اشتهر تعريف الفقه الإسلامي بأنه «العلم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسب من أدلتها التفصيلية» ومعنى هذا أن الفقيه يبحث في الأدلة الشرعية وينظر فيها، ويستخرج منها ما دلت عليه من أحكام تتعلق بأفعال العباد وتصرفاتهم. والفقه بهذا المعنى يقع على ثلاثة مستويات: شرح النصوص الشرعية وتقرير الأحكام الفقهية التي تضمنتها ودلت عليها، وبيان ذلك للناس، على نحو ما يفعله المفسرون وشراح السنة النبوية والفقهاء في مؤلفاتهم. إفتاء الناس ببيان الحكم الشرعي في نوازلهم وأحوالهم واستفتاءاتهم المعينة؛ أي نقلُ الحكم الشرعي المقرر على نحو عام ومجرد، وتنزيلُ مقتضاه على الحالات المعينة أو الموصوفة. الاجتهاد فيما لم يسبق له حكم مقرر معلوم، فيجتهد الفقيهُ البالغُ رتبةَ الاجتهاد في استنباط الحكم وتقديره للوقائع والمشاكل والحالات المستجدة، سواء كانت جِدَّتها كليةً أو جزئية. وأعني بالجدة الكلية الحالات والوقائع والإشكالات غير المسبوقة، وأما الجدة الجزئية فأعني بها الأحوال والأفعال المعروفةَ، والمعروفَ حكمُها من قبل، لكنْ دخلت عليها أو أحاطت بها عناصر جديدة غيرت حالتها وأثرت في حكمها. فهذه هي الدوائر الثلاث التي يتحرك فيها فقه الفقهاء واجتهاد المجتهدين. وفي كل هذه الأحوال، فإن العالم الفقيه بمثابة الطبيب الذي ينظر في حالة المريض وحاجته، ثم ينظر فيما بين يديه وما هو متاح له من أدوية وعلاجات، ويتصرف بناء على ذلك بما يحقق المقصود، وهو الشفاء والعافية. بَيْدَ أن التطبيب الشرعي لا يقف عند معالجة المرضى بعد مرضهم وظهور آلامهم، بل هو قبل ذلك يعالج الأصحاء أنفسهم، حتى يزدادوا صحة ومناعة وبُعداً عن الأمراض. وهذه بالضبط هي الوظيفة التي يقوم بها ويشرف عليها علماء الشريعة. فرسالة علماء الشرع هي أن يكونوا أطباءَ صيانةٍ ووقاية ، وحُراسَ حصانةٍ وحماية، وأن يكونوا مستكشفين مشخصين للأعراض والأمراض، عاكفين على معالجتها ورفع آلامها ودفع تداعياتها. وإذا كان «العلماء ورثة الأنبياء» كما في الحديث الشريف، فمعناه أنهم خلفاء الأنبياء فيما بُعثوا به وما بعثوا لأجله. قال العلامة عبد الرؤوف المناوي: «(العلماء ورثة الأنبياء)؛ لأن الميراث ينتقل إلى الأقرب. وأقرب الأمة في نسبة الدين العلماء الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على الآخرة، وكانوا للأمة بدلا من الأنبياء الذين فازوا بالحسنيين العلم والعمل، وحازوا الفضيلتين الكمال والتكميل» (فيض القدير شرح الجامع الصغير - 4 / 384) وقد بين الله تعالى المقاصد والغايات التي لأجلها بَعث الأنبياء، ويرثها عنهم العلماء. من ذلك قوله عز وجل: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» [الحديد/25] وقوله سبحانه عن مهمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم: «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ» [الأعراف/157] وقوله: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» [الأنبياء/107] فشأنُ العلماء أنهم وارثون لكل هذه الصفات والمسؤوليات. يقيمون القسط ويحكمون به ويعملون على تطبيقه وتحقيقه. يأمرون بالمعروف وينشرونه وينصرونه، وينهون عن المنكر ويمنعونه أو يعارضونه. يُحِلون للناس طيبات الأرزاق والأفعال، ويحذرونهم خبائثها ومفاسدها. يرفعون عن الناس الآصار والأغلال التي تكبل عقولهم وتضني حياتهم. قال الإمام الشوكاني رحمه الله: «فالعالم المرتاض بما جاءنا عن الشرع .. إذا أخذ نفسه في تعليم العباد وإرشادهم إلى الحق وجذبهم عن الباطل ودفعِهم عن البدع، والأخْذِ بحُجَزهم عن كل مزلقة من المزالق ومَدحضة من المداحض، بالأخلاق النبوية والشمائل المصطفوية .. فيَسَّر ولم يُعَسر، وبشر ولم ينفر، وأرشد إلى ائتلاف القلوب واجتماعها، ونهى عن التفرق والاختلاف، وجعل غاية همه وأقصى رغبته جلبَ المصالح الدينية للعباد ودفعَ المفاسد عنهم، كان أنفعَ دعاة المسلمين، وأنجعَ الحاملين لحجج رب العالمين ...» (أدب الطلب ومنتهى الأرب، ص135) وهذا هو منهج القرآن وهديُ نبيِّ القرآن. فالله تعالى أنزل شرائعه وحدد تكاليفه، ورتب على كل ذلك وعدا ووعيدا، ومساءلة وحسابا، وثوابا وعقابا. وقال سبحانه: «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [البقرة/284]. وقال