عادت المفاوضات حول الملف النووي الإيراني لتتعثر مع طلب إيران ان تحصل على شحنات يورانيوم لاستخدامها في بعض التجهيزات الطبية قبل ان تقوم بنقل ما لديها من يورانيوم منخفض التخصيب الى الخارج، بموجب الاتفاق المبدئي الذي وقعته الشهر الماضي مع وكالة الطاقة الذرية ويبدو الخلاف "تقنيا" الى حد كبير، إلا انه يخفي، في الواقع، أمورا اخرى. فالمسألة هي ليست من يرسل اليورانيوم أولا، بل مسألة تنازلات تتعلق بحصص النفوذ وحزمة الحوافز التي يفترض ان يقدمها الغرب لايران مقابل تخليها عن مواصلة أعمال التخصيب. ما يتطلع اليه الإيرانيون يبدو واضحا. أولا، قالوا أنهم قدموا حزمة تستهدف توفير الطمأنينة للغرب في المحادثات حول الملف. والطمأنينة تعني تقديم البراهين والضمانات بان لا تتحول أعمال تخصيب اليورانيوم الى عمل ذي طبيعة عسكرية. ثانيا، عادوا الى التأكيد على إن إنتاج أسلحة نووية "حرام" شرعا. لكي يقولوا للغرب إنهم يُضفون طابعا دينيا لامتناعهم عن تحويل اليورانيوم المخصب الى قنابل ذرية. ثالثا، قالوا إنهم، وإن كانوا غير مستعدين للتحادث بشأن حقوقهم النووية، إلا إنهم مستعدون للإجابة على جميع الأسئلة التي يقدمها نظراؤهم الغربيون. وهذا يعني الاستعداد لتوفير كل الضمانات، وأعمال المراقبة التي تتيح لوكالة الطاقة الذرية مدخلا حرا الى المواقع النووية. ما تريده إسرائيل ومجموعة 5+1، على أي حال، لا يقتصر على ضمانات تقنية. انهم يريدون، بالإضافة الى هذه الضمانات، التزامات سياسية محددة، تشمل الموقف من حق إسرائيل بالوجود، والعلاقة بالفلسطينيين ودور حزب الله في لبنان والمفاوضات مع سوريا وقضايا التطبيع. بمعنى آخر، المطلوب من آية الله، أن يكف عن قول ما لا يعنيه (مواجهة قوى الاستكبار) لينخرط في علاقات تعاون مع هذا "الاستكبار" نفسه. المشكلة التي يواجهها نظام آية الله خامنئي لا تتعلق بما إذا كان يسعى الى إنتاج قنابل ذرية، وإنما بخاطبه المنافق تجاه الغرب وإسرائيل. فإيران التي تتعاون مع الولاياتالمتحدة في العراق وافغانستان، لا تريد بالأحرى أن تواجه المشروع الأميركي – الصهيوني في المنطقة، بل تريد أن تضمن حصتها فيه. وأول هذه الحصة: بقاء النظام القائم في طهران، على حاله. الآن، لو أمكن للمفاوضات أن تبلغ هذه الضفة فان الطرفين سيتوصلان الى نتيجة سريعة. ولكن السبب الذي يحول دون الوصول إليها لا يتعلق، في الحقيقة، بمدى استعداد إيران لتوفير ضمانات، وإنما بمدى استعداد الغرب لقبول هذا النظام في إيران دون سواه. قدمت إيران كل البراهين على إنها مستعدة للانخراط في المشروع الأميركي، ولكن بطريقتها الخاصة. فمليشيات آية الله تقتل من العراقيين المناوئين للاحتلال ليس بأقل مما تفعل القوات الأميركية. وهي تريد النصر للتحالف الغربي في أفغانستان أكثر مما يريد هذا التحالف نفسه. والمشكلة التي لم يفهمها الغربيون حتى الآن هو كيف يتعاملون مع ثقافة "التقية" الإيرانية. الغربيون عندما يسمعون تنديدا بإسرائيل، تقشعر أبدانهم على الفور، ولا يدركون إن إيران تفعل ذلك على سبيل النفاق و"التقية". الغربيون لا يفهمون هذه العقلية. أنت معاد لإسرائيل يعني انك معاد لإسرائيل، (نقطة، ورأس السطر). أما أن تقول انك تريد إزالة إسرائيل من الوجود وتقيم حكومة "مشتركة" في بغداد، فهذا أمر عسير على الهضم في الغرب. الغربيون لا يفهمون أيضا ما هي حاجة النظام لثقافة منافقة كهذه. ولا يدركون إن بقاء النظام متعلق بها أصلا. فمن دون شعارات "مقاومة الاستكبار" و"ثورة المستضعفين" و"الشيطان الأكبر"، ماذا سيقول آية الله لشعبه؟ لهذا السبب، ولأنهم لا يفهمون الثقافة الإيرانية، يعتقد الغربيون أنهم ربما يستطيعون التعامل مع حكومة من طراز آخر، أقل "تقوية" على الأقل. وهذا ما يقترحه تحالف المعارضة الذي يقوده ثلاثي مير حسين موسوي ومحمد خاتمي ومهدي كروبي. فهؤلاء ليسوا "تقويين" الى تلك الدرجة عندما يتعلق بقبول إسرائيل في المنطقة. التبرم الذي أبداه وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير الاثنين الماضي من لا جدوى التفاوض مع الايرانيين يبدو، في ظاهره، تبرما مشروعا. فالايرانيون يمطمطون ويجرجرون في الكثير من التفاصيل. وهم يتفاوضون اليوم على ما كانوا يتفاوضون عليه العام الماضي عندما طرحت عليهم حزمة الحوافز. ولئن بدا الإيرانيون وكأنهم يحاولون كسب الوقت، فالغربيون يعرفون في المقابل أنهم، هم أيضا، لديهم الكثير من الوقت. فلا أعمال التخصيب بلغت حدا حاسما، ولا التصدعات في النظام الإيراني كفّت عن تقديم الوعود. الشيء المؤكد هنا هو إن الغربيين لم يقرروا بعد ما إذا كانوا يريدون وضع ترتيبات تسوية نهائية مع هذا النظام دون سواه. خامنئين من جانبه، لا يريد أن يقدم تنازلات قبل ان يرى حصته في الموازين الاقليمية. وهو مستعد لتقديم الضمانات تلو الضمانات مقابل شيئين اثنين: الحفاظ على نظامه، وعلى خطاب "التقية" الذي يمارسه. وعلى الغربيين أن يفهموا إن هذا الخطاب مهم لخامنئي لأنه اللحاف الوحيد الذي يتغطى به لعمل كل شيء آخر لصالحهم. الكرة في الواقع ليست في ملعب إيران. إنها في ملعب الغرب، وعليه هو أن يقرر. فإما أن يسعى لمحاصرة النظام الحالي حتى يتم استبداله من الداخل ب"تقويين" أقل، أو أن يأخذ دورة تدريبية لكي يفهم كيف يمكن الجمع بين الخطاب المعادي لإسرائيل في طهران وبين تقديم الخدمات لأميركا في بغداد وكابول. حصول خامنئي على حصة نفوذ في العراق وفي منطقة الخليج هو السبيل الوحيد له لكي يطمئن الى ان الغرب لن يتخذ من الملف النووي ذريعة لاسقاط نظامه في وقت لاحق. وما لم تتوفر هذه الحصة، فان المفاوضات لن تصل الى نتيجة سريعة.