يذكر كثير من علماء الأصول والمقاصد أن القضايا والمبادئ الكلية التي تأتي بها الشرائع المنزلة، هي مما تدركه عقول الناس، ويشتركون في فهمه وتقبله والاتفاق عليه، حتى قبل مجيء الشرائع بها. وذلك كاتفاقهم على حسن العدل وقبح الظلم، وحسن الوفاء وقبح الخيانة، وكاتفاقهم على حسن الاعتدال وقبح الغلو، وحسن الجود والإيثار وقبح الشح والاستئثار... ومن هذا الباب، لا نجد اليوم ولا قبل اليوم اختلافا يذكر، بخصوص مجمل المبادئ التي تعد هي التعبير العملي عن الديمقراطية والنظام الديمقراطي؛ مثل : الشعب مصدر السلطة والشرعية والسيادة الحق في اختيار الناس لمن يحكمهم ومن ينوب عنهم في تدبير شؤونهم العامة التداول السلمي على السلطة بواسطة الانتخابات حق تأسيس الأحزاب وغيرها من المنظمات، للتعبير الجماعي والعمل الجماعي الحق في حرية الصحافة وحرية التعبير الحق في مراقبة الحكام والمنتخبين ومحاسبتهم الفصل بين السلط وصلاحياتها، وخاصة استقلالَ السلطتين التشريعية والقضائية عن السلطة الأقوى، التي هي السلطة التنفيذية... كل هذه الحقوق والقواعد الدستورية، هي مبادئ ومُثُل جميلة متحضرة، لا ينازع فيها أحد، ولا يتردد أحد في قبولها والمطالبة بها. ولكن ما يقع الاختلاف في إدراكه، ويحتاج إلى الشرائع لحسمه، ويحتاج إلى العلماء المجتهدين، والخبراء المتخصصين، لإدراك وجه صوابه وحكمته، ومدى مطابقته للحكم الكلي، هو التفاصيل الجزئية والصور التطبيقية. واليوم يردد السياسيون المثل القائل : الشيطان يسكن في التفاصيل.انا أضيف : الشيطان يسكن في التطبيق أيضا. فكلنا مسلمون، آمين، ولكن الشيطان يأتي هناك، في التفصيل والتطبيق. وكلنا معتدلون ومنفتحون، آمين، ولكن المشكلة آتية في التفاصيل والتطبيقات. وكلنا نريد ونحب قيم الحوار والتسامح والتساكن وحسن الجوار... لكن..؟؟؟ وكلنا مع السلام والحلول السلمية، وبعد...؟؟ وكلنا ديمقراطيون، ولكن لندخل في التفصيلات والتطبيقات، وسنرى العجب. بل قد نتفق أو نتوافق حتى في التفاصيل القانونية للعملية الديمقراطية، ولكن يبقى الشيطان والشيطنة في التطبيق والتنفيذ. فالديمقراطية اليوم من حيث هي مبادئ وقواعد ونظم تحظى بقبول وتَوافق واسعين في العالم كله، وفي عموم العالم الإسلامي أيضا، وبصفة خاصة لدى عامة العلماء والحركات الإسلامية. فكل الحركات الإسلامية ذات الاهتمام السياسي، هي إما مشاركة في النظم والعمليات الديمقراطية، وإما ساعية لذلك في انتظار أن يفتح لها الباب أو النافذة. وكلها على تفاوت تمارس الديمقراطية في نظامها الداخلي. ولم يبق لأحد ما يزايد به عليها في هذا الباب. وحتى القلائلُ من الإسلاميين، الرافضون للديمقراطية أو المتحفظون منها، نجد كثيرا من حججهم، إنما تتعلق بالتطبيق والممارسة الفعلية، لا بالفكرة والمبدأ. فهم يرون كما يرى الناس جميعا أن الديمقراطية المعمول بها في العالم العربي والإسلامي، هي شعار جديد وأسلوب أثير، لشرعنة الاستبداد والإقصاء والفساد.