ما الذي أراد كريم مروّة قوله في كتابه الجديد: «نحو نهضة جديدة لليسار العربي»؟ قد يأتي الجواب من الكتاب لكنه يأتي، أولاً من وظيفة الكتابة عند قائد سياسي أراد أن يكون «مثقفاً فاعلاً»، مؤمناً بأن «الكتابة الملتزمة» تبني المجتمع من جديد، أو تصدّ عنه الهدم الذي يقع عليه. فمنذ منتصف سبعينات القرن الماضي، بدأ كريم الكتابة عن «أزمة حركة التحرر العربية» وحاول، بعد عقد من الزمن، أن يعقد حواراً بين «الدين والإيديولوجيات»، وأن يعطي قولاً في قضايا «المسألة الفلسطينية»... وسواء كتب أو لم يكتب، فقد ذهب التاريخ في الاتجاه الذي أراده: هزمت الأزمة المأزومين وحررتهم من التزامات لا يستطيعون القيام بها، واعتصم «الاتجاه الديني» بانتصاره، وذهبت المسألة الفلسطينية إلى حيث عليها أن تذهب، رغم بلاغة قديمة ومقاتلين جدد ترجم الفرق بين غايات الكتابة المستمرة وحركة الواقع العنيد إيمانية، لها شكل العادة، أملت على «الكاتب الملتزم» أن يتمسك بحقيقته، وأن لا يقيم وزناً للهزيمة أو الانتصار. وعن هذه الإيمانية المتوارثة، التي تنسب إلى الكتابة واجباً لا يمكن التحرر منه، صدر كتاب كريم الجديد، الذي هو كتابة جديدة لأحلام قديمة. بيد أن ما يجعل الكتاب جديراً بالقراءة، لا يعود إلى إيمانيّته، فالإيمان الراضي عن أحواله منتشر في كل مكان، بل إلى ارتباك يثير الفضول: فالكاتب بلغ الثمانين، وكتب في موضوعه غير مرة، وينشر خطاباً تبشيرياً له بعد جماعي، ويلتزم بفكر كان يدعي احتكار الحقيقة، ذات يوم. يعبّر الارتباك عن فكر قلق وعن نظر يساري انتهى ولا يعرف كيف يبدأ، وعن يسار قديم وقع عليه التعب والاغتراب. لذا يشكّل كتاب كريم مروة الجديد وثيقة يسارية عن يسار مرهق مغترب، أضاع جوهره ويبحث عنه، أو أضاعه ولم ينتبه إلى ضياعه. كيف يتكشف الارتباك في كتاب مروّة؟ يتكشّف، أولاً، في محاولة كسر قاعدة قديمة، سارت بين الإنسان النموذجي وثبات العقيدة. قال جوزيف ستالين مرة: «لا يمكن تغيير إنسان جاوز الأربعين إلا إذا كسرته». يواجه القول كريم بصعوبتين: فقد بلغ الثمانين وعليه أن يُكسر مرتين، وأن يظل موحداً رغم الكسر المزدوج، فهو يذكر اسم ماركس أكثر من مرة، ويعود أكثر من مرة إلى ماضيه، ويريد في الحالين أن يبقى «يسارياً». يتجلّى درس كريم في المحاولة الصعبة التي تريد أن تحتفظ بالمكسور موحداً، وأن تجمع بين زمن سياسي قديم واضح الصفات رحل وزمن جدير سياسي لا تزال ملامحه غائبة. وعلى الرغم من الجهد المبذول، في مصالحة التناقضات، لا يصل كريم إلى ما يريد الوصول إليه، فلا هو بالستاليني القديم ولا بالماركسي الجديد، بل في موقع ثالث غائم الحدود يدعوه: اليسار. يعطي هذا الضياع، المختار حيناً والإلزامي حيناً، للكتاب أهميته، ويعيّنه وثيقة يسارية، بالمعنى الإيجابي للكلمة، لأن فيه ما يعترف بأولوية الحياة على النظرية، وما يرفض التصور الماركسي الديني، الذي يقول بصحة الأفكار وخطأ التطبيق، كما لو كان الماركسيون لا يعبّرون عن «الماركسية»، أو كما لو كانت هذه الأخيرة «روحاً نقية»، لا يحسن التعامل معها إلا الأنقياء. لم يشأ كريم مروة أن يكون نقياً يفصل بين النظرية والحياة، وبين الأفكار واختبار الأفكار، منتهياً إلى: فضيلة الارتباك، أي إلى فكر نقدي يدرك أن حل القضايا يأتي خلال البحث عن حلها ولا يوجد جاهزاً في كتاب، أو لدى «مرجع يساري» قادر على «الفتوى». الدعوة إلى اليسار في زمن منهار يرتبك الفكر النقدي وهو يسائل تاريخه ويرتبك أكثر وهو يقرأ المستجدات، التي لم يعرفها زمن اليقين: ما إمكانية العمل السياسي في مجتمع طبقي انطفأ فيه صراع الطبقات؟ وما شكل العمل الإيديولوجي في مجتمع عربي أصبحت «تليفزيوناته» مصدراً لخليط من الفتاوى الدينية؟ وما أشكال التعامل مع «طبقة كادحة» تطمئن إلى فكر إيماني يستعيض عن «الطبقة» بالجماعة؟ وما معنى عروبة فلسطين حين يصبح الشأن الفلسطيني فلسطينياً، مع استثناءات محدودة (الموقف السوري والمقاومة اللبنانية)؟ ليس الارتباك، الذي يخترق خطاب مروة إلا الفرق بين الاستعمال القديم للمفاهيم النظرية والمستجدات القائمة، التي تطالب بتصورات جديدة، أو باستعمال جديد لصيغ نظرية سابقة. لا يترجم الموقف استهانة بعادات نظرية متقادمة، بل الاعتراف بأولوية الواقع على الفكر، ذلك أن فضائل الإيديولوجيات من آثارها العملية، وأن الاعتراف بالأزمة، بصيغة الجمع، مدخل محتمل إلى تجاوزها. يرتبك كريم مروة وهو يعالج ذاتاً منكسرة، تريد أن تبقى موحدة، ذاهباً إلى ارتباك آخر عنوانه: اليسار. ولكن ما هو هذا اليسار المشتهى، إن كان موجوداً، وما تعريف اليسار المشتهى اليوم، إن كان محتملاً؟ يأتي الجواب من الماضي، ولا يأتي واضحاً، لأن جميع الأحزاب السياسية الأساسية، في زمن غير هذا، كانت يسارية: الشيوعيون وتحرير المجتمع، البعثيون والمناداة بالحرية والقوميون العرب وإعلاء القومية فوق الطوائف والمعتقدات الدينية، والقوميون السوريون والمناداة بتساوي المرأة والرجل والليبراليون المؤمنون بالبرلمان والانتخابات... ولهذا يبدو المجتمع العربي، منذ مطلع القرن العشرين إلى نهاية ستينياته، في أجزاء كثيرة منه، «مجتمعاً يسارياً». فما هو القاسم المشترك بين النزوعات الحزبية المشار إليها، وما هو اليساري منها، وغير اليساري، من وجهة نظر الحاضر القائم؟ وما تبقى منها، بالمعنى العملي، اليوم، تمتعت بيسارية كاملة أم مجزوءة؟ يطرح كريم مروة بديلاً يسارياً، دون أن يعرّف اليسار حالماً بشيء من الماضي وحالماً أكثر بحاضر يوحد ما كان منقسماً في الماضي. تحمل كلمة اليسار، في الخطاب المرتبك دلالات كثيرة: فهي مفهوم نظري لموضوع لا وجود له، «عليه أن يتكوّن»، وانتقال من قديم إلى جديد عن طريق السلب، يعرف ما تركه (مَن لم يسمع بالمركزية الديمقراطية وصراع الطبقات والنزعات التحريضية؟)، ولا يعرف ما يذهب إليه، وهي تمسك بهوية تدافع عنها أطراف محاصرة. ولعل هذا الحصار، الذي يتأمله كريم بصدق لا صراخ فيه، هو الذي جزأ اليسار المجزأ، وترك له اليوم هوية شكلانية: اليساري هو الذي يندّد ب»الأخطار الخارجية» ويحاذر الحديث عن «الأخطار الداخلية»، أو الذي يفاضل بين «تسامح السلطة» واستبداد «البدائل المطروحة»، أو ذاك الذي يذكر «أمراض المجتمع» ولا يحدّد أسبابها وصولاً إلى يساريين متسقين يستأنفون ما كانوا عليه. يكتفي كريم