إذا كان مضمون معظم المقالات السابقة مضموناً سياسياً ، فإن هذا المقال من المؤكد أن مضمونه الأساسى إدارياً 100% ، لأنه يقدم إجابة على سؤال هو : هل من الممكن أن إكساب المعارف والمهارات الإدارية للأخصائيين والمدراء والباحثين الناطقين بالعربية من خلال قصص وحكايات إدارية عربية تعبر عن أحداث ومواقف عربية ، وليست حكايات ومواقف مترجمة لا تعبر عن الواقع العربى؟ لذلك أقدم فى هذا المقال نموذجاً لقصة قصيرة إدارية تعبر عن مشاكل إدارة الاجتماعات ، تنطبق عليها الشروط الفنية والقواعد الأدبية المرتبطة بالإبداع الفنى والأدبى فى مجال القضية القصيرة ، وفى نفس الوقت ذات مضمون إدارى . على مر عشر سنوات لم أشهد يوماً فى حرارة ورطوبة مثل هذا اليوم ، الذى كان علىّ أن أرتدى فيه بدلة كاملة ورباط عنق أنيق لحضور الاجتماع الذى سيعقد فى الهيئة فى تمام العاشرة والنصف من صباح هذا اليوم ، وبرئاسة السيد نائب رئيس الهيئة للشئون الإدارية ، وفى نفس الوقت كان علىّ أن أذهب إلى الشركة أولاً لحضور اجتماع لجنة التنظيم ، وكان طبيعياً أن أستعد لحضور الاجتماعين ، اجتماع الشركة الذى لم يكن يمثل مشكلة بالنسبة لى، فإننى مقرر اللجنة والمسئول عن إعداد جدول أعمالها ، وتجهيز الأوراق التى سيتم مناقشتها، وقد قمت بإعداد جدول الأعمال ، وكذلك تجهيز كل الأوراق ، وإن كانت هناك مشكلة واحدة ، هى كيف أجعل وقت الاجتماع فى الشركة لا يزيد عن ساعة ونصف حتى أستطيع اللحاق باجتماع الهيئة ؟ وقد استطعت حل هذه المشكلة باستبعاد الموضوعات الممكن تأجيلها من جدول الأعمال ، وكذلك إعادة صياغة المذكرات بحيث تصبح أكثر وضوحاً فضلاً عن إعداد مجموعة من الجداول التفصيلية والمقارنات والرسوم البيانية والإيضاحية التى تعبر بشكل مباشر عن الموقف الحالى للهيكل التنظيمى مقارناً بالهيكل السابق ، وتحديد التغيرات الجديدة وضرورتها ومدى الاستفادة منها ، حيث كان ذلك هو الموضوع الرئيسى فى الاجتماع ، وذلك ضماناً لضغط المناقشات . كما أننى أعلمت السيد رئيس اللجنة بشكل غير مباشر بموعد الاجتماع الذى سيتم فى الهيئة فى نفس اليوم . أما بالنسبة للاجتماع الثانى فقد سألت السكرتيرة عن الأوراق الخاصة به ، فاستخرجت خطاب موقع من السيد نائب رئيس الهيئة للشئون الإدارية بدعوتى للاجتماع بصفتى مدير عام التنظيم فى إحدى شركات الهيئة لمناقشة مشاكل إدارات التنظيم فى الشركات التابعة لها ، واقتراح الحلول المناسبة لها . وسألت السكرتيرة عما إذا كان هناك أى مرفق بهذا الخطاب ؟ فأجابت بالنفى . فقمت بالاتصال بالسكرتير الفنى لنائب رئيس الهيئة لسؤاله عن جدول أعمال الاجتماع وأوراقه ، فذكر لى أنه لا يوجد جدول أعمال أو أوراق ، فالموضوع واضح تماماً ، وهو مناقشة مشاكل التنظيم فى الهيئة مع مديرى عموم التنظيم فى شركاتها، فهل يحتاج هذا إلى جدول أعمال؟ وكان السؤال مباغتاً لى تماماً فنحن مديرى عموم التنظيم فى الهيئة ، وسنجتمع مع نائب رئيس الهيئة المسئول عن التنظيم لبحث مشاكلنا ، فهل نحتاج إلى أوراق وجدول أعمال ؟ أم أن خبرة كل المجتمعين تكفى مادام موضوع الاجتماع قد تم تحديده ؟ ولم أعرف الإجابة فى وقتها ، لأن كل الذى سيطر علىّ ، أنه لابد وأن أحضر هذا الاجتماع فى موعده ، فكل مديرى التنظيم فى الهيئة سيحضرون ولن يتخلف منهم أحد ،ِ فالجميع يرجون الاقتراب من نائب رئيس الهيئة للشئون الإدارية ، ذلك الرجل القوى ذو التأثير المباشر على رئيس الهيئة ، وكل رؤساء الشركات ، وأنا لست فى حاجة إلى إغضابه حتى ولو كانت نظرته لى أنى من أبرز الخبراء فى مجال تحليل وتوصيف الوظائف . وبالفعل نجحت بصعوبة فى إنهاء الاجتماع الأول فى تمام العاشرة وعشرة دقائق ، وكان على أن أنتقل بسيارتى غير المكيفة فى درجة حرارة ورطوبة شديدتين وبسرعة كبيرة فى ظروف مرور قاسية للوصول إلى الاجتماع فى موعده ، والحمد لله وصلت فى العاشرة وأربعون دقيقة ، وأنا متوتر الأعصاب لتأخرى عشر دقائق ، ولاحتمال أن أستمع إلى نقد أو تعليق جارح من رئيس الاجتماع وهو حاد الطبع وسليط اللسان . ولكن الله سلم ، فقد وجدت كل الأعضاء مجتمعين فى حالة حوارات ثنائية وثلاثية ، دون وجود نائب الرئيس الذى دخل بعدى بحوالى خمسة دقائق فانتظم الجميع وعم السكون المكان . فنظرت أمامى فوجدت نوتة صغيرة وقلم رصاص ، شعرت أننى لست فى حاجة على الإطلاق لهما ، فأنا معى النوتة الخاصة بى ، فضلاً عن أنى قد تعودت الكتابة بالقلم الحبر . وبدأ نائب الرئيس بأن طلب من سكرتيره تحويل كل التليفونات الخاصة به على قاعة الاجتماعات ، كما أمر بإحضار عامل البوفيه لتقديم المشروبات إلينا . ثم بدأ الحديث عن مشاكل التنظيم فى شركات الهيئة ، وذكر فى المقدمة أنه موضوع لا يقف على قدم الأهمية مع موضوعات النقل والترقية والإعارات ، والأجازات بدون مرتب ، ولكن رغبة منه فى تأكيد أهميتنا فى شركاتنا فقد دعى إلى هذا الاجتماع . وشعرت لحظتها بحرج شديد ، وبأن العرق يتصبب منى ، وقلت لنفسى إن كل الموضوعات التى ذكرها هى جوهر مشاكل التنظيم ، فكيف يقول ذلك ؟ وأحسست فى نفسى رغبة شديدة فى أن أقول له هذا ، ولكن للحقيقة فقد شعرت بخوف من ذلك . ولكن الأستاذ " على أحمد " مدير عام التنظيم فى شركة موسو كان أكثر شجاعة منى وقال له : - يا سيادة النائب إن الترقيات والتنقلات والأجازات بدون راتب ، هى صميم مشاكل التنظيم . وهنا تغير وجه السيد النائب وقال له : - التنظيم يعنى هيكل تنظيمى ، ده مشاكل أفراد ، وسأبحثها على مديرى الأفراد . ولم يرد أحد أو يعلق ، ولكنى قلت فى نفسى حتى ولو كان الأمر كذلك فإن لها انعكاسات مباشرة على الهيكل التنظيمى يجب أن تبحث . وفى هذه اللحظة انقطع التكييف عن العمل ، ودق جرس التليفون ، وأحسست بفرح شديد فقد يتم تأجيل الاجتماع ، ولكن قطع النائب المكالمة مؤقتاً واستدعى الصيانة للإصلاح وقال : - أعتقد أننا نستطيع استكمال الاجتماع أثناء الإصلاح، فالأمر لن يستغرق أكثر من دقائق. ولم يكن الأمر ممكناً ، فكيف يمكن التركيز مع دقات وصوت الأدوات المستخدمة فى الإصلاح وفى ظل درجة الحرارة والرطوبة الشديدة ، وبعد عشر دقائق تم التوقف عن الإصلاح وأعلن عمال الصيانة أن الأمر يحتاج إلى وقت آخر . وشعرت بالفرح مرة ثانية أن الاجتماع سيتأجل ، إلا أن السيد النائب قال أنه سيكمل الاجتماع أياً كان الموقف . وهنا دق جرس التليفون ورد النائب وتعطل الاجتماع عشر دقائق . بعدها طلب الكلمة الأستاذ "سامح السيد" مدير عام التنظيم فى شركة الخدمات السريعة ، وقال : أنه أعد تقرير تفصيلى عن هذه المشاكل وأنه يستأذن سيادة النائب فى