انتقل رفاق الزايدي والشامي ودومو وعامر وكرم واليازغي وآخرين كثيرين، من معارضة القيادة الجديدة، إلى تشكيل جبهة في وجهها، وسور يحاصر لشكر ومكتبه السياسي في مقر الحزب بشارع العرعار في حي الرياض، حيث عنوان ميلاد حركة تصحيحية جديدة. كان هذا هو الرد على استدعاء عبد العالي دومو وعلي اليازغي للتحقيق معهما من قبل المكتب السياسي، حول ما نسب إليهما من تصريحات تشكك في مصداقية انتخاب القيادة الجديدة، ومن تدخل أطراف في الدولة على الخط من أجل ترجيح كفة طرف على آخر. استدعاء المتهمين للتحقيق معهما كان يجب أن يكون أمام لجنة التحكيم والتأديب التي لم تولد بعد وليس أمام المكتب السياسي، لأن هذا الأخير طرف في الصراع، ولا يصح أن يكون حكما فيه، ثم إن المقرر التنظيمي، الذي صادق عليه الحزب في المؤتمر الأخير، يشترط وجود لجنة مكلفة بفض المنازعات وتأديب الأعضاء الخارجين عن قانون الحزب، بحيث لا يكون من أعضائها من يجلس على كرسي في المكتب السياسي، وذلك فصلا للسلط وإحقاقا للإنصاف، وإذا كانت هذه اللجنة لم تشكل بعد، فلا يصح أن ينوب المكتب السياسي عنها في البت في أخطر أزمة يعيشها الاتحاد منذ سنوات. المشكل ليس قانونيا في حزب عبد الرحيم بوعبيد، المشكل سياسي قبل كل شيء، ولا يجب على إدريس لشكر أن يحمل مشرطا ويدخل الحزب المريض إلى غرفة العمليات، ويشرع في بتر ما يراه أعضاء زائدة أو مشوشة أو متمردة. الحزب مريض طبعا ومنذ سنوات، لكن أمراضه ليست عضوية حتى يدخله لشكر إلى المشرحة. الأرضية التي تقدم بها معارضو القيادة الجديدة، وفيهم وجوه لها إسهام كبير في تراث الحزب، كما أن فيهم من هو مسؤول، بهذا الشكل أو ذاك، عما وصل إليه الحزب من أزمة.. الأرضية طرحت سؤالين كبيرين في محاولة لإحياء نقاش غاب عن الحزب في مؤتمره الأخير، الذي غلبت عليه الصراعات والحملات الانتخابية. السؤال الأول يقول: ما هي العوامل البنيوية التي أضعفت تدريجيا الارتباط التاريخي للحزب بالمجتمع، مؤثرة على نفوذه المجتمعي ووظيفته التجميعية وإشعاعه التنظيمي والسياسي وكيانه التقدمي؟ هذا سؤال صعب وسهل في الوقت نفسه. صعب لأن الإجابة عنه تفترض توجيه اتهامات بالأسماء والعناوين والوقائع والقرارات، التي اجتمعت وتواطأت لخلق النكبة التي ابتلي بها الحزب. هذا جواب يتطلب شجاعة أدبية من كثيرين، وفي مقدمتهم القادة التاريخيون للحزب، والوجوه التي كان لها القرار في المواقف الحاسمة. وهذه مهمة اتحادية لا يجب أن توكل إلى غير أهل مكة. أما الجواب، بدون ذكر الأسماء ولا الفاعلين ولا الوقائع، فسهل، إذا ما تطلعنا إلى الصورة التي أصبحت للحزب في عيون مؤيديه والمتعاطفين معه. الحزب صار مثل بقية الأحزاب السياسية التي كان ينتقدها، حزب يسعى إلى السلطة والوجاهة والاغتناء من السياسة دون اعتبار للمشروع التقدمي الذي كان ريشة فوق رأسه، والذي من أجله (المشروع) ضحى بالغالي والنفيس. قادة الحزب الجديد بعضهم تعب فغير المعطف، وبعضهم صدم من استسلام الرفاق لإغراء السلطة بعد أن صمدوا أمام بطشها، فانزوى إلى ركن صغير