بطرح «فكرة تبحث عن اتجاه»، ويستنهض أنصار الاتجاه، كي يعطوا الفكرة ملامح تتجاوز الفكرة، وهو في الحالات جميعاً يعطي صياغة جديدة لأحلام قديمة، ولا يخشى الارتباك. يرتبك كريم في علاقته بذاته، وفي علاقته بموضوع شعاره، وفي الوسائل المقترحة، القريبة من ليبرالية يسارية، أو يسار ليبرالي، أو من شيء ثالث يحتاج إلى اسم جديد. فهو يطرح، في كتابه مقولات متتابعة، يكمل بعضها بعضاً تفضي في تكاملها، إذا تحققت، إلى نهضة اليسار. غير أن المقولات، في تعدادها وتصنيفها، تسمح، في حال تحققها، بنهضة الليبرالية لا بنهضة اليسار. ذلك أن الليبرالية تقول بحقوق المواطنة والمجتمع المدني ودولة القانون، وتقول، في اللحظة عينها، بالفردية والتنافس الفردي وبأولوية الفردي على الجماعي وبحرية السوق، ولا تكترث كثيراً بالعدالة الاجتماعية... هل المطلوب ليبرالية تأخذ صفة اليسار، أو يسار يستعير هوية ليبرالية؟ يواجه كريم مروة الخلط بين تصورين مختلفين مستعيناً بشعار الاشتراكية. لكن الشعار يواجهه بإشكالين جديدين: نسيان معنى «التطبيق الاشتراكي: في الماضي القريب، والوقوع في العمومية السياسية التي تبسط معنى الاشتراكية وتجعل منها هدفاً مستقلاً مكتفياً بذاته. ليست الاشتراكية في تطبيقها العربي القريب، على الأقل، إلا شعاراً إيديولوجياً سلطوياً، يبرّر قمع المجتمع لحساب نخبة حاكمة، وممارسة بيروقراطية، لا إشراف عليها، أفضت إلى توليد «رأسمالية متوحشة» جديدة. وما قطاعها «العام»، الذي اختصرت فيه كلمة الاشتراكية، إلا قطاع سلطوي خاص، أمّن للنخبة الحاكمة الجمع بين القرارين الاقتصادي والسياسي معاً. إذا كانت السعادة هي تبصّر الحقيقة، كما يقال، فإن الاشتراكية، المشار إليها، تلغي السعادة وتنتهك الحقيقة. لا يعترف اليسار، بالمعنى الحقيقي، بالاشتراكية، بل بالممارسات السياسية، التي تحرّر الإنسان وهو ذاهب إلى تحرّره، وتقترح ما يحتاج الإنسان إليه، من حيث هو ذلك «اللامتوقع»، الذي يجعله الكفاح الإنساني ممكناً. وبسبب ذلك تبدو كلمة الاشتراكية غير ضرورية، وغير ضرورية على الإطلاق، لأن فيها ما يضع للفعل الإنساني سقفاً، وما يحاصر كفاح الإنسان الذي يريد أن يكسر الحصار. فالإنسان المتمرد يصنع ما أتاح له تمرده أن يصنعه، تاركاً التسميات الجاهزة جانباً، اشتراكية كانت أو غير ذلك. وقع كريم على فتنة التسمية، وهو ينطلق من عمومية سياسية ليبرالية، تقول بتحرر المجتمع، علماً أن المجتمع المتحرر لا وجود له، فهناك أفراد متحررون لا غير، وأن السياسة العامة لا وجود لها أيضاً، فهناك سياسة خاصة بكل موقع من المواقع الاجتماعية: سياسة خاصة بالطلبة «اليساريين»، وهم يقاتلون من أجل حقوق متساوية في تعليم وطني، وسياسة خاصة ب»العمّال»، وهم يطالبون برفع الأجور وتحسين شروط العمل، وسياسة خاصة بالشأن الديني، تميّز بين الفقر الحقيقي وحلوله الوهمية... لا وجود لسياسة عامة إلا في وعي براغماتي يعترف بالظواهر الاجتماعية ويمحوها، ويفصل بين البشر وقضاياهم، محيلاً القضايا جميعاً على «نخبة متعالية»، تقرر المقبول والمرفوض. إذا كان في الخطاب اليساري، لزوماً، مكان للمواطنة والديمقراطية