· يرى النحاة أن كلمة" أسم" ، ثلاثية الأصل، وأن همزة الوصل فيها بدلاً من لام الكلمة المحذوفة، والأصل (سمو) . وهذا رأي البصريين. ويرى الكوفيون أنها بدل من فاء الكلمة المحذوفة، والأصل (وسم). لكن مقارنة اللغات السامية تدل على أن هذه الكلمة مع كلمات أخرى كثيرة، مثل يد ، ودم ، ذات أصل ثنائي. فكلمة أسم جاءت : في العبرية : شِمْ shem وفي الآرامية : شَماَ shma والألف الأخيرة فيها أداة التعريف . وفي الحبشية : سم sem وفي الأكادية : شمْ shumu وهذه المقارنة تدل على أن ما ذهب إليه النحاة القدامى، لا يمت إلى الصواب، وذلك لجهلهم اللغات السامية. * سلطة الاسم · تُعتبر الأسماء واختيارها من أصعب ما يواجه الكاتب الروائي والقصصي والمسرحي عموماً، ومثله الناقد الذي قد يضطر أحياناً إلى إغفال مسألة تناول الأسماء أو التعرض لها بالشرح والتحليل والتفسير في النص وعلة اختيارها لعدة أسباب، من ذلك عدم وجود مغزى للكاتب في اختيارها، أي أن هذا الأخير كان عشوائياً، ومنها حقيقة الأسماء وواقعيتها ، بيد أن ثمة أعمال أدبية كثيرة كانت صناعة واختيار الأسماء فيها لها حساباتها الخاصة والدقيقة ، ولها أهدافها وجذورها التي تضرب في عمق القضايا النفسية والفلسفية للذات الإنسانية ، ولعل أكبر تجسيد لهذا ومما نأخذه كمسوغات وبراهين لما نرمي إليه حكايات "ألف ليلة وليلة " التي رغم كونها مجهولة الهوية بيد أنّ عظمة هويتها تقترن بالدقة في صنع وحبك التفاصيل الجوهرية للعلاقات الإنسانية، والاحتراف والدقة والبراعة في رسم الشخصيات، والمعرفة العميقة بخبايا النفس البشرية وما تحمله من تناقضات، ولعل مما يدهشنا فيها وهو ما نحن بصدده قضية اختيار " الأسماء " والمهارة في صناعتها لتتوائم مع مقتضى الحال، إذ كانت وفق معايير وقواعد نفسية دقيقة، تُجسّد السلطة التي يمتلكها الاسم وتتحكم في حياة الإنسان وطبيعتها، أيضاً تصف كيف يشارك الاسم في رسم ملامح الشخصية الإنسانية وتشكيل ملامحها في إطار سياق عام ومنظومة تحكي براعة الصانع وخبرة البنّاء في رصف الحجر، وتصف مشاركة الاسم في تشكيل التركيبة السيكولوجية والفسيولوجية، من ذلك وكمثال شخصية "علي الزئبق"، هذه الشخصية تتسم طيلة الحكايا التي تدور في فلكها وضمنها بصفة الزئبق الذي يستحيل إمساكه مثلما يستحيل إمساك علي الزئبق أو القبض عليه، كذلك شخصية " النحّاس " والذي يقترن بالنحس طيلة الحكاية وفي أي عمل كان يقوم به، وبالمثل نجد شخصية "باسم الحداد" والتي تدور حكايتها في فلك "الحِداد" وهو حداد الموت "ثلاثة أيام "، أما الأسم الأول "باسم " فعبر عن القصد من الحداد ويستهل به كقولنا "بسم الله " ولكن بدون التضييق على ألف الوصل، وهذا المعنى للاسم يُجسد المعنى الإجمالي من الحكاية وفلك موضوعها، فباسم الذي كان عاملاً على باب الله ،ليس له أُسرة يُعيلها، كان يخرج من مسكنه صباحاً لكسب ما يحتاجه في سبيل إحياء ليلته، إلى أن يزوره أمير البلاد ووزيره متنكرين بعد أن يُغريهما مشهد مسكنه