نصحتنا دراسةٌ طبية أميركية بقراءة الروايات، بسبب تأثيرها القوي، أكثر من أي عمل أدبي آخر على نفسية المتلقي. ويبدو أن الدراسة أدرجت صنوفاً أدبية وفنية عدة، في إطار معاينتها التأثيرات الأدبية والفنية على مزاج من يتلقاها، فوجدتْ أن تأثير الرواية يدوم في نفس القارئ وقتاً أطول من سائر الآداب والفنون. هذا « الكشف » العلمي لم يدهشني ألبتة. كان بإمكاني أن أكون مثاله، الدراسيَّ، الحيّ، قبل ثلاثة عقود أو أكثر. فقد مارس أبطال روائيون تأثيرات قوية عليّ، تصل أحيانا، حدَّ التقمّص. بعض هؤلاء عزَّز خياراً (الأم لغوركي)، وبعضٌ كاد أن يحدِّد خياراً (الغريب لكامو)، وبعض آخر كان ينقلني إلى عوالم الحب والانتقام (الكونت دي مونت كريستو)، وهناك من جعل ساقيَّ ترتجفان (لوليتا، لنابوكوف)، ولا أنسى من دفعني إلى النحيب واعتزال الناس « البلداء » (فيرتر لغوته). ألاحظ، قبلكم، أن لا رواية عربية بين ما ذكرت آنفاً. هذا صحيح. فروايات مراهقتي هي، لأمرٍ ما، من الروايات العالمية المترجمة التي كانت تعكف على ترجمتها وطبعها دور نشر لبنانية، ويجدها المرء على بسطات كتب الرصيف. نجيب محفوظ، غسان كنفاني، غالب هلسا، عبد الرحمن منيف (مثلاً)، هم كتَّاب ما بعد المراهقة. لغيري، يمكن أن تضم قائمة قراءات المراهقة إحسان عبد القدوس، محمد عبد الحليم عبد الله، تصرّفات مصطفى المنفلوطي بالروايات العالمية (تحت ظلال الزيزفون، غادة الكاميليا، بول وفرجيني)، لكني لم أقرأ هؤلاء، جدّيّا، لا في المراهقة، ولا في المرحلة « النضالية » التي كانت، بالنسبة لي، أشبه بطفرة، وليست انتقالاً « طبيعياً » متدرجاً. فجأة تخلصت من الروايات العاطفية، وقفزت، دفعة واحدة، إلى « ما العمل » و »الدولة والثورة »! ومن نمط الروايات التي تشير إليها الدراسة الطبية الأميركية رواية قرأتها، بشغف، أخيراً. إنها « عساكر قوس قزح » للأندونيسي أندريا هيراتا، أصدرت دار المنى ترجمتها إلى العربية. إذا تجاوزنا ما يقوله الغلاف إنها حطمت الأرقام القياسية في المبيعات (ما يجعلك تشعر أنك أمام رواية من نوع « بيست سيلر ») نكون حيال رواية « ملهمة »، بكل معنى الكلمة، وفذّة في بساطتها.. ويدوم أثرها البهيج وقتاً طويلاً، بعد الفراغ من قراءتها. « قوس قزح » ليست، إذن، من طينة الكتب الأكثر مبيعاً، ولكنها دخلت هذه الخانة بسبب بساطتها، صدقها، وغرابة عوالم واقعها، الأكثر غرابة من الواقعيات السحرية الأميركية اللاتينية. تنطلق الرواية، كما هو واضح من إهدائها، من سيرة ذاتية. فالمعلمة التي يهدي إليها الكاتب روايته هي بطلة حياتهم الواقعية. هي التي تنوِّر، حرفياً، حياتهم بالعلم، وتنقلهم من عالم الجهل الحرفي إلى معرفة ما يجري في العالم، من خلال مدرسةٍ لا تتوفر على بناء حقيقي، أو مرافق من أي نوع. غرابة الحياة وصعوباتها في مكان أندونيسي ناء، مختلط الأعراق، ليس هناك ما يشير إلى أنه موجود تحت شمس القرن العشرين، لم نصادفها، نحن أبناء البوادي والأرياف العربية النائية والفقيرة. الغرابة هنا صرفٌ، ولكن، لا تعمّد فيها. إنها غرابة واقعٍ لا يدري أنه غريب، ولا يتساءل عن ذلك، لأنه لا يعرف غير ذلك. لكن، ليست غرابة هذا « العالم » هي التي تجعل هذه الرواية رواية (رغم اختراق السيريّ كلَّ فصولها) بل السرد نفسه. ها نحن نتحدث عن الرواية والفن، لا عن الواقع. وهذا ما أحب أن أشير إليه. فعلى رغم غرابتها التي لم تصادف مثلها في حياتك، لم يكن ذلك سبباً كافياً لتكون عملاً روائياً ناجحاً. أحببت هذه الرواية (لا يتسع المجال للحديث عن عالمها أكثر). أحببت أبطالها، بالمعنى الواقعي، وليس الروائي، وأكبرت فيهم صراعهم الضاري من أجل البقاء. فمن في وسعه أن يقود دراجة هوائية، نحو أربعين كيلومتراً، كل يوم، من أجل الدراسة؟