ليس هناك نجاح أو فشل، والكلام هنا لمحمد ابن عبد الكريم لخطابي، وليس هناك انتصار أو هزيمة، يضيف أسد الريف، ولكن هناك شيء اسمه الواجب وأنا قمت به قدر المستطاع. شهر فبراير لا يأتي بالأفراح، يأتي بالأحزان أيضا، ولذلك قد يشعر الريف وأبناء الريف، أن شهر فبراير ليس كبقية الشهور. سنة أخرى ويكملون نصف قرن عن غيابه. تسعة وأربعون سنة بالتمام والكمال هي المدة التي قضاها أسد الريف بعيدا عن الريفيين، لكنه غياب ورحيل قد يكون ممزوجا بجزء من الألم الذي ما يزال لم يشفى في نفوس، ليس الريفيين لوحدهم، ولكن للغصة مكان في حلوق المغاربة من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، فقبر الأسد ما يزال بعيدا عن هنا، قبر محمد عبد الكريم الخطابي ما زال في أرض الكنانة منذ أن لفظ أنفاسه الأخيرة في السادس من شهر فبراير 1963، فهل طويت الصفحة حقيقة؟ هل انتهى المغرب الشعبي من صفحة السنوات التي راح ضحيتها المئات؟ هل قص شريط المصالحة؟ أتستوي المصالحة وقبر الخطابي بعيد عن الريف وعن المغرب؟ القبر/الرمز لازال قبره هناك، لماذا؟ الجواب معقد ولا تعولوا على الوضوح، فأينما حل اللغز السياسي يستعصي فكه سياسيا أيضا. من جهة، العائلة لم تحسم في مكان دفنه في المغرب، والقصة تعود إلى سنوات كما سبق وأن أوضحت ابنته عائشة في حوار مع يومية "المساء": قالت إن الملك الراحل الحسن الثاني بعث بوفد إلى القاهرة عرض على أفراد عائلته اقتراح وضع الترتيبات لجنازة تليق بالرجل في المغرب، على أن يترك للعائلة اختيار مكان الدفن، وبما أن هناك أفراد من العائلة اعتبروا أن الأسباب التي كان يرفض بسببها الخطابي العودة إلى المغرب لازالت قائمة، فإن الخلاف حسم في طي صفحة دفن الخطابي في المغرب. فارق الملك الراحل الحسن الثاني الحياة، وفي سنة 2005 سيفتح الملف من جديد مع رياح العهد الجديد التي حملها وريث عهده الملك محمد السادس، ولم يكن فاتح الملف إلا الراحل بنزكري رئيس هيئة الإنصاف والمصالحة، ومرة أخرى اختلفت الأصوات وتباينت اقتراحاتها بين قرار دفنه والحسم في مكانه، لاسيما أن للراحل عائلة منقسمة بين مصر والمغرب، وكان لابد من إستشارة الجميع، الشيء الذي أخذ الكثير من الوقت في نفس الآن الذي ارتفعت فيه العديد من الأصوات الحقوقية المطالبة بنقل قبره إلى المغرب، تكريما للرجل الذي واجه الاستعمار في أوقات حالكة من تاريخ المغرب، وإحقاقا للمصالحة التي طالب بها المجتمع المدني الحقوقي ونصت عليها هيئة الإنصاف والمصالحة في تقريرها الختامي، فهل سيظل قبر محمد ابن عبد الكريم الخطابي بمصر ليقص شريط نصف قرن بعيدا عن وطنه؟ وبين الحسم في مبدإ اقامة جنازة رمزية للرجل وتحديد مكان الدفن، هناك من يعتقد أن الماسكين بالملف لم يستنفذوا كل المسالك بعد رحيل بنزكري، وأن نوعا من الفتور تسلل إلى الملف. فكيف تحول الخطابي إلى اسم مجرد ذكر قبره له أكثر من رمز ودلالة سياسيتين؟ عدو المستعمر بدأت الحكاية قبل سنة 1921، ليست حرب أنوال هي التي صنعت محمد عبد الكريم الخطابي، عفوا، ليست هذه الحرب وحدها هي التي جعلت اسم الخطابي يبرز في الواجهة، ولكن الحكاية بدأت قبل ذلك بكثير، حينما حمل الأمانة من والده محمد في لحظة وداع شاركه تفاصيلها الحزينة أخوه أمحمد:"إذا لم تستطيعا الدفاع عن استقلال الريف وحقوقه فغادراه إلى مكان غيره". لم يغادر محمد ابن عبد الكريم الخطابي المعروف أيضا بمولاي امحند الريف ولا غادره إلى مكان بعيد، وإنما جمع الأهل والأصحاب على الثورة على الاستعمار، حينما كانت إسبانيا بجنودها وسلاحها وجينرالاتها ترهب وترعب وتخيف وتقتل أيضا. لم يرجع مولاي امحند إلى الوراء، لم يتراجع وإنما صعد إلى الجبل، إلى جبل "قاما" ، فكان اللقاء الأول مع رفاقه في مشوار الكفاح والثورة ضد المستعمر، لكن البداية نحو التغيير والثورة لم تكن سهلة، ولذلك تطلب رسم خارطة الطريق نحو الثورة أزيد من شهرين من النقاش بين الرفاق والثوار، ولذلك حينما انطلقت الثورة لم يستطيع أحد إيقافها، ولذلك بدأ سكان الريف يتوحدون أكثر، فكانت الحرب الأول التي جرت أطوارها في "دهار أبران" وهو مركز استراتيجي كانت تقيم فيه القوات الإسبانية: 300 ثائر أوقعوا بالاستعمار الإسباني الذي فقد حينها 400 جندي. هكذا كانت البداية، وهكذا وصل رفاق محمد ابن عبد الكريم الخطابي إلى إسقاط الاستعمار الإسباني في معركة ثانية في منطقة "إغربين" في يوليوز الشهير من سنة 1921، وفيه أيضا سيسحق رجال الخطابي جنود إسبانيا في ملحمة أنوال المشهورة في التاريخ الكبير للمغاربة، على الرغم من أن المعادلة لم تكن متكافأة: 5000 ثائر في مواجهة 24 ألف جندي إسباني، لكن حصيلة الخسارات كانت ثقيلة في صفوف قوات الجارة الإسبانية: 15 ألف قتيل وعلى رأسهم قائدهم "سلفستر" و570 أسير. جمهورية الريف هنا ستعين القبائل الريفية محمد ابن عبد الكريم الخطابي أميرا عليها، وهنا سيشرع عبد الكريم الخطابي في تنظيم المنطقة بدقة، منذ هذا الانتصار أخذ ابن عبد الكريم الخطابي يرسم صورة الريف الجديد بعدما أُعلن الاستقلال وتشكل مجلس شعبي سمي الجمعية الوطنية عهد لها تنظيم شؤون المنطقة، وتشكلت الحكومة التي كان يرأسها أسد الريف. ليست هذه مزحة وإلا ستصبح ثقيلة، ولكنها بعض من الحقائق التي جاءت في كتب وروايات مختلفة، ومنها أن محمد ابن عبد الكريم الخطابي أعلن تأسيس الجمهورية بتاريخ 18 شتنبر 1921، واختار أجدير عاصمة لها، وكان عدد سكانها يقدر بحوالي 18 ألف ريفي. كان الأمير ابن عبد الكريم رئيسا للجمهورية الريفية إلى حدود شهر ماي 1926، وكان الأمير مسؤولا أمام الجمعية الوطنية، وللجمهورية ميثاق ومبادئ ومنها عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية، وجلاء القوات الإسبانية الأراضي الريفية، والاعتراف بالاستقلال