إذ كان مبعث خروجهما بهذه الأزياء وهذا التنكر البحث عن المتعة واللهو والأنس والمؤانسة، فيأتي مشهد مسكنه بنوافذه المشرعة التي ينبعث منها الضوء، وصوته الذي يُدندن بهِ، فيُشاركاه أمسيته، ويأخذ هو في وصف طريقة عيشته لهما، والتي يستسيغها الأمير ويروقه الالتفات إليها، لغرابتها وسذاجتها والطرفة التي تضج بها، يتبسم الأمير من ثمّ وقد راقه الأمر وانتابته رغبة عارمة في كسب شيءٍ من المتعة مع باسم المسكين الذي لم يعلم ما دار بخلد الأمير وما خبئه له القدر..!! في صباح اليوم التالي يذهب باسم ليعمل كعادته ، لكنه يفاجأ بالفرمان الحدادي الذي أعلنه الأمير في الجهة التي يكسب رزقهُ منها، ولأن باسم رجلٌ صلب فقد بدّل مهنته بكفاح، وبنفس الطريقة يكسب رزقهُ ويقول " سأُحيي ليلتي " ، ثم يعود إلى مسكنهِ ليُحيي ليلته، ويزوره الأمير ووزيره متنكرين كما الليلة الفائتة، ويشاركاه أمسيته، ويسترسلا في الحديث معه، ويستدرجانهِ من حيث لا يدري ولا يحسب له حساباً، فيفصح لهما عما فعله في ذلك اليوم وعن المهنة التي كسب منها رزقهُ ، وبنفس المنوال يخرج في صباح اليوم التالي إلى مهنته الجديدة بيد أنه يُفاجأ بفرمانٍ حدادي جديد في هذه المهنة الجديدة، ويضطر بكفاح إلى البحث عن مهنة جديدة في سبيل كسب ما يحتاجه لإحياء ليلته... وهكذا تستمر الحكاية حتى يصل الأمر بباسم جراء الفرمانات الحدادية المتتابعة إلى الانضمام إلى صفوف عاملي البلاط وحرسه، والتي تجعل الأمير يضحك من أعماقهِ كما تجعله يعجب بشدة بكفاح باسم وصلابة عزيمته وعدم يأسه فيكافأهُ بسخاء ويُجزلهُ العطاء ...وتنتهي الحكاية... وعليه ومن ذلك نكتشف أن السلطة التي كانت تتحكم في مسار الحكاية هذه والحكايات جميعاً وما دار في فلكها والطبيعة الجوهرية للشخصيات أيضاً كلها كانت مرهونة بالاسم وسُلطته، ولعل أهم النظريات التي تتناول هذه التقنية بدقة نظريات نشأة اللغة للعالم العربي أبو الفتح عثمان بن جني التي أوردها في كتابه الخصائص وأفرد لها بابين الأول " تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني " والآخر " إمساس الألفاظ أشباه المعاني "، كذلك نجد هذا النوع من التقنيات ضمن ما ميزه ريفاتير من أنماط الاشتقاق المزدوج الخاص بالأسماء والعناوين وتقنيتها كما في كتاب " قراءة في قصيدة النثر "لسوزان برناد ويعددها : 1- اشتقاق صريح، ولكنه يُرد ضمنياً إلى اشتقاق آخر، يُثير مراجع صورية، ومعانٍ ضمنية توحيها الكلمة، لا وجود لها في النص، بتعبير أدق" عنوان النص يشير إلى غير ما يحتويه النص" . 2- يمكن وضع اشتقاقين معاً في النص ولكنهما متنافران دلالياً إلى حدٍ ما ومثال ذلك نص "سطوع القمر" لكلوديل الذي عالج موضوعاً هو القمر مع أخبار خاصة بالشمس . 