لم يطلق المؤرخ المغربي عبد الله العروي وصف صاحب "أوهام العظمة والنفوذ" بشكل مباشر وميكانيكي على الزعيم الليبي معمر القذافي إلا أنه أشار إلى ذلك ضمنيا بعد قراءة متأنية. العروي الذي يدقق كثيرا في الوقائع وفي تاريخ الأفكار يعتبر أن الوقائع الإجتماعية والتاريخية في ليبيا مرتبطة ومتداخلة في نهاية التحليل. فالزعيم مرتبط بالشعب وهو ابن بيئة ومجتمع معين في نهاية المطاف. وراء خطاب "زنكة زنكة" و إلى الأمام .." الرائج في الشارع ووسائل الإعلام العربية، يكمن واقع سياسي واجتماعي خاص في ليبيا يحاول العروي فهمه ويقدم تفسيرات تاريخية ومجتمعية حوله. وقد عرف عبد الله العروي الزعيم معمر القذافي جيدا لأنه التقى به في الثمانينيات من القرن الماضي وتحاور معه في جلسات مطولة. التقاه مرتين كموفد من قبل الملك الراحل الحسن الثاني بخصوص تجربة الإتحاد العربي الإفريقي بين المغرب وليبيا والتي لم تعمر طويلا في سياق الصراع حول قضية الصحراء وقد أبرمها الحسن الثاني مع العقيد اللليبي معمر القذافي في 1984 (انظر كتاب "المغرب والحسن الثاني" لعبد الله العروي. ص 120 ). وكان العروي آنذاك مكلفا بمهمة شرح وتفسير خلفيات هذه الاتفاقية لمجموعة من الدول الأوربية، وذلك باقتراح من القذافي نفسه. وكان مستشارو القذافي، المقربون من حزب البعث، قد اطلعوا على كتابات العروي الصادرة في لبنان ومنها "الأيديولوجية العربية". ويحكي العروي أن القذافي سمح له، إلى جانب الحديث معه عن تلك المهمة الدبلوماسية الخاصة، بأن يتطرق، خلال أحاديث مطولة، لأفكاره حول التأخر العربي وسبل مواجهته الواردة في تلك الكتابات. والخلاصة التي خرج بها عبد الله العروي هي أن القذافي شخصية مختلفة عما تصفه الصحافة الغربية. فهو إنسان " ذو طبع غير مستقر" على المستوى الشخصي، إلا أنه، على المستوى السياسي، متأثر بأفكار الثورة الصينية. وإن كان لم يحتفظ منها، حسب العروي، سوى بجانب الثورة الثقافية. ومن هنا كان "لديه هاجس دائم هو الخوف من أن تعود بلاده، والدول العربية عموما، إلى السقوط في سباتها المعتاد"، ولهذا، كان يسعى باستمرار، وكل يوم، إلى خلخلة الحياة اليومية للشعب الليبي وزعزعتها. فالسياسة بالنسبة إليه هي "صدمات الكهربائية متتالية" يقول العروي. كما يرى أن القذافي كرئيس دولة يتمتع " بحس واقعي غير منتظر". مضيفا أنه "ليست هناك أي علاقة بين ما كان يقوله في الخفاء أو في العلن، وبين ما كان يبلغه للمسؤولين الأجانب". إذ كان يتعاطى مع هؤلاء المسؤولين بالعقلانية وبالحجج التي لا يمكن دحضها" ويعتبر أنه إذا كان القذافي قد خسر تقريبا جميع معاركه على الصعيد السياسي، فإنه كان يربحها على الصعيد القانوني. وأن هذه الجوانب في شخصيته هي التي أعجبت الحسن الثاني وأن الرجلين لم يقطعا أبدا العلاقات بينهما رغم عدم نجاح اتفاقية الإتحاد العربي الإفريقي. هذه الوقائع حصلت قبل حوالي 20 سنة لكن هل تغيرت الأمور كثيرا في ليبيا؟ وهل تغيرت طريقة تفكير الزعيم الليبي وممارسته للسياسة خاصة بعد التنازلات التي قدمها بتخليه عن التسلح وإبرامه لتصالحات مع الدول الغربية في سياق رفع الحصار على بلده وإنهاء أزمة لوكربي؟ يعود عبد العروي إلى الإهتمام بالوضع في ليبيا في كتابه الأخير " من ديوان السياسة" (الصادر في 2009)، حيث يعقد مقارنة خاصة بين الديمقراطية في ليبيا وسويسرا ويقول إن هذين البلدين اللذان يقولان إنهما يجسدان الديمقراطية المثالية، يتبنيان نظاما سياسيا خاصا هو "الديمقراطية المباشرة" الذي تمنح سلطات واسعة لمجالس شعبية. وهي نظرية للحكم حاول الزعيم الليبي بلورتها في "الكتاب الأخضر" الذي ألفه في 1975. والملاحظ أن القذافي أشار إلى ذلك عدة مرات في تصريحاته الصحفية، منذ انفجار الأحداث الأخيرة في بلاده. حيث أكد أنه ليس هو الحاكم وإنما الشعب هو الذي يحكم. يقول العروي في هذا الصدد بأسلوبه البسيط والعميق مقارنا بين ليبيا وسويسرا: "تجول في كلا القطرين (ليبيا وسويسرا)، راقب أحوال الناس ومحيطهم الطبيعي، أنصت إلى ما يقوله الحكام والمحكومون، سجل ما يجمع البلدين ( إن كان ) وما يميز بينهما، وعندها تخلص إلى معنى كلمة (ديمقراطية) المتداخل الملتبس". ويستنتج من هذه المقارنة أن الديمقراطية في سويسرا حقيقية، معطيا تفسيرات تحيل إلى الأصول التاريخية والدينية (الكالفينية - المسيحية) للديمقراطية في هذا البلد والتي يعتبرها مشابهة، في الجوهر، للديمقراطية في بريطانيا، مع فارق فقط في الشكل والأسلوب أي بين نظام جمهوري في سويسرا وملكي في بريطانيا. أما الديمقراطية في ليبيا فتبقى "ديمقراطية نظرية" حسب تعبيره. ويوضح أنه " في ليبيا ربما الرفه موجود لكن المهارة مفقودة وبالتالي الحنكة والخبرة. وحدة اللغة والعقيدة والثقافة متوافرة نسبيا، لكن "التهذيب" بالمعنى العام ناقص أو منعدم. لا تزال التربية البدوية بالتحديد هي المسيطرة على النفوس، المتحكمة في السلوك. تعميم التعليم محقق أو قريب من التحقيق، لكن "الأدلوجة" الديمقراطية، كما عرضها خطباء أثينا وورثها عنهم المنظرون المحدثون، أي تمثل الديمقراطية كنظام مدني متجانس، هذه الفكرة غير حاضرة في ما يقرأ يحفظ يتمثل به". وهذا التحليل قد يفيد كثيرا في فهم تأثير التركيبة القبلية في ليبيا على الصراع الدموي الدائر حاليا، وعدم حسم الأمور عسكريا أو التحول سياسيا، بشكل مشابه وسريع، مقارنة مع ما حصل في تونس ومصر. وهذا ما يثير مسألة الخصوصيات والتمايزات الثقافية والسياسية في العالم العربي اليوم. ويضيف العروي بخصوص كيفية ممارسة الحكم ووضعية النقاش السياسي في ليبيا: "يقوم الخطيب في الندوات الجماهيرية ويقول ما يقول بالألفاظ والعبارات التقليدية، فتخونه هذه وتؤدي للسامع عكس ما يقصد القائل، لأنها لم تؤول حسب المراد، ولمدة طويلة، حتى تتخللها معان غير معاني التقليد". ويخلص في النهاية إلى الخلاصة التالية: "لكي تكون الجماهيرية ديمقراطية يجب أن يخضع الجمهور لعملية تهذيب طويلة وشاقة تستلزم همة ومثابرة، دون الإنشغال بما سواها من أوهام العظمة والنفوذ". • العروي "المغرب والحسن الثاني، شهادة " بالفرنسية صادر عن المركز الثقافي العربي. 2005 • عبد العروي "من ديوان السياسة" عن المركز الثقافي العربي. 2009 • المصدر: "أخبار اليوم"