ففي العراق حكومة منتخبة ديمقراطيا، أليس كذلك ! وفي أفغانستان حكومة منتخبة، ديمقراطيا أيضا ! وفي أطراف فلسطين هناك حكومة منتخبة، ولكنها مطاح بها ديمقراطيا! وبجانبها حكومة أخرى أكثر ديمقراطية، ما دام العالم الديمقراطي"الحقيقي"، يعترف بها ويدعمها! وفي تونس والجزائر ومصر وباكستان وسوريا والسودان واليمن، يوجد رؤساء دول منتخبون ديمقراطيا مدى الحياة !!، فيا موتُ زُرْ... (وتمام البيت الشعري : فيا موت زر إن الحياة ذميمة ** ويا نفس جدي إن دهرك هازلُ، وهو للشاعر أبي العلاء المعري). ما أردت أن أقوله بهذه الإشارات : هو أن الإشكالات والتحديات والإساءات التطبيقية التي تواجه الديمقراطية والفكر الديمقراطي، هي أكبر بكثير وأخطر بكثير، من الاعتراضات والتحفظات النظرية، التي قد تكون عند بعض الإسلاميين أو غيرهم، من قبيل الآتي ذكره. قضية الشورى والديمقراطية بعض علماء الإسلام ودعاته، وبعض الجماعات الإسلامية، يرفضون فكرة الديمقراطية، لسبب بسيط، وهو أن المسلمين عندهم ما يغني عنها، وهو الشورى. ومادامت الشورى من الإسلام ومن شريعة الإسلام، فهي بدون شك أفضل وأكمل. فالذين يتركون نظام الشورى ويأخذون بالنظام الديمقراطي، يصدق فيهم ما جاء في القرآن الكريم (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة/61] والجواب على هذا، هو أن الشورى في الإسلام أساس وركن ونهج، وليست نظاما.فهي كما قال القاضي ابن عطية الأندلسي :"والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام" (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 2 / 35)، فهي من القواعد العامة والأحكام الأساسية. ولكن شأن نظامها أو تنظيمها، متروك للاجتهاد والتجربة، والتكيف مع الأحوال والتطورات. ومن التطورات، أننا نجد أمامنا اليوم هذه الثروة من التجارب والنظم الديمقراطية. فلنا أن نأخذ بها، أو نأخذ منها. وهنا أذكر بما بينته في حلقات سابقة، من ضرورة التمييز بين أحكام العبادات وأحكام المعاملات، ومن كون الإسلام وضع الأسس والمبادئ العامة للنظام السياسي، ولكنه لم يضع لنا نظاما سياسيا محددا، فهذه من تلك. منذ بضع سنوات، ألقيت محاضرة في هذا الموضوع، وأوضحت أن المضامين الديمقراطية مقبولة ومعتبرة إسلاميا ولا إشكال فيها... وفي النهاية جاءني أحد الإخوة السلفيين، وقال لي : لقد اقتنعت الآن..، ولكن بقي عندي شيء واحد، هو: لماذا تصر على استعمال مصطلح الديمقراطية ؟ أليس اسم الشورى كافيا وأفضل؟ فقلت له : الآن هان الأمر، فالمهم هو أن نعرف المسمى ومضمونه ومقصوده، ونتفق عليه، وأما الاسم فمسألة هينة. وقلت له: إن القرآن الكريم عبر عن العدل بكلمة "القسط والقسطاس"، وهي كلمة رومية، كما في صحيح البخاري... الديمقراطية بين الوثنية والعلمانية يعترض مفكرون إسلاميون آخرون على الديمقراطية، بكونها ولدت في أحضان ثقافة وثنية يونانية، ثم ترعرعت وازدهرت في بيئة علمانية أوروبية، فهي قد جمعت بين وثنية الأقدمين وعلمانية المحدثين. ولذلك فالديمقراطية ثقافة وفلسفة حياة، وليست مجرد نظام سياسي. والحقيقة أن هذا الاعتراض يحمل جوابه في نفسه. فإذا كانت الديمقراطية وثنية، فكيف قبلت أن تصبح علمانية؟ وإذا كانت بطبيعتها علمانية فكيف يصح وصفها بالوثنية؟ وإذا كانت قد قبلت التغير من وثنية قديمة إلى علمانية حديثة، فلمَ لا تكون قابلة للتغير إلى شيء آخر والتكيف مع ثقافة أخرى ؟ والحقيقة الأخرى، هي أن هذا الإشكال كله ومن أصله، هو مجرد فضول وتكلف؛ لأن الديمقراطية التي نتحدث عنها اليوم ونتعامل معها، هي شيء معيش ومشاهد، فهي ليست شيئا في أعماق التاريخ، أو في بطون كتب الفلسفة. وما هو معيش ومشاهد، هو نظم وأنماط ديمقراطية، تنْبُتُ وتتلاءم وتتعايش، في مجتمعات وثقافات وديانات مختلفة متعددة. ولم تفرض على الناس دينا، ولا رفضت لهم دينا. فلماذا الرجوع والاحتكام إلى نسبها وأصلها وفصلها؟ أليس هذا مجرد فضول ليس تحته عمل؟ الكلمة العليا للشريعة أم للديمقراطيةيقول بعض السلفيين : الديمقراطية تعطي السيادة والكلمة العليا للشعب وللناخبين، فتجعل كلمة البشر فوق كلمة الله. وتجعل تشريعاتهم فوق شريعة الله. فالديمقراطية تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله، وتلغي ما فرض الله. وهذا كله مرفوض، ويزيد بعضهم : بل هو كفر. فلذلك لا يمكن قبول الديمقراطية بحال ويقول بعض العلمانيين : الإسلاميون يحتكمون إلى الشريعة، ويعطونها الكلمة العليا. وما حكمت فيه الشريعة، فلا نقاش فيه ولا ديمقراطية فيه عندهم، وهذا نقض للديمقراطية، بل هو كفر بها. ولهذا لا يمكن للإسلاميين أن يكونوا ديمقراطيين حقيقيين، فلا ينبغي قبولهم في رحاب الديمقراطية بحال، لأنهم خطر على الديمقراطية والذي أراه أن هذه الإشكالية "العويصة"، ميسور حلها والجواب عليها : إسلاميا وديمقراطيا. فأما إسلاميا، فهذا لا يتصور إلا في حالة افتراض استفتاء شعبي عام في بلد إسلامي، ويتعلق بشيء صريح في الدين، ليقبله الناس أو يرفضوه، فيسفر الاستفتاء عن رفض الحكم الشرعي وتبني ما يخالفه. وهذا ما لن يقع في يوم من الأيام، لا من حيث إجراء مثل هذا الاستفتاء، ولا من حيث نتيجته المذكورة. أما حين يرفض الناس حزبا إسلاميا، أو مرشحين إسلاميين، لسوء أدائهم، أو لضعف أهليتهم، أو حين لا يقبلون اجتهاداتهم الفقهية، أو برامجهم الاجتماعية، أو مواقفهم السياسية، فإن هذا لا يكون أبدا رفضا للإسلام أو لشيء منه. فالإسلام وشريعته شيء، والمسلمون واجتهاداتهم وتصرفاتهم شيء آخر. وأما ديمقراطيا، فإن من بدهيات الديمقراطية القبول بما تختاره الشعوب وتتمسك به. والديمقراطي الحق حتى لو فرضناه ليس مسلما هو من يحترم اختيار شعبه وجمهوره. ولا أحد يجادل في تمسك جميع المسلمين، وليس أغلبيتهم، بالأحكام الثابتة الصريحة في دينهم. فهذا خيار ديمقراطي محسوم ومعلوم ولا غبار عليه. فعلى جميع الديمقراطيين احترامه والعمل بمقتضاه. فحتى لو قيل : حكم الديمقراطية فوق حكم الدين، فهذا يمكن أن يُتصور إذا تعلق الأمر بدين تدين به الأقلية، أما ما تؤمن به وتتمسك به الأغلبية الساحقة من الشعب، أو الشعب كله، فإن الالتزام به هو عين الديمقراطية. ولهذه النقطة الأخيرة علاقة بقضية الأغلبية في الإسلام والفكر الإسلامي. ولذلك أخصص لها الحلقة المقبلة بعون الله تعالى.** المصدر: موقع الريسوني