يقرأ دعاء اللطيف على الحزب. ارتباط الحزب ضعف بالمجتمع، لأن الحزب لم يعد يدافع عن هذا المجتمع.. صار جزءا من آلة السلطة التي لم تتحول إلى جهاز لخدمة الناس، بل بقيت وفية لجوهرها الاستبدادي، في حين أن الذي تغير هم الاتحاديون لا السلطة التي شاركوها الفراش تحت مسمى عقد الانتقال الديمقراطي. وحتى عندما اكتشف الاتحاديون أن شريكتهم السلطة تخونهم، غضوا الطرف عن الأمر، وراهنوا على توبتها، مستمتعين بالنوم في فراشها الوثير، هذه كل الحكاية. فشل اليوسفي في تغيير المخزن، في حين نجح المخزن في تغيير الحزب وثقافته ونضاليته. جرى كل هذا على مدار 15 سنة، فإذا بالطبقة الوسطى والعمال والمتعلمين... الذين كانوا يصوتون للاتحاد، تحولوا للتصويت للعدالة والتنمية، ويكفي إلقاء نظرة على القلاع الانتخابية التي كانت اتحادية، وكيف صارت تصوت للعدالة والتنمية اليوم. الطبقة الوسطى ابتعدت عن الحزب وحل محلها الأعيان الذين يحصدون الأصوات بلا حاجة إلى مشروع أو فكرة أو نضال. هؤلاء صاروا رقما في المعادلة الجديدة، وعوض أن يهضمهم الحزب أكلوه هم، وصاروا يحكمونه، ولشكر سيكتشف أنه هو نفسه رهينة لديهم، ومن يعش سيحكي. لا يمكن أن نصنع «أومليط» دون أن نكسر ولو بيضة واحدة على الأقل. الاتحاد كسر كل بيضه في مقلاة السلطة لكن، للأسف، لم يأكل المجتمع من هذه الوجبة، وحدهم الاتحاديون، الذين شاركوا في الحكومات المتتالية، من أكل ومن ظهرت عليه آثار النعمة، والمشكل أن جزءا كبيرا من هذه النخبة مازال يريد أن يعيد الفيلم القديم من جديد. السؤال الثاني: ما العمل لإعادة بناء الاتحاد وللحفاظ على وحدته وصيانة استقلالية قراراته وخطه التقدمي لتمكينه من التأثير الإيجابي على تطور المجتمع، الذي صار مهددا بالتخبط في تيه إيديولوجي عميق أصبح يهدد استقراره؟ هذا مشروع كبير لم يولد بعد، وقد ضيع الاتحاديون، والله أعلم، قطاره في المؤتمر الأخير، وأصبحوا أبعد من ذي قبل عن الوصول إليه. بلاد مثل بلادنا تحتاج إلى حزب يساري تقدمي حداثي كبير، ليس فقط لأن الإسلاميين يكتسحون الآن جغرافيته السياسية والاجتماعية، بل لأن التقليد والتقليدانية تعشش في جسده منذ قرون، ولأن السلطة الحاكمة عوض أن تجره نحو الحداثة والعصرنة، عمدت إلى استثمار سلطة التقليد فيه حتى تخدم مشروع الاستبداد، فصارت البلاد معتقلة بالكامل في زنزانة الفكر المنغلق، والسياسة التي تنتج الاختلالات والأعطاب وكل مضادات الديمقراطية والتحديث. الحداثة ليست شعارا ولا دبابة انتقائية نخوض بها حربا ضد الأصوليين في الحكومة، ونسكت عن أصولية الدولة، بل ونتحالف مع الأطراف الأكثر رجعية داخلها من أجل مكاسب سياسية وانتخابوية وفردية، هذا اسمه نفاق سياسي. الحداثة موقف فكري وانسجام سياسي وتضحية كبيرة، وعمل دؤوب لبناء قاعدة اجتماعية تساند مشروع الحزب التقدمي. الحزب اليساري أداة لمقاومة تجاوزات الرأسمالية، وآلة لتفكيك الريع الاقتصادي والسياسي والاستغلال، والوقوف في وجه اللوبيات الخطيرة والنافذة في البلاد، لا التطبيع معها والسكوت عن قلاعها.