محذرا: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ» [الطارق/11-14] ولكنه مع ذلك التفت سبحانه بعين الرحمة والشفقة إلى طوائف من الناس أوشكوا أن يضيعوا ويهلكوا، فرفع عنهم بأسهم ويأسهم، وفتح أمامهم أملا عريضا يسعهم ويسع ضعفهم وتقصيرهم وما سلف منهم، فقال جل وعلا: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» [الزمر/53] ومن عجائب رحمة الله ولطفه بعباده، قوله سبحانه في الحديث القدسي: «ما ترددتُ في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مَساءته، ولا بد له من الموت». والتعبير بالتردد هنا إنما هو كناية عن الرحمة البالغة والشفقة السابغة وكراهيته تعالى لكل ما يسوء عبده المؤمن ويؤذيه. ما أريد أن أخلص إليه هو أن العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، يجب أن يكونوا مستحضرين لهذه المعاني وأمثالها، متلبسين بها في فقههم واجتهادهم، آخذين بها في فتاواهم وتوجيهاتهم للناس. هذا هو الواجب والمأمول. ولكن الواقع أننا نجد دائما بعض المحسوبين على العلم والفقه والإفتاء في الدين، بدل أن يقدموا للناس الحلول والمخارج والبدائل لمشاكلهم ومعاناتهم، يصبحون هم صناع المشاكل والمتاعب والآصار والأغلال. يفعلون ذلك بسوء فهمهم لأدلة الشريعة وأحكامها. وقد جرَّ هؤلاء على الناس»مشكلاتٍ كثيرةً لم تزل تُعْنِت الخلق وتُشْجي الحلق»، كما قال العلامة ابن عاشور. (مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 92) وأسوق لذلك مثالا بالغ الدلالة، مما ذكر في السنة النبوية الشريفة. ففي صحيح مسلم: «عن أبى سعيد الخدري أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم- قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ فقال لا. فقتله فكمل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على رجل عالم، فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نَصَف الطريقَ أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملَكٌ فى صورة آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة». فهذا الرجل بعد أن سئم حياة القتل والإجرام، وتاقت نفسه لحياة جديدة نقية، قام يسأل عن أعلم علماء زمانه، لعله يعطيه لحالته حلا ومخرجا. فإذا به يصل إلى شخصين، كل منهما يُنعت بأنه أعلم أهل زمانه... وهما في الحقيقة نموذجان لصنفين من الفقهاء: صنف يجلبون المشاكل بفقههم وفتاويهم، أو يزيدون الناس مشاكل إلى مشاكلهم، وصنف آخر يحلون المشاكل بفقههم وفتاويهم ويفرجون على الناس. فالعالمُ الأول أفتى السائلَ بأن لا توبة له، بمعنى أن مشكلته ليس لها في الدين حل ولا مخرج!. وعلى هذا الأساس قتله هو أيضا وأكمل به المائة من قتلاه، فكانت هذه إحدى النتائج الطبيعية لمثل تلك الفتوى. وقد كان يمكن أن يقتل آخرين أيضا... - والعالِم الثاني فتح له باب التوبة والفرج، ووصف له العلاج والمخرج، وأعطاه أكثر مما طلب، ووضح له أن البيئة التي جعلت منه مجرما لا يمكن أن تساعده على توبته وحياته الجديدة: فقال له: «انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء» وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إجابة السائلين أن يتجاوز ما سألوا عنه إلى غيره من التوضيحات والإرشادات المفيدة لهم في مسألتهم، ولو لم يسألوا عنها. من ذلك ما في صحيح البخارى: (باب من أجاب السائلَ بأكثر مما سأله)، وفيه حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله: ما يلبس المحْرِمُ؟ فقال: «لا يلبس القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس، ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران ، فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين» فالسائل سأل عما يلبسه المحرم في الحج أو العمرة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم زاده على ذلك، ووضح له ما يلبسه وما لا يلبسه، وفي حال لم يجد كذا أن يفعل كذا بطريقة كذا... قال الفقيه المالكي المُهَلَّب بن أبي صفرة: «وإنما زاده لِعِلمه بمشقة السفر وقلة وجود ما يحتاج إليه من الثياب فيه، ولِما يلحق الناسَ من الحفي بالمشي، رحمة لهم وتنبيها على منافعهم، وكذلك يجب على العالم أن ينبه الناس في المسائل على ما ينتفعون به، ويتسعون فيه، ما لم يكن ذريعة إلى ترخيص شيء من حدود الله» – (شرح ابن بطال لصحيح البخاري - ج 1 / ص 227)