3- اشتقاقان حاضران في النص- في الوقت ذاته- يتناقضان على الصعيد الأسلوبي. - ومن الأعمال الأدبية والروائية العالمية التي تجسد هذه الفكرة " رواية الجبل الخامس " للروائي البرازيلي " باولو كويلهو " الذي يشتهر باستغراقهِ العميق في ثقافة الشرق وروحانياته ، مستلهماً منها موضوعات رواياته غائصاً في سراديب النفس البشرية ، محاولاً إعطائها بعدها الحضاري ورابطاً لها بمتغيرات العصر وتقنياته ومتطلباته ، كما يتجسد هذا في روايته " الخيميائي " و"حاج كومبوستيلا" و " الظاهر" وغيرها ، وفي رواية " الجبل الخامس" تطرق كويلهو في تفاصيل الجزئية ما قبل الأخيرة تحديداً وهو من أكثر ما يُثير الإعجاب عندما يشرع بطل الرواية في بناء المدينة المدمرة من الأعداء الغزاة وعندما تصبح المدينة مجرد أطلال وخرائب فيشرع بطل الرواية إلى إعادة إعمارها مع من تبقى معه من الأطفال والنساء والشيوخ ومحاولةً منه لبث روح الحماس في قلوب تلك الثلة الباقية من أجل الثبات من اجل حبهم للمدينة ، فيكون طلبه إليهم بأن يكتشف كل فردٍ منهم في نفسه أسماً يتسمى بهِ غير حروف أسمه المدونة في شهادة ميلاده المسمى بها من قبل والديه ، يتصف بخروجه عن نطاق الحياة التقليدية الرتيبة ومن ثم يصبح هدفاً بحد ذاته يتجاوز به الفرد مرحلة اليأس والإحباط ويعبر به عن طموحه ويثبت من خلاله كينونته ووجوده كعنصر فاعل في هذه الحياة وأيضاً استحقاقه وجدارته لأن يعيشها، كما أّنه يُعرِّف بوظيفتهِ الأساسية في الحياة ويصف خطته بها وبرنامجه وأفكاره وتطلعاته فيها، وإيجاد ذاته من خلال موهبة أو علم أو حرفة تمضي بحياته قدماً في ركب الحضارة والبناء والمعامرة، متحدّياً بهذا الاسم كل صعوبة قد تواجهه وكل معيق ما يمنحه الاستمرار في السير على الدرب والمنهج الذي اختاره له هذا الاسم الذي اكتشفه بأعماقه ..!! كذلك نجد في رواية " من أنت أيها الملاك" للأديب والروائي العربي الكبير " إبراهيم الكوني" ما يتمثل الفكرة النفسية والفلسفية وأبعادها المحمولة على أكف الشقاء والإضناء في رحلة البحث عن الاسم وسلطته برمزية تحيلنا إلى العوالم التي تختزل ذلك الصراع القائم بين الأجيال وحكاية الصراع الأبدية بينها وبين الحاضر والماضي والمستقبل .. - وعلى ذلك فليس ثمة غرابة أن نجد الطب النفسي الحديث يلتزم في تحليلاته للحالات التي يُعالجها ويتناول طبيعة تركيبتها السيكولوجية والفسيولوجية بالدراسة والبحث والتنقيب " الاسم " محوراً ومنطلقاً لذلك، إذ أن الفكرة في الأساس قديمة والتزامه هذا قد يكون متأخراً نوعاً ما، فالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام وفي المفاوضات التي تجري بينه وبين قريش في "صلح الحديبية" وبعد فشل الوفد الأول والوفد الثاني من وفود قريش في الوصول إلى حل، يأتي الوفد الثالث بزعامة سهيل بن عمر" وبمجرد رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام له قادماً حتى يقول لأصحابه:" سهل الله أمركم" ، وينتهى مسير النبي عليه الصلاة والسلام إلى بين جبلين فيسأل عن اسمهما فيقال له" مخزٍ وفاضح" ، فيعدل عن المشي بينهما . - وروى البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده قال :أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقال :"ما اسمك؟" ، قلت : حزن " والحزونة " هي "الغلظة" فقال عليه الصلاة والسلام " بل أنت سهل" قال : لا أغير أسماً سمانيه أبي..!! ، قال سعيد بن المسيب: فما زالت تلك الحزونة فينا!. - وأُتي النبي عليه الصلاة والسلام بغلام فقال : " ما سميتم هذا ؟" قالوا : سميناه السائب" ! فقال عليه الصلاة والسلام :" لا تسموه السائب ولكن عبد الله " قال فغلبوا على أسمه – أي على أسم السائب – فلم يمت حتى ذهب عقلهُ، رواه الترمذي . - وقال عليه الصلاة والسلام :" أسلم سلمها الله ، وغفار غفر الله لها ، وعصية عصت الله " رواه مسلم ، وعندما نزل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكربلاء ، سأل عن أسمها ، فقيل له " كربلاء" فقال :" كربٌ وبلاء" . فكان مثلما قال رضي الله عنه ..!! - وقال عوانة بن الحكم : لما دُعي عبد الله بن الزبير إلى نفسه قام عبد الله بن مطيع ليبايع فقبض عبد الله يده حتى قام أخوه مصعب فبايعه، فقال الناس : أبى أن يبايع ابن مطيع وبايع مصعباً ، ليجدنّ في أمرهِ صعوبة فكان كما قالوا ..!! - وفي حرب الحجاج بن يوسف لابن الأشعث نزل الحجاج في " دير قرة " ونزل عبد الرحمن بن الأشعث في " دير الجماجم" فقال الحجاج: استقر الأمر في يدي وتجمجم به أمره ، والله لأقتلنه .. فكان مثلما قال..! - والإسلام والنبي عليه الصلاة والسلام غير بمجيئهِ مفاهيم وأسماء كثيرة بدعوى المعاني الفاسدة والصفات الذميمة والقبيحة التي تحملها ، كما يذكر ذلك أحمد بن فارس في كتابه " الصاحبي في اللغة " ، ومن ذلك أنه غير اسم "شهاب" إلى " هشام " ، وسمى " حرباً " سلماً" ، وسمى " المضطجع" "المنبعث" ، و"عاصية " بجميلة" ، وأصرم " ب" زرعة " ، وغير اسم أرض " عفرة " ب " خضرة" و" شعب الضلالة" ب" شعب الهداية " و"بنو الزنية" ب"بنو الرشدة" وغير اسم " العاص" و"عزير" و"غفلة " و"شيطان" و"الحكم" و"غراب" ! ..وغير ذلك كثير .. - كل هذا يحثنا على التروي والتفكير المستفيض قبل اختيار الاسم وتسمية المسمى ، كما يحدد ما علينا من مهام تبعاً لما تعنيه أسماؤنا ، وما أحوجنا إلى أسماء تحدد الرغبة الجوهرية والطموح الذي يسكننا ونرغب ونسعى إلى تحقيقه وتعبر عن الإرادة التي نسعى إلى الإمساك بزمامها لتحقيق كينونتنا ، وإثبات وجودنا، والقاعدة قياسية مطردة بيد أن لها شذوذها شأنها شأن أي قاعدة أخرى ، لذلك فالتعميم بشأنها سيكون مجحفاً وجائراً، وغير منصف أيضاً . سُلطة السياق * المسألة الثانية : قضية السياق التي لا تقل أهميةً في سلطتها عن سلطة الاسم وهي سلطة نفسية وفلسفية وروحية، نستطيع إدراجها ضمن العلوم الإنسانية النفسية الحديثة المضطلعة في برمجة الذات كعلم " البرمجة اللغوية العصبية " والذي هو أحد فروع علم النفس الحديثة، التي أُسست بنهاية الثمانينات، كعلم يبحث في آفاق التنمية البشرية وآفاق السلوكيات الإنسانية وبرمجتها، ومن ذلك ما ذُكر عن الشاعر إبراهيم بن خفاجة في كتاب " تاريخ الأدب الأندلسي – عصر الطوائف