عندما اقترح علي الزملاء في جريدة «المساء» كتابة مقال حول موضوع حرية الصحافة، على علاقة بما يحصل حاليا لمديرها، السيد رشيد نيني، احترت في الاتجاه الذي أسير فيه، هل هو التأكيد فقط على الموقف الذي عبرنا عنه في النقابة والرافض لاعتقال الصحافي واستعمال القانون الجنائي أم هو مناقشة الإشكالات المرتبطة بممارسة حرية الصحافة في علاقتها بالأخلاقيات وبالمسؤولية الاجتماعية وحقوق المجتمع والناس؟ فاخترت الدمج بين التوجهين. ومبرر اختياري هو أن هناك صحافيين ومثقفين وأطرا في عدة مجالات، طالما سألوني: إذا كنتم، في النقابة، تقفون باستمرار ضد اعتقال الصحافيين وترفضون اللجوء إلى قوانين أخرى، غير قانون الصحافة، فكيف تعالجون مشاكل من قبيل توجيه تهم بدون حجج أو نشر إشاعات خطيرة أو التهجم على الناس؟ وهل تعتقدون أن الصحافي لا ينبغي أن يحاسب ويتابع مثل بقية المواطنين؟ ومن هذه الأسئلة يتفرع سؤال كبير ومعقد: إذا كان الصحافي مثل بقية المواطنين، فلماذا لا يخضع لكل القوانين، بما في ذلك القانون الجنائي؟ طرحت علينا هذه الإشكالية باستمرار ونحن نناقش قانون الصحافة. والجواب العام الذي يقدم، حتى من طرف حقوقيين، هو أن المبدأ الدستوري يجعل كل المواطنين سواسية أمام القانون، ولا يمكن التنصيص على أن جرائم النشر لا يطبق عليها إلا قانون الصحافة. إذا كان هذا المنطق العام صحيحا بشكل مجرد، فإن وجود قانون للصحافة يلزم القضاء بتطبيقه في قضايا النشر، وإلا فما هو مبرر وجوده؟ سيكون من العبث أن نسعى حاليا إلى تعديل هذا القانون ونبذل الجهد الجهيد من أجل إصلاحه، وبعدها يتجاهله القضاء، كما لو كان معدوما. وهذا ما حصل في حالة رشيد نيني. إن المتابعة وإن كانت ضرورية، وهذه أيضا في حاجة إلى نقاش، فقد كان من الممكن تكييف التهم بقانون الصحافة، فهناك العديد من الفصول التي تتيح ذلك. المسألة الثانية التي تبرر هذا الموقف هي أن تطبيق فصول القانون الجنائي قد تجر، بشكل حتمي، العديد من الصحافيين إلى السجن لأنها، في صياغتها، لا توافق متطلبات النشر وحرية الرأي، كما هو الشأن، مثلا، بالنسبة إلى المنع من ممارسة المهنة، الذي يتم اللجوء فيه إلى القانون الجنائي. ويمكن، في قراءة بسيطة لهذا القانون، أن نجد فيه فلسفة أخرى، لا يمكنها معالجة ما يسمى بجرائم النشر، بينما قوانين الصحافة تنطلق من فلسفة مغايرة، لأنها ممارسة لها قواعد مهنية وقيم وشروط وظروف لا يمكن إخضاعها لمنطق القوانين الجنائية، ولأنها أيضا تستند إلى الفصل ال19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعطي الحق للمجتمع في تلقي المعلومات وتداولها ونشرها بكل حرية. وللتدليل أيضا على ما نقوله، نؤكد أنه في كل البلدان الديمقراطية تُطبق قوانين الصحافة، إن وجدت، على جرائم النشر، ولا يتم اللجوء إلى القوانين الجنائية رغم أن المبدأ الدستوري، الذي تحدثنا عنه أعلاه، يتيح لها ذلك ورغم أن التهم توجه إلى كل المسؤولين ويتم التشكيك في عمل الأجهزة الأمنية. أما في ما يتعلق بإشكالات أخرى، مثل نشر أخبار كاذبة وتوجيه تهم بدون أساس، فهناك أيضا ما يكفي في قانون الصحافة لمعالجة هذه القضايا، لكن ما يهمنا هنا هو التأكيد على حقوق الناس. وهنا أخطأ القضاء في العديد من الحالات، فقد عرضت عليه شكايات من طرف مواطنين اعتبروا أنفسهم ضحية القذف والتشهير بواسطة الجرائد، لكن التعويض عن الضرر تفاوت حسب «الحاجات»، فهناك أحكام وصلت إلى الملايين وهناك أحكام أخرى لم تتجاوز آلاف الدراهم. هناك، إذن، خلل ما. ومن منطلق دستوري يقر بأن المواطنين سواسية، نتساءل: لماذا تحرك النيابة العامة المتابعة ضد مدير نشر جريدة «المساء»، لكونه تعرض بتهم لمسؤولين في الأمن، في الوقت الذي تم فيه التعرض في الصحافة للعديد من المسؤولين، على مختلف مستوياتهم، وفي بعض الأحيان بكلمات جارحة تصل إلى التشهير والسب والقذف وتوجيه تهم إليهم يعاقب عليها القانون، فلماذا صمتت النيابة العامة ولم تتحرك بحماس كما تحركت في حالة المسؤولين الأمنيين؟ وفي دولة الحق والقانون وباعتبار أن المواطنين سواسية، كان يمكن لهؤلاء المسؤولين الكبار في الأمن أن يتوجهوا إلى القضاء بشكاوى، إذا اعتبروا أنفسهم متضررين، كما يتم في كل البلدان الديمقراطية المتحضرة، لكن الوضع يؤكد أن هناك خللا ما. والخلل الأكبر يوجد في موضوع الأخلاقيات، لأن هناك من لا يريد للصحافة الاستقلاليةَ الحقيقية والنزاهة الفكرية ودورَ البحث والتقصي، ولهذا السبب ندين باستمرار التدخلات الخارجة عن إطار المهنة. والجسم الصحفي هو الذي يطالب باحترام هذه الأخلاقيات، لذلك ننتظر من المسار الديمقراطي الذي يمكن أن تسير فيه بلادنا أن يضع حدا لهذه التدخلات، حتى يتمكن الصحافيون من إقامة تنظيمهم الذاتي لحماية الأخلاقيات وقواعد العمل الصحافي بكل الجدية اللازمة.