مناسبة العودة إلى هذه القولة التي تسبر أغوارها الأستاذة خديجة الصبار نبشها في طقوس العنف الرمزي في مغرب مغرب الألفية الثالثة وهي تتصفح كتاب "مؤسسة المخزن" لصاحبه الدكتور مجمد جادور 2/3.الأستاذة الصبار تخص "فبراير.كوم" بهذا التحليل. إنها دراسة قراءة لكتاب "مؤسسة المحزن" للدكتور محمد جادور الذي صدر مؤخرا عن مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، والكتاب الأطروحة كما تقول صاحبة الدراسة خديجة صبار عن مختبر المغرب والعوالم الغربية كلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك بالدار البيضاء، حفريات في التاريخ المقارن لمخزن سلطانين من أعظم سلاطين المغرب، استحوذت قوة شخصيتها في الكتابات المحلية والأجنبية، وشكلت حجر الزاوية الذي احتلاه فيها من حيث حجمه وطبيعته التي جمعت بين ما هو واقعي وما هو أسطوري: يتعلق الأمر بالسلطان أحمد المنصور والسلطان المولى إسماعيل وتجارب حكمهما كنماذج متميزة لتحديث المؤسسة المخزنية وبنيانا على أساسه شيد المغرب الحديث. وربطت أغلب التحليلات والتأويلات ذلك بمؤهلاتهما الشخصية وحسن تدبيرهما واحتكاكهما بالمستجدات الدولية، لاسيما وأن الأستاذ جادور اختار فترة تزامنت مع نشوء مفهوم الدولة الأمة في أوربا وبداية الثورة الصناعية من جهة، وانطلاق الفكر الليبرالي من جهة أخرى،وفي الحلقة الثانية تناقش الأستاذة صبار طقوس العنف الرمزي في مغرب مغرب الألفية الثالثة . ما السر في استمرار طقوس العنف الرمزي في مخزن الألفية الثالثة والذي يسم نفسه بالحداثة، علما أنها تعبر عن رؤية ما للعالم تربط الأحداث بزمن مطلق ولا تاريخي، يطغى فيه الميتوس (muthos) على اللوغوس (logos)، التخيل على التفسير والإقناع، ويقف عائقا والرؤية الموضوعية إلى كل شيء، في الطبيعة وفي الكون، في المجتمع وفي الذات. والتعامل مع الدين كظاهرة اجتماعية خاضعة للصيرورة التاريخية؟ إشكالية هذه الأفكار التقليدية المناهضة للتطور والتجديد والابتكار لم يتوقف الأستاذ عبد الله العروي عن طرحها قصد عقلنتها لتلائم منطق العصر منذ باكورته الإبداعية الأولى في سبعينيات القرن الماضي "الغربة" التي يقول فيها "أولادنا الذكور خاصة هم الغراب نريد أن نضمن لأنفسنا من يتولى الغسل والكفن والدفن، ومن يحمل النعش ويرعى القبر". ليعيد طرحها في الثمانينيات، ويخضعها لنقد تحليلي تأويلي في "خواطر الصباح" يقول "مراسيم الغسل والكفن والدفن من أقرها جيلا بعد جيل؟ لا شك في نطاق الأسرة أو الزاوية أو الحومة أو القبيلة! إذ لا توجد سلطة عامة معترف بها لتلغي أو تثبت، تزيد أو تحذف مع أن الحاجة إلى الإصلاح واضحة". فالوفاء للماضي يكون عن طريق عملية الجهد والتفكر لا عن طريق النقل والاستحضار ف" ما ترثه عن أبيك اكتسبه لتمتلكه" كما يقول جوته في فاوست. "الطقوس ضرورة لأن فيها سلوى، وهي أيا كانت، بدعة، وبما أنها كذلك، في كل حال لماذا لا تنظم، لا تحدد، لا تقنن، لكي توافق ذوق العصر؟ أي سلطة تكلف بالتجديد والتنظيم؟ وإذا لم يكن فالاعتماد على وصية من يهمه الأمر: انعدام هيئة شرعية تفصل في قضايا العقيدة، عالمة حرة مستقلة بعيدة عن كل تطرف ومزايدة. وقاطع العروي المتسق في الفكر والسلوك وفد الأكاديمية المغربية الذي استضافته الأكاديمية الفرنسية سنة 1987، ومعلوم أن أعضاء الأكاديمية الفرنسية يرتدون أثناء الحفلات الرسمية "الزي الأخضر" الشبيه بالعسكري. فجاء الأمر أن يمثل المغاربة بالجلباب، بالبلغة والشاشية ، (زي بابا يوشي) يقول "تخلفت عن الحفل احتراما لنفسي ولباريس عاصمة الوجدان، لم أود تلطيخ الذكريات، أغلى ما أملك، ولم أرض أن أحيي مشهد القرن الماضي، أن ألعب دور السفير الزبيدي في أوراقه زامبوييه" نفس الإشكالية سيعود إليها في تحليله وتعليقه على الكيفية التي أعلن عبرها عن وفاة الحسن الثاني، وهو "رجل دولة عظيم"، والأسلوب الذي كتب به عقد البيعة والجهة التي قامت بتلاوته، ومراسم التشيع والدفن، في سياق مغرب الانتقال الديمقراطي. ويقارنها بمراسم جنازة ملك الأردن المنحدر هو نفسه من السلالة الشريفة. إذ بقدر ما يرى البعض في جنازة الحسن الثاني صورة للبساطة يرى فيها البعض الآخر صورة لعقلية قدرية تقليدية، قد تتناسب ومنطق الأسرة أو القبلية والعشيرة، إلا أنها لا تتناسب قطعا ومنطق الدولة، ليخلص إلى أن الحسن الثاني اتبع التقليد في جميع أطوار حياته، وشيع طبقا لطباع فكر الأسلاف والعادات والطقوس المنحدرة منهم والتي لا تتلاءم أبدا وروح عالم الحداثة. من هذه الزاوية لا يختلف الأمر راهنيا في استحضار الطقوس من المرجعية الماضوية والاهتمام بالشكل لا بالمضمون "الجسد حديث والدماغ تقليدي" بعبارة العروي، إذ نلاحظ تغلب الطقوس حتى على العبادات، وعلى كاريزما القيادة وجاذبيتها. فحاضر المراسم والطقوس المخزنية مخلص لماضي الحقبة التي درسها بنجاح الأستاذ محمد جادور، يصطنع فقط بثقافة حداثية تمنحه صفة الهجانة، وهذا هو الخلل الكبير في أس مشروع الحداثة في مغربنا. فالمخزن يحتكر المجال السياسي بتمامه، ويترصد أية مبادرة للمجتمع المدني عبر منهجه الاستباقي، تحت ذريعة تفادي أي اضطراب أو كل ما من شأنه أن يدفع لإعادة النظر في أسس السياسة الأبوية، لدرجة يبدو معها المخزن المعاصر وكأنه الوحيد القادر على بلورة الأهداف الشمولية، وعلى تنسيق وسائل عمله، لدرجة أن التشكيلة الاجتماعية المغربية تعيد إنتاج ذاتها عبر اقتران جد دقيق لتغيرات (لا استمرارية) بثوابت سياسية استمرارية. يتحدث بيسر يورديو عن "الملكة الاجتماعية" habitus عن العادات والطقوس التي تنجح مع مرور الزمن في أن تجد أرضها في وعي البشر! حيث تتغلغل في الذات كحقائق ثابتة تشكل السلوك وردود الفعل فهي ناتج جدل عمل المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والرمزية في زمن طويل لدرجة تبدو "طبيعية أو بديهية" وهو ما يشكل أسطوريتها في نقد رولان بارت. والبداهة شكل من أشكال التقديس، لأنها مطلق، والعلم لا يعرف المطلق. البداهة قبول وطاعة وتسويغ، لذا جعل الأستاذ العروي بينه وبينها قطيعة منذ كتاب الإيديولوجية العربية المعاصرة "نودع نهائيا المطلقات جميعها ، نكف عن الاعتقاد أن النموذج الإنساني وراءنا لا أمامنا، وأن كل تقدم هو في جوهره تجسيد لأشباح الماضي... إلى أن يقول صيرورة الواقع الاجتماعي، نسبية الحقيقة المجردة، إبداع التاريخ جدلية السياسة، هذه هي معالم الفكر العصري وقوام المجتمع العصري".