كان حصار آلاف من جماعة الإخوان المسلمين للمحكمة الدستورية يوم الأحد 2/12/2012، لإرهاب قُضاتها - عملاً ابتزازياً بكل معانى الكلمة. ولا يُبرئ الجماعة من هذا السلوك الغوغائى تصريح استنكارى من مسؤول إخوانى هنا، أو عضو مكتب إرشاد هناك. فهذه سابقة لم تحدث من قبل لا فى تاريخ المحكمة الدستورية، ولا فى تاريخ القضاء المصرى. وللتذكير كان هذا الحصار لمنع قُضاة المحكمة من دخول مبناها العتيد على كورنيش المعادى، للنظر فى دعويين معروضتين على المحكمة حول دستورية قانون الجمعية التأسيسية التى أُنيط بها إعداد مشروع لدستور جديد، هو الأول بعد ثورة 25 يناير 2011. أما لماذا توجّست القوى الإسلامية التى شاركت فى حصار المحكمة الدستورية، فأغلب الظن أنه لشعورها بأن مسلسل اختطافاها للثورة ثم للسُلطة، ربما سيتوقف، ولن تستطيع استكماله باختطاف الوطن. فالقضاء هو الدرع أو خط الدفاع قبل الأخير لحماية الدولة المصرية الحديثة، التى يحلو للصديق أنور الهوارى، أن يُطلق عليها «دولة محمد على». أما خط الدفاع الأخير، فهو القوات المسلحة المصرية، التى نرجو ألا يلجأ الشعب إلى الاستغاثة للاستعانة بها لإنقاذه من «أخونة الدولة»، وتحويلها إلى مجرد «إمارة» فى إمبراطورية الخلافة المزعومة، التى تمتد من إندونيسيا، فى جنوب شرق آسيا، إلى نيجيريا، فى غرب أفريقيا، وتطبيق الشريعة، أملاً فى استعادة فردوس مفقود، منذ آخر خلافة راشدة. ولا شك أن الآلاف التى احتدشت حول مبنى المحكمة الدستورية قد تم شحن عقولها بهواجس ضياع حلم الفردوس المفقود، قبل أن تشحن أجسادها فى أتوبيسات من المحافظات القريبة من القاهرة، وتم الإيحاء لأصحابها بأن المحكمة الدستورية هى التى تقف بينهم وبين تحقيق أحلامهم فى دولة الخلافة وفى استعادة الفردوس المفقود، منذ أربعة عشر قرناً! وهكذا أصبحت المحكمة الدستورية هى «كبش الفداء»، أو هى المؤسسة الشريرة التى تقف بينهم وبين أحلامهم. طبعاً لا يُهم قادة التيار الإسلامى أن جماهيرهم لن تحصل على شىء بعد هذه الجولة من الغضب. فهم قادرون على إيجاد أكباش فداء جديدة، كُلما لزم الأمر. وقد يكون كبش الفداء مؤسسة أو فريقاً من المواطنين، أو حتى دولة أجنبية. وضمن المُرشّحون كأكباش فداء فى الفترة القادمة، صُحف المُعارضة، والفضائيات الوطنية، ومنظمات المجتمع المدنى، ورجال الأعمال من غير الإخوان، والأقباط، والبهائيين، والشيعة ثم هذه الدولة الأجنبية أو تلك. لكن الجديد فى هذا المشهد المصرى أن الإخوان المسلمين، وحُلفاءهم من السلفيين هم الذين يحكمون الآن. أى أنه كان مفهوماً أن يلجأوا وغيرهم من تيار الإسلام السياسى إلى العُنف، حينما كانوا مُستبعدين من المُشاركة فى السُلطة، أو حينما كانوا محجوبون عن الشرعية: أما الآن فهم فى السُلطة. وهم ملء الأسماع والأبصار! ولا نكاد نعثر على سابقة من هذا النوع إلا فى ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، فى ثلاثينيات القرن الماضى. من ذلك أنه رغم حصول «هتلر» وحزبه النازى على «أكثرية»، مكّنتهم من تولى السُلطة إلا أنهم لم يشعروا لا بالأمان، ولا بالاطمئنان. فالأكثرية التى حصلوا عليها فى انتخابات عُقدت أوائل ثلاثينيات القرن الماضى كانت 34 فى المائة. صحيح أنها كانت أكبر كُتلة تصويتية، وصحيح أن رئيس الجمهورية كلّفهم بتكوين حكومة تولت السُلطة. لكن «هتلر»، مع ذلك، لم يشعر بالأمان. فمن ناحية كان واقع الأرقام يقول له إن 66 فى المائة من الناخبين الألمان ليسوا معه. وصحيح أن الحزب التالى لحزبه النازى كان حزباً وطنياً مُحافظاً من رجال الأعمال والطبقة الوسطى «البرجوازية» الألمانية. وأتى الاشتراكيون فى المرتبة الثالثة، ثم الشيوعيون فى المرتبة الرابعة. ومن ناحية أخرى، وربما أهم، اعتقاد «هتلر» الجازم أن من ليس معه، قلباً وقالباً، فهو عدوٌّ قريب أو عدوٌّ بعيد. لذلك لا بد من تدمير هذا «العدو»، أو إخضاعه تماماً. إنه الإحساس «بالفضيلة»، وباحتكار «الحقيقة»، وبأنه مستودع «الوطنية» الأوحد. إن هذا المنظور للواقع، وللبشر، وللمجتمع والدولة هو ما اصطلح عُلماء الاجتماع والسياسة على تسميته «الشمولية». والمُعادل الوظيفى لهذه الشمولية «الفاشية الإسلامية»، هو اعتقاد الإخوان أنهم فقط، دون غيرهم، المسلمون الحقيقيون. وأنهم فقط، ودون غيرهم، حُماة العقيدة والدين! ومن هذا المنظور فشباب ميدان التحرير والمحكمة الدستورية، وكل الفضائيات والصُحف التى لا تتبعهم أو تنافقهم - فى مُعسكر أو فسطاط «الكُفّار» أو «المشركين»، أو «المنافقين».. وإنه آجلاً أو عاجلاً، لا بد من هدايتهم أو حربهم والقضاء عليهم. فأصحاب هذه العقلية الشمولية يضيقون ذرعاً بالتنوع والاختلاف. لذلك، ورغم وجودهم فى السُلطة، مُتمثلة فى قصر الاتحادية الذى يشغله الرئيس محمد مرسى، ومجلس الوزراء، الذى يشغله هشام قنديل، فهم لايزال لُعابهم يسيل لاستكمال السيطرة الكاملة على كل السُلطات، بالتخلص من المحكمة الدستورية العُليا، أو إعادة تشكيلها على هواهم، ومن كوادرهم النائمة فى المستويات الوسطى من قُضاة مجلس الدولة، أو محاكم الاستئناف، أو هيئة قضايا الدولة. وهذا هو التفسير الأقرب للصحة وراء إرسال عدة آلاف من بلطجية الإخوان لحصار المحكمة الدستورية، وترويع الشيوخ من قُضاتها الأجلاء. لكن، كما اكتشف الإخوان أن هناك قوى شبابية لا تمت لهم بصلة، وقادرة على الحشد فى ميدان التحرير، وميادين مصر الأخرى، وأنها قادرة على مُحاصرة مقارهم، بل ربما إحراقها. فليختشوا، وليتخلصوا من غرورهم، ومن نزعاتهم المريضة للسيطرة، والاستئثار، والاحتكار، والاستكبار. لعنة الله على المُستكبرين.. آمين. وعلى الله قصد السبيل.