والمرابطين" لإحسان عباس أنه كان يغادر أحياناً منزله بجزيرة شقر وحيداً ، ويمضي حتى إذا صار بين جبلين هناك وقف يصيح " يا إبراهيم تموت !" فيردد الصدى كلماته، ثم يعيدها ويعود الصدى إلى ترديدها ، ويظل على هذه الحال حتى يخرُّ مغشياً عليه... وثمة حكاية أخرى مؤداها أن ثمة رجل حُكم عليه بالإعدام وكان هارباً من وجه العدالة وطريداً للشرطة وفيما كان يبحث عن مكانٍ للاختباء فيه وجد قطاراً فاستقله ومن بين مقطوراته لم يجد غير الثلاجة مكاناً للاختباء فيه ، وهناك ظل يردد على نفسه عبارة واحدة هي " أنا سأموت ...أنا سأتجمد من البرد " " أنا سأموت ...أنا سأتجمد من البرد " وحتى جاء الصباح ليجدوا الرجل ميتاً، وحين يقوم فريق الطب الجنائي بتشريح الجثة يجد أن جميع أعصاب الرجل قد تجمدت وأن سبب وفاته هو شدة البرد ...!! ليس المهم كيف مات ذلك الرجل لكن المهم هو أن ثلاجة القطار كانت معطلة أصلاً ...!! إن الحاصل هنا يجسد ويرتبط مطلقاً بسلطة السياق كما في قصة إبراهيم بن خفاجة ، وهي عينها سلطة الاسم ، بيد أن سلطة السياق وما تعنيه تندرج ضمن " البرمجة اللغوية العصبية " الخاصة بالإنسان وسلوكياته، والفكرة قديمة قِدم فكرة الاسم وما لها من سلطة، بيد أن العرب قديماً عرفوها معنىً وجهلوها أسماً ، شأنهم في ذلك شأن علوم كثيرة، وقد عرفت قديماً ب" الكذب على النفس" ومما يؤكد ذلك قول لبيد بن أي ربيعة في معلقته : " واكذب النفس إذا حدّثتها / إن صدق النفس يُزري بالأمل " ومثل ذلك قول نافع بن لقيط : " وإذا صدقت النفس لم تترك لها / أملاً ويأمل ما اشتهى المكذوبُ" وجاء في الأثر عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله:" إذا حّدثت النفس خالياً فاكذبها " أي إذا اختليت بنفسك فاكذب عليها حتى لا تثبط من عزيمتها ، فإذا حدثت نفسك بإنك بلغت قمة النجاح فهذا مؤذنٌ بالسقوط لأن ليس بعد القمة سوى الهاوية ، وإذا كنت فاشلاً وحدثت نفسك بإنك إنسانٌ ناجح فإنك ناجح وستنجح فقط وببساطة لأن "حياة الناجحين مسلسل من الفشل " وأيضاً لأن قولك هذا يتحول إلى سلوكيات وأفعال على الواقع بمعنى أنه يهندس حياتك ويُصيغُ عالمك ويبرمج ذاتك ويمنحك الأمل والنجاح، وقد أُطلِقَ على هذا في علم المنطق ب" الخداع الذاتي"، وفي الفلسفة كما سماه الفيلسوف الفرنسي " جان بول سارتر" ب" خداع النفس" "self deception" و"الإيحاء الذاتي " في علم النفس ، وثمة مؤلَفْ غربي صدر حديثاً بعنوان " the secret" "السر" وهو يعبر ويتناول قضية السياق وسلطته في خضم الحديث عن سر العظمة وأسرار العظماء في التاريخ وما كان وراء عظمتهم، هذا السر كما يصفه الكتاب كان مجرد أفكار، والأفكار كالمغناطيس ، تجذب الخير وتجذب الشر، تجذب السعادة وتجذب الشقاء، تجذب الفرح والسرور وتجذب الحزن، تجذب العظمة وتجذب الخيبة، وعليه فإن تفكير الإنسان في الخير يحُدث الخير وبالمثل تفكيره في الشر يجذب الشر، ولبوذا قولٌ يختزل فيه كل هذا وهو :" حياتك من صنع أفكارك"، وكذلك :" نحن ما