بأن لحظة " القس ديال بصح انطلقت".. وعلى مائدة متواضعة وضعت " قتبان البولفاف" والإدام يقطر منها، فيتكلف الأب بتوزيعها – بعد أخذ نصيبها من الملح والكمون- على من حوله ويبدأ ب "نسيبتو" أما زوجته فكانت توزع كؤوس شاي النميلي والتي كانت تتلفقها الأيدي لتساعد البطون على المزيد من الهضم .. لما نزت جبهة الأب عرقا، حرك قبعته يمينا وشمالا ونادى زوجته باسمها لأول مرة منذ أن تزوجها "وا يامنة القرض الفلاحي الله إعمرها دار، وباز لمزليط". ظل بوشتى يؤجل شراء ما تم الإتفاق عليه بمبرر أن العلف غال وأن السماء شحت ولم تمطر، بيد أنه لم يتقشف في الأكل والشرب والتدخين .. مر العام الأول دون أن يدفع ما بذمته من دين للقرض الفلاحي، ومنحت له مهلة للتسديد، لكنه لم يفعل. في منتصف نهار يوم من شهر غشت قدمت إلى القرية "دجيب الجدارمية" يتطاير وراءها غبار أبيض لأن الطريق متربة، فاختبأ بوشتى في " النادر ديال التبن". توقفت الدجيب الرمادية أمام المنزل فنزل منها دركيان، أحدهما بدين يتصبب صدره عرقا، والآخر نحيف ذو لكنة أمازيغية، فقالت " نسيبتو" التي زارت ابنتها هذا اليوم "راه مخزون في النادر" سمع بوشتى ما قيل فغادر "النادر" وقد علق بشعر رأسه بعض الهشيم (الخشلاع). وقبل صعوده " الدجيب" قال مصوبا عينيه إلى "نسيبتو" " نسيتي آلغدارة مني كنتي كاتدخلي البولفافة لفمك كد الجوشة!". ذ/