عرف المغرب خلال تاريخه القريب محطتين مفصليتين شكلتا فرصتين تارخيتين لبناء مغرب أكثر عدلا وكرامة وديمقراطية، وذلك من خلال وصول سنة 1998 أكبر حزب يساري للحكم لأول مرة وقيادة الحكومة برئاسة أحد رموز نضاله الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي. بضع سنوات بعدها، ولأول مرة كذلك، تولى حزب من تيار الإسلام السياسي، قيادة الحكومة برئاسة السيد عبد الإله ابن كيران. تعيين حكومة بقيادة مناضل سياسي وحقوقي بحجم الأستاذ اليوسفي جعلت معنويات المغاربة تعانق الأفق متطلعين لغد أفضل. مؤشر واحد لكنه ذو دلالة، ألا وهو احتلال المغرب المرتبة 45 سنة 1999 حسب منظمة ترانسبارنسي الدولية مقابل 90 في 2017. حتى الراشون والمرتشون توجسوا خيفة من ثنائي ملك شاب ورئيس حكومة ديمقراطي نظيف اليد. فرصة تاريخية ناذرة للقطيعة مع مغرب الماضي، لكن الأمور ما لبثت ان أخذت منحى آخر فتعطل المسار الذي كان يبدو مشرقا وبدأت الآمال تتبدد واستفاق المغاربة، بضع سنوات تحت حكومة الأستاذ اليوسفي، على نكسات تحسب عليه. وللإنصاف سجل المغرب في عهده مكتسبات عدة على الصعيد الاجتماعي والسياسي خصوصا في قضية الصحراء المغربية، فبفضله واعترافا بالمكانة التي يحظى بها دوليا ،سحبت العديد من دول آسيا وأمريكا اللاتينية اعترافها بالجمهورية الوهمية. بدأ القلق يستأثر بنفوس المغاربة حين منعت صحف من الصدور لأسباب واهية وأقيم حفل تكريم لإدريس البصري، ليس في فندق او في مكان آخر، بل في المنزل الوظيفي للسيد عبد الرحمن اليوسفي، فكانت الصدمة التي ما بعدها صدمة على جميع الأصعدة وبين جميع مكونات الشعب المغربي، كما اعطت للعدميين من مختلف المشارب فرصة لانتعاش والتشفي. فاطمة بوطرخة حكى اليوسفي بعد مغادرة منصبه في محاضرة في بروكسيل، عما عانته حكومته من جيوب المقاومة، مؤكدا أنه شيء منتظر. لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقول أنه كان مجبرا على تكريم وجه من الوجوه القبيحة لمرحلة كالحة من تاريخ المغرب الحديث. كان بإمكانه أن يقول لا بل ان ينطق بلاآت عدة في مواقف عدة، لأنه هو من كان في موقع قوة حينها لا من عينه. أشياء كثيرة كانت ستتغير نظرا لخصوصية المرحلة ولشخصية احد عناصرها، اي عبد الرحمان اليوسفي ولمساره واعتداله وللشرعية النضالية والشعبية والمصداقية التي يتمتع بها آنذاك، حزبه، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كما كان المغرب مستعدا لانتقال ديمقراطي سلس، لو اكتمل حينها لربما لن تعيش البلاد ما تعيشه اليوم من هزات، فذاكرة المغاربة غير البعيدة لا زالت تحتفظ بموقف الراحل عبد الرحيم حين قال لا، صريحة فصيحة في وجه الحسن الثاني، وهو في عز صولته، رافضا قبول هذا الأخير إجراء استفتاء حول الصحراء، لأنه يهدد وحدة المغرب. كان ذلك في سبتمبر 1981، لكن قبل هذا، في يونيو من نفس السنة، في استجواب أجرته معه فرانس انتير، وردا على سؤال، إذا ما كان الملك الراحل مسؤولا عن قتلى انتفاضة الخبز، أجاب بنعم رغم أنه يعرف تبعات موقفه والمغرب يعيش آنذاك في عز سنوات الرصاص. كانت الظروف مواتية أكثر بالنسبة لليوسفي لتحقيق المزيد من المكتسبات ومطالب ادى حزبه الثمن غاليا في الدفاع عنها، لأن المؤسسة الملكية هي الواقفة على بابه، وليس العكس. ذهب اليوسفي وحكومته بما له وما عليه. يبقي أنه علي المستوى الحزبي ساهم في إضعاف الاتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية، فقولته أرض الله واسعة لكل من كان له رأي مخالف، لازالت في الأذهان، أما علي المستوى الوطني فقد أضاع فرصة لتحقيق نقلة نوعية لبناء وطن أكثر عدلا وديمقراطية. فالفعل السياسي يرتكز أيضا على عدم تفويت فرصة للتغييرالسلمي من أجل غد أفضل، فرصة تاريخية ضائعة في سجل ّ حكومة التناوب. بعد حكومة التناوب دخل المغرب مرحلة روتين حكومي، مرحلة لم تخل من منجزات ولا احتجاجات، لكن النخبة السياسية، باستثناء المنتمية لليمين الديني المتطرف، ازدادت وهَناَ وقطيعة مع فئات واسعة من الشعب ولا شيء يعلو فوق الإنتهازية والركوب علي مطالب المحتجين وتوالي إصدار البيانات، وكأن حائط برلين لم يسقط، وتابعنا خنوعا ما بعده خنوع. سواء وسط اليمين واليسار، ولا أحد كلف نفسه عناء البحث عن وسائل مبدعة ومغرية لجدب شباب حائر، ولكنه متحمس خاصة أن فئات عريضة منه، لا تجد نفسها في المشروع الإسلاموي الماضوي الذى نجح في جذب العديد منه. ثم أتت فرصة تارخية أخرى للتغيير في ظروف، الكلّ يعرفها فتحت المجال لحزب العدالة والتنمية، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، لمحاربة الفساد ورفع « الحكرة » وإرساء العدل والعدالة الإجتماعية حسب وعوده الإنتخابية، إلا أن شيئا من ذلك لم يكن، فاختزِلت محاربة الفساد في ‹ عفا الله عما سلف› وإرساء العدالة الاجتماعية في ضرب القوة الشرائية للطبقة المتوسطة وضرب جيوب مكوناتها، إذا احتجّت ولو سلميا واستصغار دور النقابات في حفظ السلم اإلاجتماعي ومعاداتها والدخول في مسلسل لإصلاح العدالة، ليس له اول من آخر ومحاولة أخونة الادارة والمناصب العليا. أما على الصعيد السياسي فرئيس هذه الحكومة، السيد عبد الإله ابن كيران اتخد من الشعبوية منهجا، نجح فيه إلي حدّ كبير بفضل مَن تأثر بدموع تماسيح درفها بمناسبة ومن غير مناسبة، ومن يجد في أجوبته في البرلمان فرصة للترويح عن النفس، من خلال ضحكه على دقون المغاربة، ناهيك في سياقات أخرى اللجوء للأب الروحي للإسلام المتطرف ابن تيمية لانتقاذ معارضيه او لتمرير بعض من مواقفه. عبد الرحمن اليوسفي وعبد الإله ابن كيران رجلا سياسة من تيارين مختلفين، أُعطيت لهما فرصة للانتقال بالمغرب وبسلاسة إلى مرحلة أفضل، فلو تقدما باستقالتهما أمام الملأ رفضا لضغوط جيوب المقاومة بالنسبة للأول واحتجاجا على إملآءات الحكومة غير المرئية بالنسبة للثاني، لكنا نعيش اليوم مغربا آخر.