توزيعه على الأعضاء فسمح له النائب بذلك . فإذا بهذا التقرير يتجاوز المائة وخمسون صفحة ، وبه ما لا يقل عن حوالى ثمانين جدول، وبحثت عن ملخص للتقرير فلم أجد ، وحاولت أن أستوعب بعض النقاط الأساسية من مقدمته فلم أستطع ، فقد كانت المقدمة لا تتحدث عن ما يحتويه التقرير ، ولكن تتحدث عن الشركة وجهود إدارة التنظيم ، فحاولت أن أستطلع المحتويات فلم يكن للتقرير محتويات، فحاولت أن أبحث وأستقرأ المنهج المكتوب به التقرير فلم أستطع ، فسلمت أمرى إلى الله ، وقلت فى نفسى اقرأه فيما بعد . وهنا طلب الكلمة السيد " حاتم نصر " ، وقال : - إن التقرير مطبوع بصورة جيدة للغاية ، وتم تصويره وتجليده بصور ممتازة ، حتى أننى لم أجد تقريراً بمثل هذه الأناقة من قبل ، ولتسمح لى أن أسألك ما هى ماركة الحاسب والطابعة ، وما إسم نظام النسخ ؟ ومن أى توكيل تم شراء ماكينة التصوير والتجليد ؟ فأنا أرغب جداً فى شراء مثلهم فى الإدارة عندى . وأثنى سيادة النائب على هذا قائلاً : - والله كنت سأسألك يا سامح عن اللى سألك عليه "حاتم" . وهنا شعر سامح بزهو شديد وبدأ فى شرح استمر حوالى خمسة عشر دقيقة عن الحاسب والطابعة وماكينة التصوير والتجليد ، وتدخل فى الحوار الأساتذة " شوقى خلف " و"عبد الكريم" و "محمود" حيث استعرض كل منهم خبراته فى مجال الحاسبات الآلية والتجهيزات المكتبية الحديثة . وبدأت أشعر أن الجو قد أصبح خانقاً خاصة وأننى غير مدخن ، ولدى بعض الحساسية عندما يشتد التدخين ، وكان لسوء حظى أن رئيس الاجتماع ومعظم الحاضرين مدخنين أشداء . وبدأت ألعن يوم مولدى ، ويوم تعيينى فى الشركة ، دون أن أفتح فمى ذاكراً لنفسى أنه يبدو أنه لاشىء لدى المجتمعين ، وبالتالى سينفض الاجتماع عما قريب . ولكن عاود سيادة النائب الكلام قائلاً : - لندخل فى الموضوع ، ونناقش هذه المشاكل وهنا طلب من الأستاذ "سامح" أن يعرض موجزاً لتقريره . وبدأ الأستاذ "سامح" فى عرض هذا الموجز الذى ركز على موضوعات نظرية بحته تتناول أسس إعداد الهياكل التنظيمية والنظريات الحديثة فى التنظيمات التى تركز على التنظيم المصفوفى وفرق العمل ، والتنظيمات العضوية ، وكيف أن جوهر المشكلة هو أن شركات الهيئة لا تأخذ بالنظريات الحديثة فى التنظيم وهنا لم أستطع أن أمنع نفسى من الكلام وسؤاله . - إذاً لماذا يا أستاذ " سامح " كل هذه الجداول والرسوم الواردة فى التقرير . فرد قائلاً بأن هذه الجداول هى جداول تحليلية للدراسة عن الشركات الأمريكية والأوروبية التى استخدمت الأساليب الحديثة فى التنظيم . فسمعت وسكت ، وتوقعت أن سيادة النائب سيرد على " سامح " مؤنباً له ، ولكن على العكس فقد قال له : - هذا جهد رائع ، وسأقوم بتعميمه . وهنا مال علىّ الأستاذ " حسام " الذى يجلس بجانبى وهمس فى أذنى : - ألا تعلم أن سامح ابن خالة زوجة النائب . فقلت لا أعلم يا سيدى وسكت . وبعد أن قال ذلك طلب الكلمة ، وبدأ يثنى على التقرير ويقول أنه نموذج لما يجب أن يكتب فى هذا الصدد ، وأنه سيوزعه على العاملين فى إدارته بل وعلى مديرى الإدارات الأخرى فى الشركة . وفى هذه اللحظة وجدت فى نفسى رغبة شديدة جداً فى أن أهمس فى أذن الأستاذ "حسام" أسأله هل أنت معتقد فيما تقول ؟ فهمس قائلاً : - إن " سامح " واصل وقريب سيادة النائب . إلا أن الأستاذ "حجاج" طلب الكلمة ، وتوقعت صدام شديد ، فهو بطبيعته مهاجم عنيف ويعتبر أقدم مدير عام فى القطاع كله ، كما أنه قريب من المعاش ، قائلاً : - هو إحنا فى مدرسة ، كلام إيه المكتوب ده ، والله أنت ضيعت أموال الشركة هدر فى اللى أنت كاتبه ، نظريات إيه يا سيدى ، ما أنت عارف المشاكل اللى عندك ، واللى عندنا ، بدل ما تكتب عن النظريات الحديثة ، اكتب عن الإدارات التى تحمل مسميات بدون أى مضمون ، اكتب عن المدير العام اللى على نفسه فقط ، اكتب عن التوصيف اللى كله كلام غير محدد وغير واضح . وهنا ساد الصمت وزاد العرق وشعرت أكثر بالحرارة والرطوبة ، وبرغبة شديدة فى أن أخلع الجاكت بل والقميص أيضاً ولكنى لم أفعل . وقام " سامح " محتجاً وطلب تسجيل احتجاجه رسمياً . وقال النائب بحدة شديدة : - ولماذا لم تكتب أنت ؟ هو كتب وعمل اللى عليه وده وجهة نظره ، أنت عملت إيه ؟ جاى تحتج وتهاجم ! وهنا شعرت بحيرة شديدة . إن كلام النائب به قدر من الصواب فلماذا لم يكتب "حجاج" تقريراً بالمشاكل من وجهة نظره ؟ ورد " حجاج " بحدة وعنف . - اكتب عن حاجة معروفة والمذكرات بشأنها مغطية مكتب سيادتكم . فرد النائب : - علشان كده عملت الاجتماع . ولم أستطع أن أمنع نفسى مطلقا هذه المرة من أن أطلب الكلمة وأقول : - ولماذا لم يتم تكليف إدارة التنظيم بالهيئة بإعداد تقرير عن هذه المشاكل من واقع خبراتها وتجاربها مع الشركات ليكون الورقة الأساسية فى هذا الاجتماع . وأثنى حجاج على كلامى وقال : - هذا كلام صحيح بدل ما نحضر اجتماع بدون ورق أو جدول أعمال . وهنا قال " سامح " الذى تربطنى به علاقة ود : - أنت بتأيد الأستاذ " حجاج " ولا إيه ؟ ورد على الفور حجاج : - وما له لما يؤيدنى ، مادام مع الحق . وتدخل النائب ، قائلاً بصوت منخفض : - حتى أنت يا حسن ! وشعرت بخوف شديد ، فقد دخلت فى معركة ، وقد خسرت تعاطف النائب ، وصداقة " سامح " دون أن أرغب فى ذلك أو أرجوه . وهنا تدخل الأستاذ " علام " وقال : - كان يجب على الأقل أن يوضع جدول أعمال للاجتماع تتضمن بنوده أهم هذه المشاكل، وكان يجب أن يعد ملف به بعض المذكرات التى تتناول واقع هذه المشكلات ، وكان يجب أن يصلنا كل هذا قبل الاجتماع بوقت كاف . وهنا انقلب النائب إلى وحش كاسر وأسد جريح يطيح بكل شىء قائلاً وبصوت عال : - أنتم حتعلمونا نشتغل إزاى ، ده غلطتى أنى بأتبع أسلوب ديمقراطى ، وبأجتمع بيكم وبأناقش معاكم مشاكلكم . لكن والله أنا حاأعرف أتصرف وأصفى حساباتى معاكم ولازم تعرفوا أننى لو عاوز ألغى إدارات التنظيم وأضمها للتنمية الإدارية أو الأفراد حاأعملها بمذكرة بكره لرئيس الهيئة وحا أعملها إنشاء الله . إتفضلوا إنفض الاجتماع ... وكانت الساعة الثانية ظهراً ، وخرجت من القاعة دون أن أدرى ماذا حدث وهل هو حقيقة أم كابوس . بينما اقترب منى " حجاج " يهمس فى أذنى قائلاً : - لم أكن أعرف أنك حقانى لهذه الدرجة . وعند الباب الخارجى للهيئة وجدت " سامح " يقولى : - لم أكن أعرف أنك تسعى إلى العداء معى بهذه الدرجة . وأشاح بوجهه عنى ، وأسرع نحو عربته . فى هذه اللحظة لعنت كل الاجتماعات ، وشعرت أنها أسوء ما توصل إليه الإنسان . وقررت أن أكتب فى مذكراتى أن يوم الخميس 14/8/1992 هو أحد الأيام الشديدة السواد فى حياتى .