كان الإمبراطور الرومانى يسير فى موكبه وأمامه أحد أتباعه، يحمل دائرة معدنية معلقة بها مفاتيح كبيرة، كل واحد منها يرمز إلى سلطة، فيكون هناك مفتاح للجيش ومفتاح للشرطة ومفتاح للقضاء... إلخ، وكانت الدائرة المعدنية بمفاتيحها تسمى بالإيطالية فاشيو fascio، وترمز إلى سيطرة الإمبراطور المطلقة على كل سلطات الدولة. اختفت هذه الكلمة قروناً طويلة حتى أعادها إلى الوجود فى عام 1919 الزعيم الإيطالى بنيتو موسولينى، عندما أسس الحركة الفاشية التى تولت السلطة بعد سنوات قليلة، ثم امتد تأثيرها إلى خارج إيطاليا، فنشأت حركات شبيهة بها مثل النازية فى ألمانيا، والفاشية الإسبانية بقيادة الجنرال فرانكو.. هكذا تحولت الفاشية من لفظ تاريخى إلى مصطلح سياسى. الجماعات الفاشية لا تحترم إرادة الشعب، وإنما تعتبر أنها تملك الحقيقة المطلقة، ومن حقها وواجبها أن تفرض ما تعتقده على الآخرين بالقوة.
ما إن يصل الفاشيون إلى السلطة، سواء بانتخابات حرة أو انقلاب عسكرى، حتى يهدموا النظام الديمقراطى وينفذوا مخططا للسيطرة الكاملة على كل مفاصل الدولة. الفاشيون يحتقرون المختلفين عنهم ويقمعونهم ويعتدون على حقوق الناس وكرامتهم، ويتدخلون فى حياتهم الشخصية، ليفرضوا على الجميع نمطا واحدا من السلوك. الفاشيون بطبيعتهم معادون للثقافة والفنون والحريات العامة والخاصة، وهم لا يتورعون عن ارتكاب أفظع الجرائم بضمير مستريح، لأنهم يعتبرون أنفسهم مكلفين بمهمة مقدسة تبرر الاعتداء على حياة الآخرين وممتلكاتهم وحقوقهم.
قد تكون الفاشية عسكرية تحلم باستعادة مجد الإمبراطورية بمحاربة الدول الأخرى واحتلالها، وقد تحمل الفاشية طابعا دينيا. عندئذ يؤمن الفاشيون بأنهم ليسوا سياسيين عاديين، وإنما هم مختارون من الله لتنفيذ مهمة ربانية عظيمة. مصر عرفت الفاشيتين العسكرية والدينية، مع تقديرنا لعبدالناصر، كزعيم مخلص عظيم، إلا أن النظام الذى حكم مصر، منذ عام 1954، ليس سوى حكم فاشى عسكرى اعتمد فى بقائه على قوة الجيش والشرطة، وليس على انتخابات حرة تعكس إرادة الشعب، ثم قامت ثورة يناير واتفق المجلس العسكرى والإخوان على ما يحقق مصالح الطرفين على حساب الثورة، ووصل إلى الحكم أول رئيس مدنى منتخب من الإخوان المسلمين، وإذا به، بعد شهور قليلة من حكمه، يعطل القانون والدستور، ثم يفرض كل ما يريده مرشد الإخوان على المصريين، بدءاً من اللجنة التأسيسية الباطلة التى أصدرت دستورا باطلا، إلى مجلس الشورى الباطل، إلى فرض نائب عام موال للإخوان، إلى شخص مجهول وضعوه فى منصب وزير الثقافة ليقوم بتدمير الثقافة المصرية، وتطهيرها من الفنانين والمبدعين الذين يحملون أفكارا لا يوافق عليها الإخوان..
المشهد فى مصر الآن واضح. مصر تحكمها جماعة فاشية وصلت إلى السلطة بالانتخابات، لكنها قررت أن تستعمل الديمقراطية كأنها سلم خشبى تصعد عليه إلى الحكم، ثم تركله بعيدا حتى لا يصعد عليه سواها. لا يمكن وصف الإخوان بأنهم إسلاميون، لأنهم كاذبون ومضللون، وقد ارتكبوا من الجرائم ما يرفضه الإسلام والأديان جميعا. هل يجيز الإسلام قتل مائة متظاهر برصاص الشرطة، وتعذيب المعتقلين، وصعقهم بالكهرباء، واغتصاب الرجال فى سجون مرسى؟!.. ليس الإخوان إسلاميين أبدا، وإنما هم فاشيون بالمعنى والتعريف.. عندما تصاب أمة ما بحكومة فاشية يجب على المواطنين جميعا أن يتناسوا كل الخلافات السياسية بينهم، وتكون مهمتهم الأولى تحرير بلادهم من براثن الفاشية. لسنا هنا بصدد حاكم عادى نختلف حول أدائه، وإنما نحن أمام مجموعة فاشية وصلت إلى السلطة عن طريق الانتخابات، وهى الآن تنفذ مخططها من أجل منع تداول السلطة واحتكارها إلى الأبد.
