دشنت مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد بتعاون مع مؤسسة فريدريش إبيغت الموسم السياسي 2010/2011 بتنظيم دائرة مستديرة حول موضوع بالغ الأهمية تحت عنوان «مشروع الجهوية: من المبادئ إلى التنفيذ» وذلك يوم الجمعة 24 شتنبر 2010 بالمعهد الوطني للتهيئة والتعمير بالرباط. أهمية هذا الموضوع تتجلى في آنيته، وفي الآمال المتعلقة به لتقوية صرح الدولة المغربية العصرية الديمقراطية الحداثية. وقد شارك في هذه المبادرة الفكرية الأكاديمية كل من عبد العزيز عديدي (مدير المعهد)، ودانيال بهار (باحث بالمعهد الفرنسي للتعمير)، وعلي بوعبيد (المندوب العام لمؤسسة عبد الرحيم بوعبيد)، ومحمد بوخفة (أستاذ بالمعهد)، وكريستينو بدرازا (من فريق متابعة التفعيل الميداني لبرامج التعاون الدولي بالمغرب). كما عرف اللقاء تعقيبات قيمة لأساتذة بارزين بالمعهد الوطني للتهيئة والتعمير وبعض الأساتذة الجامعيين وعلى رأسهم لحزام وعبد الهادي رونق. نظرا للقيمة الفكرية للمتدخلين وتجربتهم الطويلة في مجالي التعمير وإعداد التراب الوطني، عبر هذا الحدث على مستوى فكري عالي بحمولة تحليلية ونقدية غنية. فإضافة إلى القيمة الفكرية للمداخلات المدعومة بالتجارب الميدانية وما تمخض عنها من تساؤلات تمس عمق وجوهر مشروع الجهوية الموسعة، مكن المجهود المنهجي، الذي تم اعتماده خلال هذا اللقاء، من إغناء النقاش، وبالتالي من فتح مسالك جديدة للبحث والتأمل. وعليه، فبعدما أعطيت الكلمة للأستاذ بوخفة لتقديم مدخل عام على شكل مقدمة محددة للمبادئ والمرجعيات، والإمكانيات، والفرص المتاحة في سياق هذا المشروع الطموح، وقبل إعطاء الكلمة للأكاديمي الفرنسي دنيال بهار للتحدث عن التجربة الفرنسية وتحليلها، وفتح المجال لباقي المتدخلين للتحدث عن التجربة المغربية بآفاقها الواعدة المحتملة اعتبارا لما يحمله هذا المشروع من بوادر ومؤشرات تجسد إرادة حقيقية لإعادة هيكلة منطق توزيع السلط الترابية، تدخل علي بوعبيد لإعطاء صورة واضحة للواقع المغربي في مجالي اللامركزية واللاتمركز، وعن منطق الفعل العمومي، ولطرح إشكالية الأولويات باستحضار التجارب الدولية التي سبقتنا إلى مثل هذا الورش، خاصة التجربة الفرنسية، وكذا الوقوف على بعض التقابلات المتناقضة التي تميز السياسة الترابية وتدبير الشأن العام. وفضل في هذا السياق تحويل مداخلته التوجيهية إلى تساؤلات لإتاحة الفرصة للمتدخلين والحضور الوازن من تعميق التحليل وإغناء النقاش. وشملت تساؤلاته كل الجوانب المرتبطة بهذا المشروع، والتي حاولنا تلخيصها كالتالي:* كيف ما كانت الدوافع، هل مشروع الجهوية الموسعة بالطموحات المعبر عنها، بإمكانه خلق التحول في المجتمع المغربي وانبثاق نموذج مجتمع مغربي بديمقراطية حداثية حقيقية؟* في السياق السياسي المغربي، هل مشروع الجهوية الموسعة بإمكانه أن يفتح الباب لنقاش عمومي يعيد طرح إشكالية توضيح العلاقات السلطوية بين المركزي والمحلي؟ * هل هذا المشروع سيمكن من تجاوز المعيقات السياسية المعروفة، ومن تقوية الثقة السياسية، ومن تجاوز تقابلات المعطيات المتناقضة، خاصة تناقض الإحصائيات الترابية الصادرة من مختلف المؤسسات الحكومية (المندوبية السامية للتخطيط، وزارة المالية، المديرية العامة للجماعات المحلية،....)؟ * باستحضار ضعف نجاعة الفعل العمومي بشكل عام، ما هي الأسبقية بالنسبة للتجربة السياسية المغربية، هل البدء من نقل الاختصاصات للمنتخبين في إطار اللامركزية الجهوية أم وجب إعطاء الأولوية لتقوية اللاتمركز (تقوية التواجد الترابي للدولة)؟ * باستحضار دروس التجربة الفرنسية التي أولت اهتماما بالغا وأسبقية كبيرة لتثبيت سلط الدولة الترابية (اللاتمركز) قبل فتح ورش اللامركزية الجماعية، هل يمكن للتجربة المغربية بخصائصها قيادة التحول بنجاعة بفتح ورشي اللامركزية وعدم التمركز بشكل متوازي؟ * هل سيمكن مشروع الجهوية الموسعة المفتوح للنقاش من خلق منطق جديد تتناغم من خلاله مختلف المجهودات الإصلاحية الضرورية والتي على رأسها تقوية المنظومات الترابية، وتوزيع الاختصاصات السياسية والموارد والوسائل التفعيلية ومقومات السلطة المحلية، والتقدم في الإصلاحات المؤسساتية وإصلاح الدولة، والرفع من مستوى الحكامة الترابية، وتحقيق التضامن والتكامل الجهويين، وخلق إطارات جديدة لتقوية الفعل العمومي؟ * هل ستشكل «خريطة الطريق» التي ستنبثق عن أشغال اللجنة الملكية للجهوية إجابة شاملة بامكانها تأطير الجدل بشأن تحديد الأولويات الإستراتيجية وترتيبها، وتحديد الرافعات ذات الأولوية في السياق السياسي والمؤسساتي المغربي؟ * هل سيمكن هذا الورش من المساهمة في ارتقاء التمثلات السياسية، وانبثاق أشكال سلط جديدة منظمة وبعلاقات مؤسساتية أفقية وعمودية واضحة تجعل السياسة، كآلية لتقوية ترابط السلط بالمجال، في خدمة التنمية الترابية؟ وبعد طرح هذه التساؤلات، ذكر بوعبيد ببعض الحقائق التي تعبر بجلاء عن وجود خلل وركود سياسيين في الدولة المغربية وعلى رأسها ضعف مسؤولية الفاعلين، وضعف مسلسل عدم التمركز، وعدم وجود ارتباط وثيق لسلطة الدولة بالمجالات الترابية بالرغم من الإعلان على تقويته رسميا منذ 2006 . وأضاف أن نجاح المغرب في مجال اللامركزية مرتبط أشد الارتباط بضمان توزيع ترابي ناجع لسلطة الدولة. إنه شرط أولي وضروري لتقوية معرفة الدولة بالجهات اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وبشريا ، ولخلق التراكم الفكري والميداني بشكل مستمر في مجال الجهوية، وتضامن الجهات. كما يعتبر كذلك رهانا للتقدم في تجهيز التراب الوطني بنجاعة وبوتيرة أسرع، وفي نفس الوقت تدعيم الترابية وتقوية مصادر الشرعنة السياسية المجتمعية للنخب، وتجاوز المنطق السابق المبني على دعم الوساطات التمثيلية المرغوب فيها، وما عرفه المشهد السياسي من حياد سلبي في السنوات الأخيرة.وبخصوص المقدمة التي ألقاها الأستاذ بوخفة بشأن تحديد المبادئ والمرجعيات، فقد اعتبر هذا المشروع ورشا كبيرا شديد التعقيد ومبادرة من الدولة (من الفوق). وبذلك فهو ليس إصلاحا إداريا أو مؤسساتيا بسيطا. وباستحضار أهم ما جاء في الخطاب الملكي في موضوع المبادئ والمرجعيات، ذكر بالكلمات القوية فيه والتي تجسد الإرادة السياسية للملكية لتحقيق إصلاح هيكلي وشمولي عميق للدولة المغربية. ولتحقيق الحكامة والتنمية الترابية كهدف أسمى للسياسات المختلفة للدولة، يرى بوخفة ضرورة فتح نقاش مستمر حول تطوير آليات التجريب (Expérimentation)، والقيام بعمليات تقييم مستمرة لتعديل الإعوجاجات وتغيير سلم الأولويات إذا اقتضى الحال ذلك.