التام للدولة الريفية، وتشكيل حكومة جمهورية دستورية ... ومنها وزارة الخارجية ووزارة المالية ووزارة التجارة ... ووزارة الحربية التي كانت من اختصاص رئيس الجمهورية محمد عبد الكريم الخطابي الذي أشرف على تنظيم جيش بشكل دقيق بلغ عدد جنوده حوالي 130ألف جندي، بل إن الجمهورية كان لها علم وعملة وباخرة مسلحة شاركت في بعض المعارك... وكان لها اقتصادها وإدارتها وقضاؤها وتجارتها وصناعتها وزراعتها ... قبل أن يحل يوم 27 ماي 1926 والذي سيكون يوما تاريخيا في حياة الريف وفي حياة أسد الريف. يوم 27 ماي 1926 ستسقط الجمهورية بعد الهجوم العسكري للقوات الفرنسية والإسبانية التي طوقت الريف من كل الجوانب والجهات بعدد من الجنود بلغ 500 ألف مقاتل استخدمت خلاله مختلف الأسلحة الكيماوية.
لكن، قبل أن تسقط الجمهورية المعلن عنها من طرف واحد، تمكن أسد الريف من دحر القوات الإسبانية في أكثر من مناسبة، مثلما حدث في يوليوز 1923 حينما سحق رجال الخطابي 1000 مقاتل إسباني بمنطقة درسة بالشاون، وهو الحدث الذي دفع بالإسبان إلى الجلوس على طاولة المفاوضات معه.. إنها المفاوضات التي كانت عسيرة ولم تنته بحل يرضي الطرفين، لأن الوفد الريفي تشبث بمبادئ الميثاق المشار إليه سلفا، ومنها الاعتراف باستقلال الريف، كما قضى ثوار الخطابي في يوليوز 1925 على الجيش الفرنسي التي خسرت حوالي 5700 جندي، منهم حوالي 1000 قتيل و3700 جريح وأزيد من ألف لم يعثر عليهم، وهو ما دفع الخارجية الفرنسية لطلب الدعم البريطاني فبدأ مسلسل اللقاءات التنسيقية بين فرنساوإسبانيا بهدف قطع الطريق على الخطابي بشراء الأسلحة عبر مراقبة السواحل، قبل أن تفتح المفاوضات من جديد في مؤتمر وجدة بحضور وفد ريفي في يوليوز 1925، حيث اقترحت إسبانياوفرنسا شروطا للصلح من خلال ضمان الحرية الاقتصادية للريف تحت سيادة سلطان المغرب، والاحتفاظ بكمية قليلة من السلاح ... لكن الوفد الريفي سيرفض هذه الشروط مادام أن الطرف الآخر رفض الاعتراف باستقلال الريف. فشلت المفاوضات الديبلوماسية في المؤتمر الذي عقد بمدينة وجدة، وفتح المجال للتدخل العسكري، فعقد اللقاء الحربي بين إسبانياوفرنسا والمغرب، فكانت البداية بسقوط جبل مسعود ثم الناظور ثم تركيست ... فالعاصمة أجدير بسبب الإنزال العسكري المكثف عبر الحسيمة التي استعملت خلالها الغازات السامة وأسلحة "النبال" ليل نهار ... مما تسبب في سقوط ضحايا وتمرد بعض القبائل... وسقوط الجمهورية. سقطت الجمهورية الريفية، واعتقل محمد ابن عبد الكريم الخطابي، فنفي إلى جزيرة "لاريونيون" التي ظل بها إلى سنة 1947، قبل أن يستقر في مصر لاجئا سياسيا، إلى أن توفي بها في السادس من شهر فبراير 1963، وما يزال قبره بها إلى اليوم. أربع سنوات بعد استقلال الجزائر تم نقل قبر المجاهد الأمير عبد القادر الذي دفن في دمشق، فهل يمكن أن يحظي الخطابي بنفس التكريم؟