نفكر فيه، وكل ما فينا ينبع من أفكارنا، وبأفكارنا نصنع عالمنا "، فإذا رُمت وفكرت في شيء فكن كما قال الشاعر : " إذا ما كنت في شرفٍ مرومٍ/ فلا تقنع بما دون النجومِ" فإن فكرت في أنك عظيم أو في أنك ستصبح عظيم ورددت الفكرة على ذاتك ، فهذه عظمة بحد ذاتها ، لأنها تقتضي الكثير من الشجاعة وجرأتك في هذا التفكير هي دليل عظمتك ، حتى ولو لم يرى ذلك الآخرون، سببٌ آخر هو أن إيمانك بما تفكر فيه وبما تود أن تكونه وتردده دوماً على ذاتك يصبح بلا شعور وتلقائياً رسائل إلى العقل الباطن، تتحول من ثمّ ، بوعي وبدون وعي، إلى سيطرة مطلقة متحكمة في كل أفعالك وسلوكياتك، فتكون هذه الأخيرة تمثيلاً لما يدور بخلدك وبما تفكر فيه، وتذكر فيما يخص العظمة أن الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة، فإن أردت أن تصبح عظيماً فيجب عليك سلفاً أن تتغلب على أمتك جمعاء..، من ذلك أيضاً أن نابليون عرُف بأنه كان يقول دائماً ويردد على نفسه " فليُعطنا الله المجد وليأخذ عنّا راحة البال " ليتحقق قوله هذا من ثم ويُعطى المجد ويُسلب راحة البال فيموت كسيحاً معزولاً عن العالمين .. ومن قبيل ضرب الأمثلة على ما نحن بصدده، ومن خلال ما لمسته بنفسي ، ما قد تُفكر فيه المرأة أحياناً وعندما يتعثر حظها أو يتأخر في الاقتران وإيجاد رجلٍ يناسبها، ما يُلزمها بتعبيرٍ نفساني بالتعويض " compensation" ، أي التعويض ببدائل أخرى تشبع من خلالها " الأنيموس " التي تسكنها وهي الحس والجانب الذكوري الموجود داخل كل أنثى ويقابله " الأنيما" لدى الرجل، ويتم ذلك من خلال الدراسة أو العمل، وما إلى ذلك، وبالبدائل تستمر الحياة . إن ما لا تعلمه المرأة وتجهله أن أفكارها هي سبب تعثر حظها وتأخرهِ، وكذلك خيبة أملها في إيجاد ما يناسبها ، ببساطة لأن نموذج الرجل الذي تفكر فيه سيكون مانعاً ومعيقاً لحريتها، وحارماً لها من العمل والدراسة والتواصل مع الآخرين ، أو بصفة عامة وبتعبير أبلغ " رجل تقليدي متزمت" ، وهذا التفكير وهذه الفكرة التي ترددها بصفة دائمة على ذاتها، هي السبب في إجهاض رغبتها وإثباط عزيمتها حول إيجاد الرجل المناسب الذي لا يفكر بهذه الطريقة " رجل عصري متحضر" ، فالخوف الذي يسيطر عليها هو نتيجة طبيعية لما تفكر فيه، وعائقاً نفسياً أمام إرادتها ورغبتها، فيكون تعويضها ببدائل أخرى وإنشغالها مجرد إنشغال لمجرد الإنشغال وليس محاولةً في خلق حالة أخرى مغايرة ..!! في حين أنها لو فكرت بإيجابية أو على الأقل كانت مؤمنة بما تفكر فيه وتفعله وتنادي به وتذود عنه وتطالب به من حرية المرأة ومساواتها بالرجل، فإيمانها هذا وصدقها فإن ما سيكون في الواقع نتيجة طبيعية لما تفكر فيه، أي أنها ستجد الرجل المتحضر والعصري ، الذي يحترم المرأة ويصونها ويقدّس حقوقها، رجل يكون تحقق وجوده نتيجة طبيعية للإيمان بتلك الأفكار ومرهونٌ بمصداقيتها في ما تقوم به وتمثله برأيها أمام الآخرين... وعندما يصبح الأمر بهذه الصورة فإن وجود هذا النموذج من