الذي أميل إليه ونحن نتحدث عن تربية ملكة الاجتهاد، استحضار المعنى الواسع للاجتهاد، الذي قال فيه الشاطبي بأنه لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف والذي لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه(1). فتدخل جميع أنواع الاجتهاد:فهما وتطبيقا وصياغة وتلفيقا أو تحقيقا وترجيحا واستثناء واستحداثا في حركية متصاعدة مترابطة..فيكون هدف العملية التربوية في الجانب الشرعي تكوين قاعدة لما أطلقت عليه (الهرم الاجتهادي) الذي أساسه جمهور من المتعلمين يحسنون الفهم والسؤال والتطبيق والامتثال وحسن الاختيار بحيث يكون لكل واحد منهم علم خاص بقدر ما يمكنه من تمييز ما هو معروض في سوق العلم(2)، ويساهم في إفراز قيادته الفكرية والاجتهادية في مستوياتها المختلفة، ويكون ذلك الهرم بيئة يتنفس فيها الاجتهاد وينمو ويتطور ..بل ويمكن أن يصل إلى درجة الحكم والتمييز بين المجتهدين أيهم أعلم وأقوم ..حين تسود فيه معايير في درجات العلم الأتم، ودرجات السيرة الأقوم، فيقوم هذا الجمهور قادته المجتهدين فيمنح ثقة مناسبة لمن وجد عنده علما مناسبا ومن رأوا عنده علما كثيرا وصدقا في الالتزام، أولوه ثقة كبيرة واتخذوه إماما مقدم الرأي. ومن لاحظوا زهادة علمه أو قلة أخلاقه سمعوا قوله واستخفوه أو أهملوه(3). ومن حسن تدبير الله تعالى لأمر هذه الأمة أن جعل أئمتها المعتبرين، من إفراز القاعدة المؤمنة، وليس من تعيين السلطة الزمنية وفرض الحكام المستبدين. وليس في ديننا طبقة كهنوتية تتوارث الأسرار المحرمة على الجمهور، ولا كنيسة أو سلطة رسمية تحتكر الفتوى أو تعتبر صاحبة الرأي الفصل، فالأمة التي لا تجتمع على ضلالة هي المستخلفة صاحبة السلطان تضفي الحجة الملزمة على ما تختاره من الآراء المتاحة، ولكل فرد فيها أن يشارك في تطوير رأي الجماعة بنصيبه من العلم(4)، وفوق كل ذي علم عليم، حيث تترقى درجات الناس بما يبذلون من وسع في تسلق هرم الاجتهاد، وتتوالى طبقات المفكرين والمجتهدين الذين ينبغي أن يعمر بهم المجتمع المسلم، ويفتح الله على من يكون حجة أهل زمانه. وأرقى ما يكون الطموح إليه في المستويات الدنيا من الاجتهاد، هو وصول جمهور المتعلمين للعلوم الشرعية إلى مستوى يقارب عموم الصحابة، وذلك الجيل القرآني الفريد، الذين أحسنوا الفهم عن الله وأحسنوا العمل، فقد كانوا يسألون أهل العلم منهم عن حكم ما يعرض لهم مما يحتاجون اليه في معاشهم ومعادهم، فيروون لهم ما جاء عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعملون بروايتهم لا برأيهم من دون تقليد ولا التزام رأي، كما يعرف ذلك من يعرفه(5)، لهم صلاح لسان واستقامة في الأفهام وعلى بينة مما يحتاجون اليه. ونخلص إلى أن المقصود بالمستويات تربية ملكة الاجتهاد، من جهة أولى: التدرج مع أنواع الاجتهاد الممكنة، من مستوياتها الدنيا إلى مستوياتها العليا مع الاجتهاد المطلق. ومن جهة ثانية: التدرج داخل النوع الواحد عبر ملكات جزئية مثل: ملكة الفهم والسؤال والتحليل والمقارنة وغيرها .فما هي إذن شروط نجاح تربية ملكة الاجتهاد في مستوياتها المختلفة؟ وما هي أهم العوامل الذاتية والموضوعية للنجاح في ذلك؟ هوامش 1. الشاطبي الموافقات ج,4ص:46 .67 2. الترابي:تجديد أصول الفقه الإسلاميص:.33 3. الترابي:تجديد أصول الفقه الإسلاميص:.13 4. الترابي:تجديد أصول الفقه الإسلاميص:23.33 5. الشوكاني أدب الطالبص:931نقلا عن محمد علي الشوكاني وجهوده التربوية، صالح محمد صغير مقبل ص:.802