في كتيبه المعنون ب "رفع الأساطين في حكمة الاتصال بالسلاطين "يبلور الفقيه الشوكاني (1250-) تصورا مناقضا تماما لما يذهب إليه السيوطي ومن ينحو نحوه، بل إن تأليفه يمكن اعتباره من أهم الردود على مواقف المتطرفين الرافضين للعمل مع السلطان. ينطلق الشوكاني من واقعة بسيطة هي أن الأنبياء والرسل وكل بني آدم سعوا من أجل تحصيل الرزق، وبشتى الطرق، فكيف نحرم هذا على العلماء وهم ذوي "بضاعة خاصة" ؟ ثم إن هذا المتصل بالسلاطين، يضيف الشوكاني »لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم وجورهم، بل ليقضي بين الناس. بحكم الله، أو يقبض من الرعايا ما أوجبه الله، أو يجاهد من يحق جهاده، ويعادي من تحق عداوته، فإن كان الأمر هكذا، فلو كان الملك قد بلغ من الظلم إلى أعلى درجاته، لم يكن على هؤلاء من ظلمه شيء...» ألا يتعلق الأمر هنا بتبرير «ايديولوجي» للعمل مع السلطان، أم أنه لا يعدو أن يكون موقفا "دينيا" يسعى للحفاظ على الإسلام وشرائعه؟ ينتقد الشوكاني ظلم الحكام بلا هوادة ويعطي لشرعية "خدمة السلطان" معنى مزدوجا إذ يقول : "ولا يخفى على ذي عقل أنه لو امتنع أهل العلم والفضل والدين عن مداخلة الملوك لتعطلت الشريعة المطهرة لعدم وجود من يقوم بها "ثم يضيف أن من شأن إقحام العالم " نفسه في العمل مع السلطان أن يفوت الفرصة على الملوك للتخلص من واجباتهم" خصوصا وأنهم كما يقول الشوكاني " لا يفعلون ذلك إلا مخافة على ملكهم أن يسلب وعلى دولتهم أن تذهب"، وحتى لا يتذرعون قائلين" جهلنا ولم نجد من يعلمنا". كل المشكل في نظر الشوكاني سببه صنفان من الناس: «الصنف الأول، جماعة زهدوا بغير علم وعبدوا بغير فهم ...» و«الصنف الثاني، جماعة لهم شغلة بالعلم وأهلية له، وأرادوا أن يكون لهم من المناصب التي قد صارت بيد غيرهم ما ينتفعون به في دنياهم، فأعوزهم ذلك، وعجزوا عنه، فأظهروا الرغبة عنه وأنهم تركوه اختيارا أو رغبة وتنزها عنه (...) وقد عرفنا من هذا الجنس جماعات، وانتهت أحوالهم إلى بليات، وعرفنا منهم من ظفر، بعد استكثاره من هذه البليات، بمنصب من المناصب، فكان أشر أهل ذلك المنصب (...) بل عرفنا منهم من صار نماما.. . إن الجماعة الأولى تدعو إلى الرثاء لضعف فهمها وسذاجتها، والجماعة الثانية تتطلب الحذر منها لنفاقها وريائها. وما عدا ذلك، يبقى الاتصال بالسلاطين مشروعا، بل وواجبا إن كان قصده "الاستعانة بقوتهم على إنفاذ حكم الله عز وجل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الحال وما تبلغ إليه الطاقة». يبدو أن الموقف الداعي للعمل مع السلطان أو على الأقل المبرر له، كان هو السائد طيلة التاريخ السياسي الإسلامي. فهذا الشريف المرتضى (436-) وهو من علماء الشيعة الإمامية، الذين تولوا مناصب رسمية داخل الدولة ينص في رسالته " مسألة العمل مع السلطان" على أن الولاية من قبل السلطان "المبطل الظالم المتغلب" تكون على ضروب" واجب، وربما تجاوز الوجوب إلى الإلجاء، ومباح، وقبيح ومحظور". ويذهب إلى حد تبرير القول بأن "كفارة العمل مع السلطان قضاء حوائج الإخوان "وأن من شأن قضاء هذه الحاجات أن يخرج "الولاية" من القبح إلى الحسن، وتسقط اللوم عن صاحبها. وعموما، يمكن القول أن تصور الشوكاني، ومن نحا نحوه، يجسد الموقف السائد طيلة التاريخ الإسلامي. غير أن المسألة لم تحسم بهذه البساطة، فالعمل مع السلطان شيء فريد من نوعه ومغامرة محفوفة بالمخاطر تفترض شروط السلامة وتتطلب سلوكا وقائيا، و هذا موضوع الحلقة المقبلة.