الإخوان الفاشيون يعيشون فى عالم افتراضى، يؤمنون بأنهم وحدهم يمثلون الإسلام، يتوهمون أن الله اختارهم لاستعادة مجد الأمة، يتحدثون عن تحرير القدس واستعادة الأندلس، بينما هم عاجزون عن السيطرة على سيناء، وعاجزون عن حماية ماء النيل من اعتداء بعض الدول الأفريقية، وفاشلون حتى فى توفير السولار. الأسوأ من فشل الإخوان الذريع أنهم لا يعترفون بالفشل أبدا، لأنهم ببساطة عاجزون عن رؤية الواقع. الإخوان على استعداد لا نهائى للمكابرة والمغالطة وإنكار الحقائق الساطعة، من أجل الاحتفاظ بالوهم الجميل الذى تربوا فى ظله: أنهم مختارون من الله لاستعادة الخلافة الإسلامية (التى لم توجد أساسا سوى 31 عاما خلال قرون طويلة من الاستبداد). الإخوان لن يتوقفوا لحظة واحدة عن تنفيذ مخطط التمكين، مهما تسبب ذلك فى كوارث للمصريين.
لن ينفذ الإخوان أى تعهد، ولن يحترموا أى قانون، وسوف يضربون عرض الحائط بأحكام المحاكم، وسوف يشنون حربا بلا هوادة ضد كل ما يمنعهم من السيطرة على الدولة. إن الواجب يفرض علينا التصدى لهذه السلطة الفاشية، لأن كل يوم تقضيه فى الحكم سيؤدى إلى المزيد من الانهيار والخراب. فى كل مكان فى مصر الآن يحس الناس بإحباط وقلق، ما يدفعهم إلى مناقشات كثيرا ما تتحول إلى مشادات عنيفة، فالذين يكرهون الثورة يحمّلونها مسؤولية وصول الإخوان إلى الحكم ويترحمون على أيام مبارك. الثوار هم أكثر من عانوا من خيانة الإخوان وانتهازيتهم، لكنهم فى انتخابات الإعادة وقعوا فى مأزق، إذ كان عليهم إما أن ينتخبوا أحمد شفيق، فيعود النظام الذى ثاروا ضده أو ينتخبوا الإخوان. بعض الناس، وأنا منهم، قاطعوا الانتخابات، والبعض الآخر رأى أن ينتخب الإخوان، باعتبارهم أهون الشرين..
ليس صحيحا أن الثوار هم من أتوا بالإخوان إلى الحكم، لكن الحقيقة أن الثورة مكنت المصريين، لأول مرة منذ عقود، من ممارسة انتخابات نزيهة، وكان طبيعيا أن يفوز الإخوان، لأنهم الأكثر تنظيما، ويستعملون الدين فى إقناع البسطاء. تعلم المصريون الدرس بسرعة، واكتشفوا حقيقة الإخوان، وتوالت هزائم الإخوان فى كل انتخابات أجريت بعد ذلك.. لقد كان حكم الإخوان اختبارا إجباريا مؤجلا لمصر وهى تجتازه الآن حتى تبدأ المستقبل.. كيف نتحرر من فاشية الإخوان.. أظن أن هناك ثلاث خطوات ضرورية:
أولاً: الدفاع عن مؤسسات الدولة:
من حق أى سلطة منتخبة أن تعين أتباعها فى الحكومة وتسيطر عليها لتضمن تنفيذ سياساتها، لكن الدولة يجب أن تبقى على الحياد. الإخوان يسعون للسيطرة على الدولة ذاتها، بحيث تستحيل بعد ذلك إزاحتهم عن الحكم. من هنا نفهم ذلك الولع الإخوانى الغريب بإدخال المجتمع المصرى (المنهك أساسا) فى أتون صراعات سياسية وقانونية لا تنتهى، هدفها دائما فرض إرادة الإخوان على الدولة بواسطة إجراءات باطلة. دعاوى الإصلاح التى يرفعها الإخوان دائما حق يراد به باطل. إن نظام القضاء المصرى يحتاج إلى إصلاح، لكن الإخوان لا يريدون إصلاحه، وإنما السيطرة عليه بإقالة آلاف القضاة، ليتم إبدالهم بقضاة تابعين للإخوان.
