زوبعة في فنجان.. هذا واحد من العناوين التي يمكن أن نضعها على رأس الرسالة التي وقعتها العديد من الجمعيات، تعلن فيها مقاطعتها للحوار الوطني حول المجتمع المدني حتى قبل أن ينطلق عداده، والسبب هو دخول السياسة والإيديولوجيا والحسابات الضيقة على الخط، في موضوع هام وحيوي واستراتيجي في مسار بناء الديمقراطية بالمغرب، وهذا عطب مغربي قديم. المقاطعون قالوا إنهم يتحفظون على تدخل الوزير الحبيب الشوباني في تعيين أفراد لجنة مولاي إسماعيل العلوي، وإن الأعضاء المقترحين تم تجريدهم من صفاتهم الجمعوية... من حق هؤلاء وغيرهم مقاطعة أنشطة الحكومة، لكن بشيء من المنطق والعقل.. هذه لجنة استشارية وليست جمعية تأسيسية منتخبة، والوزارة هي المسؤولة في النهاية عن السياسة العمومية التي ستنظم هذا الحقل الحساس، فالوزير الشوباني وللخروج من ورطة تمثيل عشرات الآلاف من الجمعيات في لجنة محدودة العدد، لجأ إلى تمثيل الشخصيات بأسمائها لا بصفاتها، لكنها حتما لن تغسل عقلها قبل أن تدخل للجلوس إلى طاولة العلوي. نعم الوزير الشوباني أخطأ في بعض التصريحات التي نسبت إليه في بداية عهده بالوزارة، عندما بالغ في الحديث عن عدم شفافية مالية العديد من الجمعيات، وراح يفتش عن أموالها، لكن هذا ليس مبررا لأن تقاطع جمعيات وازنة حوارا وطنيا ينطلق لأول مرة في تاريخ المغرب، بعد أن تحدث الدستور الجديد عن مؤسسات المجتمع المدني في أكثر من خمسة فصول... المجتمع المدني لم ولن يكون أبدا «مواليا» للحكومة، أية حكومة، لأنه بطبيعته يشتغل باستقلال عن السلطة، ويلعب دور الرقابة على الفاعل السياسي، إلا أن هذه الحكومة، ورغم كثرة الانتقادات الموجهة إليها، يحسب لها إطلاق حوار وطني واسع حول إصلاح المجتمع المدني وتأهيله، بعد أن كانت السلطة ترى المجتمع المدني ومؤسساته «وجع رأس» وجب التخلص منه، لأنه يشوش في الداخل والخارج على مخططاتها. الآن دعونا نطل على الأحوال الصحية لهذا المسمى مجتمعا مدنيا في بلادنا. أولا، هذا المجتمع المدني (جمعيات، نقابات، أندية، روابط، منظمات، تنسيقيات...) مازال يافعا، ولم يمض وقت طويل على ميلاده (أقل من نصف قرن)، وحتى هذه المدة تخللتها قطائع ومشاكل وصعوبات في الوجود قبل الوظيفة نعم حقق هذا المجتمع المدني انجازات كبيرة وتحول إلى رقم صعب في معادلة خاصة في مجال حقوق الإنسان وفي حقل الأعمال الاجتماعية، لكن مازال أمامه طريق طويل قبل الوصول إلى خط النهاية. ثانيا، في المغرب اليوم حوالي 90 ألف جمعية في مختلف التخصصات والمجالات، لكن هذا الرقم الكبير موجود على الورق فقط، لكن الواقع يقول شيئا آخر، أقل من %5 من هذا العدد من الجمعيات من هو فاعل وناشط ومتواصل الحضور، إما محليا أو وطنيا. ثالثا، هذا المجتمع المدني، الذي نتطلع إلى إشراكه في التشريع والرقابة والتدبير وتقديم العرائض، مازال يعاني آفات التضييق عليه، ذلك أن الداخلية، وبعقليتها الأمنية، مازالت، إلى اليوم، تخرق قانون التصريح بإنشاء الجمعيات، فترفض إعطاء وصل إيداع لجمعيات، أو تلجأ إلى منع أخرى من النشاط، فقط لأنها لا ترضى عن توجهاتها السياسية أو الدينية أو الفكرية، مع أن المجتمع المدني خلق في المجتمعات الحديثة للتعبير عن كل الأفكار والتصورات والنزعات والمطالب حتى تلك التي ترى الأغلبية أنها غريبة وشاذة. المجتمع المدني في بلادنا يعاني «إرادة الهيمنة» عليه من قبل السياسي، وهذا السياسي هو إما الدولة وأجهزتها التي تتدخل مباشرة لإنشاء جمعيات تابعة لها، وإما أحزاب ومنظمات سياسية ترى في مؤسسات المجتمع المدني «أذرعا» انتخابية، وجيشا انكشاريا لخوض الحملات الانتخابية دون مراعاة لاستقلالية جمعيات المجتمع المدني، التي خرجت من رحم الديمقراطية لتكون مستقلة وحرة وشفافة. الحوار حول مستقبل المجتمع المدني في بلادنا يجب أن يتصدى لعدد من الأسئلة والإشكالات، مثل فك الحصار القانوني عن الجمعيات، وتوفير إمكانات لتمويل أنشطة هذه الجمعيات حتى لا تتحول إلى «ممون حفلات» (traiteur) لدى الدولة أو الأحزاب أو المنظمات الدولية، التي تتحكم في أجندة هذه الجمعيات عن طريق التمويل، ثم كيف السبيل إلى إحلال حكامة مالية وإدارية وسط هذه الجمعيات حتى لا تعيد إنتاج الفساد والتسلط والانتهازية الموجودة في المجتمع السياسي؟ المجتمع المدني فكرة أخلاقية في الأصل، هدفها تنظيم التطوع وسط المجتمع، وتشكيل سلطة اجتماعية مضادة للسلطة السياسية، وتحسيس الدولة والمجتمع بالمشاكل والمطالب التي لا تجد لها مكانا في برنامج الحكومات. المجتمع المدني تعبير عن قيم المواطنة، وقيمة الفرد، ومشروعية النضال، والحق في الوصول إلى آذان صانع القرار، ولهذا وجب على هذا المجتمع أن يكون سلاحا فعالا ونظيفا في الوقت نفسه حتى يربح معاركه.