الرجل المتحضر سيكون نتيجة طبيعية لتلك الأفكار التي تجذبه وتوجده باعتبارها أفكاراً مغناطيسية ، وهذه برمجة لغوية عصبية ، تعبر عن السلطة المطلقة للسياق الفكري وتجسد سلطة الفكرة في الذهن وفاعليتها على الواقع ، وقد قال الفنان العالمي " بيكاسو" :" أنا لا أبحث أنا أجد " ، أي أنه يكفي الإنسان ليجد ما يريده عوضاً عن البحث عنه التفكير فيه ، وكما أسلفنا فإن الأفكار كالمغناطيس التي تجذب ما نفكر فيه وتحققه على الواقع ..وهذا التفكير وهذا الاعتقاد المطلق والصدق فيها يشبه في تفاصيله مسألة العقيدة، في عالم القناعات ، وهي عقيدة بمعنى أدق لأنك إن لم تكن مؤمناً بما تفكر فيه فإن ذلك يُبطل تحققه على الواقع ، ولأجل ذلك ليس ثمة غرابة أن نجد في مسألة العلاج والمرض مثلاً ، والمشاعر والأحاسيس كالخوف والأمن والشجاعة والجبن والقلق والطمأنينة ، وما إليه من الضديات من المشاعر ، يقول بوذا تعبيراً عن هذا :" إن الإنسان لا يصل إلى العقل الخالص والحقيقة الخالصة إلا عندما يُدرك أن كل ما في هذه الحياة مجرد وهم ."!! نعم وبالفعل الحياة وهمٌ كبير ، ولندرك ذلك نذكر قول المتنبي : " وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى / وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا " وأيضاً قول الفيلسوف العبد " إيبكتيتوس" :" ليست الأشياء في ذاتها خيراً أو شراً ، وإنما يخيف الإنسان منها هو أفكارهُ وتصوراتهُ عنها " وثمة تجربة طبية أجريت ، وتمثل فتحاً كبيراً في هذا المجال بجامعة هارفارد الأمريكية، للطبيب "هنري بيشر" على مجموعة من طلبة الطب، عددهم مائة طالب ، حيث أعطى 50 منهم كبسولات حمراء وهي عبارة عن منشط هائل " باربيتورات" وأعطى النصف الآخر منهم كبسولات زرقاء وهي عبارة عن مهدئ هائل " إمفيتامين" ثم قام بتغيير محتوى الكبسولات فصار محتوى الكبسولات الحمراء هو المهدئ والكبسولات الزرقاء صار محتواها المنشط ، وكانت النتيجة مذهلة حقاً فبعد أن تناولها الطلاب أدت نفس الاعتقاد المسبق في أذهانهم عنها وليس ما احتوته الكبسولات بعد تغيير محتواها ، بمعنى أنهم لم يُعطوا دواءً غُفلاً ليس له تأثير، بيد أن السلطة للقناعات والاعتقاد المسبق لديهم كان أقوى من المفعول الكيميائي للعقار نفسه ..!!؟ مثل ذلك وصفة " البلاسيبو" الطبية التي يصفها الطبيب لمرضى الجهل والخوف والتوهم المرضي، والبلاسيبو مجرد أقراص سكر تشبه في شكلها الحبوب الدوائية الأخرى، إلا أنها لا تحتوي على أي تركيبة دوائية خلا مذاق السكر..! وفي المجتمعات النامية ومما نلمسه فيها كمثال آخر تصوراتها عن الطب وعن الخدمة الطبية التي تُقدم لهم في بلدانهم هذه من حيث أنها رديئة ، وأن المريض بسفرهِ إلى البلدان المتقدمة سيجد العناية الأفضل ، والعلاج الفعال والخدمة الراقية والمتطورة، وهناك سيتحقق الشفاء..!! وبهذه القناعة تُبدد الأموال ويتكبد الإنسان المشقة والعناء في سبيل تسويغ سفرهِ وهناك في واقع الأمر ، أي في البلدان المتحضرة، لا يبلغ ولا يوازي حجم ما يُقدم لهم من رعاية وعناية وخدمة طبية مقارنةً بما قُدِّم لهم في بلدانهم ولا حتى ما نسبته 50% بيد أن قناعاتهم واعتقادهم وعقدة الأجنبي التي تسكنهم والأفكار التي تدور بخلدهم وتتداولها الألسن بسبب نظرية علم الاجتماع " البرهان الاجتماعي" التي تسيطر على النظرة العامة للناس حول أي شيء وعن كل شيء وما يعنيه جودةً أو رداءةً وإيجاباً وسلباً واستساغةً ورفضاً ، كما تتحكم بكل شيء وبأي شيء ونظرة الناس إليه وبشكل مذهل ..!! ولعل مما يجدر بنا الالتفات إليه بهذا السياق رسالة القديس الثائر " أرنستو تشي جيفارا" التي ظل يرددها ويحمل همها على عاتقه منذ ابتداء الدرب وحتى نهاية الرحلة ، وهي تخليص الذات من مخاوفها ومما يحدق بها ويستعمرها ومما تشعر به ..، ولمن لا يعرف فقد كان جيفارا مصاباً " بالربو" وأول ما فعله لقاء ذلك هو أن تحرر من مرضه ولكن ليس بالعقاقير ولكن ببدائل أخرى أهمها أفكاره وقناعاته، وحين نعطف على نهاية المطاف وآخر الرحلة ، وحين يُلقى القبض عليه من قبل القوات الأمريكية ، بعد أن يشي به صديقه الخائن والمقابل حفنةً من الدولارات ، يقول وقد حانت ساعة الموت ،يقول لقاتله ، والذي تجمدت أعصابه أمام هذا الرجل الذي دوخ العالم ودوّخ البلاد والعباد ، ورغم انه مكبلٌ بالأغلال والقيود ، إلا أن قاتله كان عاجزاً حتى عن ضغط زناد بندقيته ، ليقول له جيفارا مُجسداً نُبل رسالته وهمها الذي يقع على عاتقه منذ بدء المسير ، ورغم أنها لحظة موته إلا أنه كان متحرراً من أي خوف ، معبراً عن إيمانه المطلق وصدقه في كل ما نادى به وفعله ويفكر فيه ، يقول له : " أقتلني لا تخف ..... أنا مجرد رجل" فكان يريد تحرير قاتله من خوفهِ، ولو لم يكن إدراك جيفارا عندما نترجم سلوكه ، لو لم يكن إيمانه بأن الأسير لمخاوفهِ مُنوماً لما صنع صنيعهُ ولما فعل فعله ، وعلى ذلك فإن العالم كله منوماً ، وفي أمس الحاجة إلى من يوقضه ويحررهُ من مخاوفه ومعتقداته الزائفة، وسباتِه الذي يغُطُ فيهِ ، يحرره من الأوهام والأباطيل التي صاغت عقليته وحجمت بصيرته، يحررهُ مما يستعمرهُ سواءً كان بشراً أو مرضاً أو مشاعراً أو أفكاراً.. - لا ننسى كذلك الفكرة الجوهرية لفيلم "الماتريكس" " المصفوفة" والتي نادت بأنه قد تجد من يُرشدك إلى الطريق ، بيد أن المحال أن يأتي معك، في حال لم تكن مؤمناً بأنك تريد الذهاب إلى حيث الحقيقة، وتلك الحقيقة تقتضي أن تُسبل جفنيك على ما أنت مؤمنٌ به وآمنت ورغبت في أن تكونه حاضراً ومستقبلاً ، ثم لتتجاوز بإيمانك هذا كل ما قد يعترضك من معوقات وصعاب ، إلا انك ستصل في النهاية ، وبنفسك، وبأفكارك ، وبما رغبت وآمنت في أنك تريد أن تكونه ، وليس بمعية احد...!! ومثلما عبّر الشاعر روبرت جريفز : "تجمع الخبراء في صفوفٍ متراصة ليملأوا القاعة الهائلة ولكن من بين كل هؤلاء لا يوجد غير شخصٍ واحدٍ يعرف وهو الرجل الذي يُصارع الثور.....!! هايل علي المذابي أديب وكاتب وناشط حقوقي الجمهورية اليمنية- صنعاء