ولتجاوز المعيقات المعروفة والمتعلقة بعدم التوازن الترابي، وغموض الاختصاصات والمهامات، وعدم وضوح مجالات التدخل المشتركة، وإشكالية التكامل وثقل الوصاية، ونقل الاختصاصات بدون إمكانيات التفعيل، ومعيقات إمكانية تحقيق المشاركة في بلورة القرار،... يحتاج المغرب إلى تجاوز التدبير البيروقراطي والمرور إلى الدولة الترابية (Etat Territorial) باختصاصات وسلط واضحة، سواء تعلق الأمر بسلط ممثلي الدولة (السلط اللامتمركزة) أو سلط ممثلي الشعب. إنه رهان إعادة تحديد العلاقة بين الدولة والجماعات الترابية بالمرور من الوصاية إلى المقاربة التعاقدية مع ضرورة توفير شروط تحويل الخبرة والمعرفة والكفاءة إلى قاطرة لتحقيق قيم سياسية جديدة تضمن استدامة التنمية الترابية. وبتحقيق هذه الاستدامة يقول بوخفة، ستتمكن الدولة من تجاوز عدد كبير من المشاكل والمعيقات الترابية، ومن إنتاج قيم ونخب وفاعلين جدد على أسس وأهداف جديدة، ومن الرفع من مستوى نجاعة تدبير الاختلاف والتنوع الترابي، ومن تراكم إمكانيات تفعيل مقاربات التدبير الترابي الجديدة وعلى رأسها مقاربة المشاركة والتشارك الموطدة للتضامن الاجتماعي داخل التراب المحلي وما بين المجتمعات الترابية المختلفة من خلال المرور من مقاربة توزيع الاختصاصات الترابية إلى تمفصلها مؤسساتيا. وبخصوص التجربة الفرنسية، فقد اعتبر دانيال نموذج اللامركزية الجهوية بالمغرب نموذجا مغربيا صرفا (نموذج مغربي مغربي) حيث اعتبر أن المنطق الفرنسي لا يولي اهتماما كبيرا للجهوية مقارنة مع قوة اهتمامه باللاتمركز واللامركزية على مستوى الجماعة (Commune). لقد حولت الديمقراطية الفرنسية نموذجها السياسي إلى نموذج في تطور مستمر. فبعد الانشغال بتقوية اللاتمركز، انصبت الدولة على اللامركزية كأساس لتحقيق الاندماج الترابي الوطني. لقد تطور هذا النموذج إلى درجة أصبحت الجماعة الترابية تتمتع بنفس سلط الحكومة ورئاسة الدولة (Transposition du modèle national sur le local). إن السلطة المحلية في إطار اللامركزية الفرنسية تشمل كل مناحي حياة السكان، وتجسد بجلاء ما يروج من انشغالات في الدولة الوطنية. الجماعة المحلية برئيسها (le maire) مستقلة كما هو الشأن بالنسبة للدولة الأمة لكن في إطار سياسي يضمن النجاعة في الاتجاهين سواء تعلق الأمر بالاتجاه إلى أسفل هرم الدولة أو بالاتجاه إلى أعلاه. ونتيجة للتطورات الدولية وما تفرضه من قيم انفتاحية جديدة، وجد النموذج الفرنسي نفسه في وضع اضطراري لتطوير منطقه بخلق آليات جديدة للاستجابة لهذه المستجدات حيث تم اعتماد الجهوية، وآلية «طلب المشاريع» (Appels à projets). كما برزت في السنين الأخيرة ضرورة بلورة نموذج جديد لتوزيع المسؤوليات السياسية الترابية حيث تم تدعيم الهيكلة المؤسساتية للدولة بسلطات ترابية وسطية جديدة تمركزت على المستويين الإقليمي والجهوي. هكذا، فرضت المستجدات تخصص الإقليم في الحفاظ على العدالة الاجتماعية، والجهة في الانفتاح على ما هو عالمي وداخلي، إضافة إلى دعم اللامركزية الجماعية بمؤسسات جديدة تضمن العمل المشترك بين الجماعات المحلية وما بين التجمعات السكنية (Intercommunalité et inter-agglomérations). كما تم، نتيجة سرعة المتغيرات الدولية، فتح النقاش بشكل جدي بشأن العمل بمنطق التشبيك.