صحيح أن النائب العام السابق كان متوائما مع نظام مبارك، لكن الإخوان أطاحوا به لا ليكون منصب النائب العام ممثلا للشعب، وإنما ليأتوا بنائب عام تابع لهم. هنا يكون واجبنا الدفاع عن مؤسسات الدولة ضد مخطط الإخوان، مع اعترافنا بما يعترى هذه المؤسسات من أخطاء وتجاوزات. نلاحظ هنا أن معاول الإخوان التى امتدت لهدم القضاء والإعلام والثقافة والمحكمة الدستورية العليا لم تقترب إطلاقا من جهاز الشرطة الذى كانت جرائمه فى حق المصريين سببا مباشرا فى قيام الثورة، السبب فى ذلك أن الإخوان يحتاجون إلى جهاز قمعى قوى يضمن إخضاع المصريين لمخطط التمكين.
ثانياً: رفض الحلول الوسط:
تعتمد السلطة الفاشية دائما على عنصر المباغتة وفرض إرادتها كأمر واقع، ثم التصدى للموجة الأولى العنيفة من الاحتجاجات، وبعد ذلك شيئاً فشيئاً تخفت الأصوات المعترضة، ويشعر الناس بالإنهاك، وينغمسون فى شؤونهم اليومية، ويألفون الوضع الجديد وقد يتقبلونه.. هنا يكون قبول الحلول الوسط مع السلطة الفاشية بمثابة اعتراف بالواقع الجديد الذى فرضته. إن قبولنا بتحقيقات النائب العام معناه اعترافنا بشرعيته، ومن يشترك فى انتخابات البرلمان لن يحق له بعد ذلك الاعتراض على الدستور الباطل، لأنه سيقسم على احترامه.
يجب ألا تستدرجنا السلطة الفاشية إلى التفاوض حول التفاصيل حتى لا تضيع القضية الأصلية. قضيتنا، فى رأيى، أن مرسى بدأ رئيسا شرعيا منتخبا، ثم فقد شرعيته عندما دهس القانون والدستور بالإعلان الدستورى، ثم فقد شرعيته مرة أخرى عندما سقط مائة شهيد برصاص الشرطة التى تتبعه. مرسى يجب أن يرحل الآن وبلا إبطاء، لأن كل يوم يمضيه فى الحكم يؤدى إلى المزيد من الانهيار والخراب وهدم الدولة وسيطرة الفاشيين عليها. لماذا يطلب بعض السياسيين من الإخوان الحصول على ضمانات لنزاهة الانتخابات؟!.. ألم يدركوا بعد أن الإخوان كاذبون لا يوفون بوعودهم أبدا.. لماذا يؤكد بعض السياسيين أن مرسى فقد شرعيته، ثم يهرعون للجلوس معه بمجرد أن يستدعيهم؟!.. الحلول الوسط تفيد الإخوان كثيرا قى تثبيت الأوضاع الباطلة التى فرضوها علينا. لا يمكن أن نتحرر من الفاشية إلا لو اجتمعنا على مطلب واحد: أن يرحل مرسى عن الحكم.
ثالثاً: استمرار الضغط السلمى:
ظهرت حملة تمرد كفكرة ثورية تحقق مطالب الشعب بطريقة شرعية. فى النظام الديمقراطى يستطيع البرلمان أن يسحب الثقة من الرئيس ويجرى انتخابات رئاسية مبكرة، فإما أن يفوز الرئيس فيستمر فى منصبه، أو أن يخسر فيترك منصبه لمن اختاره الشعب. فى الديمقراطية لا سلطة دون محاسبة، ولا محاسبة دون الحق فى سحب الثقة..
مصر الآن بلا برلمان منتخب، فمن الطبيعى أن ترتد السلطة من البرلمان وكيل الشعب إلى الشعب نفسه. إن الموقعين على حملة تمرد ليسوا فوضويين، وإنما هم مواطنون يمارسون حقا أصيلا من حقوقهم السياسية، لأنهم يطالبون بسحب الثقة من رئيس دهس القانون والدستور، واعتقل الأبرياء وعذبهم وقتلهم، بالإضافة إلى فشله الذريع فى إدارة الدولة، وعندما يزيد عدد الموقعين فى حملة تمرد على عدد ناخبى مرسى سيصبح فاقدا للشرعية أمام العالم كله، وهنا يجب أن تنتقل المعركة إلى الشارع..
يجب أن يعتصم الملايين أمام قصر الرئاسة حتى يجبروا مرسى على الخضوع لإرادة الشعب. إن مصر الآن محتلة بمعنى الكلمة، فالاحتلال لا يقتصر على القوى الأجنبية. الحكم الفاشى بمثابة احتلال داخلى لا يقل سوءاً أو خطورة عن الاحتلال الأجنبى.. فى يوم 30 يونيو بإذن الله سينزل ملايين المصريين إلى الشوارع ليعلنوا رفضهم حكم الإخوان، ويطالبوا بحقهم فى انتخابات رئاسية مبكرة. سوف ينتصر هذا الشعب على السلطة الفاشية.