وبعدما تدخل كريستينو، كأحد الفاعلين في مجال التنفيذ الميداني للبرامج التنموية في إطار التعاون الدولي بالمغرب، وجرده لمجموعة من المعيقات الميدانية المتعلقة بالتدبير الترابي خصوصا ما يتعلق بالخلل الذي يشوب عملية بلورة المخططات المحلية للتنمية من تهميش للكفاءات الترابية، وابتعاد عن المعرفة المحلية، تدخل عبد العزيز عديدي، مدير المعهد الوطني للتهيئة والتعمير، مذكرا أن النقاش حول الجهوية ليس وليد اليوم بل يرجع إلى ما قبل الحماية حيث كان هذا النقاش يدور حول الانشغال الأساسي للدولة بتدبير نمطين من الإنتاج، نمط بلاد المخزن، ونمط بلاد السيبة. وأضاف، بعدما كان الاهتمام مركزا في المغرب المستقل حول التقطيع الجهوي، توجت العشرية الأولى للعهد الجديد، ولأول مرة، بفتح نقاش بشأن اختصاصات الدولة وعلاقتها بالمؤسسات المكونة لها في سياق جديد يعبر عن الإرادة السياسية لإعادة التفكير في علاقات الدولة المختلفة مع مؤسساتها، وعلاقة الدولة مع المواطنين. وأشار في آخر مداخلته إلى وجود إرادة سياسية لتجديد مقومات العلاقة بين المكونات الأربعة الآتية: الملكية، والإسلام، والدولة، وحب الوطن.وتبين من خلال مختلف التدخلات والتعقيبات المختلفة، أن مشروع الجهوية بالمغرب يحتاج إلى نقاشات إضافية عميقة تستمر بدون انقطاع في مرحلة ما بعد نشر تقرير اللجنة الملكية، وكذا في مرحلة بناء المشروع الجهوي المؤسساتي المغربي وتفعيله. كما تبين أن مسألة التقطيع ثانوية (ذات طابع سياسي محض) مقارنة مع الأهم وهو تحقيق ملائمة النصوص بالممارسات وتحقيق التلاؤم والتناغم، المشروط بتحقيق التنمية الترابية، بين مكونين أساسيين يتعلق الأول بالترابية وما تتطلبه من نقل للاختصاصات والسلط والموارد والوسائل الضرورية، وديمومة مشروعية التدخلات، وضمان النجاعة في الفعل العمومي المشروطة بالارتباط بالمعرفة المحلية (savoir faire local)، والثاني بمنطق ممارسة السلطة باستحضار المكونات الأساسية الثلاث: الملكية، الدين الإسلامي، والدولة.واتضح كذلك حاجة البلاد إلى انبثاق مصادر شرعنة سياسية جديدة نابعة من الوعي السياسي للمجتمعات الترابية. إنه السبيل الممكن لإعادة إنتاج النظام السياسي المغربي بقيم سياسية جديدة، وبمقومات تستبعد بشكل نهائي اللجوء إلى الأساليب القمعية كآليات قديمة لضمان استمرار الدولة. كما تم اعتبار قرار فتح النقاش بشأن الجهوية الموسعة ترجيحا لفرضية انضمام الدولة من خلال هذا المشروع كمكون أساسي في النظام السياسي المغربي إلى المكونين المرسخين والمتجذرين في المجتمع بحكم التاريخ والثقافة وهما الملكية والدين الإسلامي، وأن هذا الورش لا يمكن أن يعبر إلا على ترجيح عزم النظام السياسي المغربي على توليد تمثلات سياسية جديدة تضمن مستوى كافيا من الثقة في المؤسسات، وتوفر الإمكانيات والوسائل لتطوير أداء الدولة بمنطق يخدم المواطن ومستقبل مجتمعه (تأهيل هياكل الدولة). وبخصوص إشكالية الأولويات، فقد تم تسجيل استحالة نجاح اللامركزية الجهوية بدون ضمان التواجد الترابي للدولة (تسريع وثيرة تقوية اللاتمركز من خلال ميثاق وطني متوافق بشأنه تماشيا مع خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة خطاب أكادير سنة 2006)، بما يفيد خلق نمط اقتسام السيادة بين الدولة المركزية والدولة الترابية، وضمان الملائمة بين المكونات الثلاث «الإرادة المعرفة الفعل» في الثقافة العمومية والمدنية والسياسية والاقتصادية. 28/09/2010