والمجتمع المدني وما يشتق منه، فإن ما يميزه من الخطاب الليبرالي هو السياسات المشخصة المتميزة التي تجعل هذه المقولات ممكنة. فلا لغز في معنى المجتمع المدني، ولا جديد في تعداد حقوق المواطنة الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولا شيء يرتجى من تصنيف الأسباب التي تضطهد الفلسطينيين وحقوقهم، لأن السؤال، كل السؤال، في أشكال الفعل السياسي الموائمة، التي تحقق ما هو ليبرالي وتنقده، وتنفتح على سياسية وآفاق يسارية، أو ما يشبهها. على الرغم من النقد الذي يمكن أن يوجّه إلى كتاب كريم مروة، فإن هذا النقد يصبح مصطنعاً، إن أخذ بمبدأ العلاقة بين النص والسياق، كما يقول العاملون في النظرية الأدبية. فكما أن قراءة «ماركسية» فرح أنطون على ضوء ماركسية مهدي عامل لا تفضي إلى شيء، فإن قراءة فكر كريم مروة على ضوء «الماركسية المدرسية» لا تؤدي إلى شيء كثير. فالمسألة ليست في قبول أفكار المجتمع الليبرالي أو رفضها، بل في المطالبة ب»حداثة سياسية» في مجتمع عربي معادٍ للحداثة. فالمجتمع الأول، القائل بالفردية والتنافس الفردي، مجتمع أنجزت حداثته، ولو بشكل منقوص، على خلاف مجتمع عربي تقليدي، ألغى السياسة، التي هي مقدمة ضرورية للحداثة الاجتماعية. ولهذا يبقى ما يطرحه كريم مروة مشروعاً وتحريضياً: مشروعاً وهو يدعو إلى حداثة اجتماعية، وتحريضياً، لأن مؤلف الكتاب يدعو إلى «اتجاه جماعي»، ويدعو أنصاره إلى تجسير المسافة المرغوبة. تأتي أهمية كتاب كريم عن «فوضى الأسئلة»، التي لا يسمح السياق اليساري الراهن بتنظيمها، بسبب تأخر تاريخي يوزع القضايا الراهنة والفكر اليساري الراهن على زمنين مختلفين: رحل أحدهما ولم يتبلّور ثانيهما. وما دعوة كريم، المربكة المرتبكة، إلا دعوة إلى إقامة علاقة نقدية بين الفكر والواقع، يصبح فيها الفكر غير ما كان، لأن القائم منقطع عما كان. دعوة غير شكلانية في منظور شكلاني تأخذ دعوة كريم في منظور «الماركسية المدرسية» صفات متعددة يوحد السلب بين أطرافها جميعاً: فهو يخلع جلده ويستعير جلداً آخر، ويتخلّى عن «جماعته» ويذهب إلى آخرين. غير أن هذا الموقف، الذي يريد أن يكون طهرانياً، ينسى أن معنى الماركسية يكمن في الربط بين الحاجات الإنسانية والإمكانيات الفعلية للشرط التاريخي المعيش، إلا إذا أراد «الماركسي المفترض» أن يلتحق بالامكانيات المجردة ويكتفي بها. فالماركسية، بكل بساطة، مأزومة إلى حدود التداعي وتاريخها كله، على أية حال، سلسلة من الأزمات، وإن كان سقوط «المعسكر الاشتراكي» قد مزج بين الأزمة والهزيمة. وإذا كانت الماركسية هي التركيب النظري الأكثر ارتقاء لأفضل منجزات الفلسفة الأوروبية، كما قال آلتوسير ذات مرة، فإن هذا التركيب، ولا ما هو أقل منه بكثير، ممكن في مجتمع عربي اكتسح فيها «الداعية» موقف المثقف، واكتسحت فيها «الجماعة» موقع الحزب السياسي، وتعايشت السلطة فيه، وبيسر كبير، مع الداعية والجماعة معاً.. ما مدى الزمن التاريخي الفاصل بين «فوضى الفتاوى» التي توزّعها «التلفزيونات وفلسفة «البراكسس التي قال بها أنطونيو غرامشي»؟ تنظر الماركسية المدرسية إلى «الكتب» متجاهلة الواقع ومحتفية بالتسمية، حال بعض القوميين العرب الذين يحررون فلسطين ويهزمون الاستعمار ويحققون الوحدة العربية، مؤمنين بأن «روح العروبة» تهزم نقائضها في جميع الأزمنة. والمنسي، في الحالين، هو «إصلاح الوعي»، الذي يشرح للإنسان أفعاله الذاتية، والإصلاح المعنوي الأخلاقي، الذي يعيد الاعتبار إلى السياسة: فما هو وضع مجتمع «تخفّف» من الصراع الطبقي؟ وإذا كانت الطبقة تتعيّن اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، كما يقول غرامشي، فهل يمكن الحديث عن الطبقات في المجتمع العربي بصيغة الجمع؟ وكيف يمكن التعامل مع «استثنائية عربية» تتنافس فيها السلطة والمجتمع على إدانة الحداثة؟ وقد يأتي هجاء كريم مروة من منظور تبسيطي متفائل، يستنكر «التخاذل، رافعاً شعار «أزمة الرأسمالية» اليوم، مطالباً كريم، وغيره، أن ينظروا إلى «حقائق العصر الجديدة»!!! وهذا المنظور طريف بأكثر من معنى: فالنظام الرأسمالي مأزوم دون أن تكون الرأسمالية في أزمة، لأن الطرف الذي يعمّق أزمتها لم يستطع الوقوف بعد. أكثر من ذلك إن تاريخ الرأسمالية، وكما أكدّ سمير أمين أكثر من مرة، هو تاريخ أزماتها، وتاريخ تصدير هذه الأزمات إلى الخارج أيضاً. وتأتي المفارقة، طبعاً، من موقع آخر أكثر طرافة: ما حدود عقلانية العقل المتفائل الذي يصرّح بأزمة الرأسمالية «الخانقة» ولا يقول عن «الاستنقاع العربي» شيئاً، إلا إذا اعتبرنا أن الانتصار العربي في «معركة حطين» انتصار متأبد، وأن في «معركة القادسية» ما يعوّض عن جميع الهزائم القائمة؟ وواقع الأمر أن الثناء على «أزمة الرأسمالية» صورة عن «الانتصار عن طريق الآخر»، الذي تؤمّنه كرة القدم، إذ المتفرج على المنتصر منتصر بدوره. لا يزال العرب، منذ أن كتب نجيب عازوري «يقظة الأمة العربية» 1906 يتحدثون عن هزيمة الصهيونية، التي سلب مشروعها من العرب القرن العشرين كله، كما لو كان الحديث عن الهزيمة يساوي النصر، بل يتجاوزه. إن ما يحتج عليه كريم مروة، ببساطة ووضوح، هو تخلّف العالم العربي وهوانه وانسحابه من الصور الحديثة إلى عصور سابقة، محاذراً «ثقافة الأدعية»، والبلاغة السعيدة الانتصارية. من أين يأتي النقد الثالث الذي يحوّل كريم إلى «زائدة مريضة» لا ضرورة لوجودها؟ يأتي من دعوى أن أحزاب اليسار العربية قائمة، وأن الدعوة إلى يسار جديد، وهو مجرد افتراض ودعوة خيّرة، تسيء إلى هذه الأحزاب أو تؤدي إلى إضعافها، أو تغوي بانقسامها، علماً أن المرتبك المنقسم خير من المطمئن الموحّد. فالمطلوب ليس الأحزاب في ذاتها، متوارثة كانت أو شبه متوارثة، بل فعلها السياسي والثقافي في الحياة اليومية، والمطلوب اكثر تأمل «البنية الحزبية» التي تعتنق، أحياناً، مبدأ المرتبية الصارمة، الذي هو استعادة لسياسة تقليدية ترى في الامتثال فضيلة أساسية. وواقع الأمر أن كريم غير معني بنصرة حزب أو بهجاء آخر، ذلك أن كتابه يتحدث عن إمكانية توليد السياسة في مجتمع لا سياسة فيه، أي عن إمكانية وجود الشروط الموضوعية التي تجعل «العمل الحزبي» ممكناً، لأن وجود «الأحزاب» لا يعني، دائماً، وجود الحياة السياسية. فهناك النزعة الشكلانية، الممتدة من «مقامات الحريري»، في الأدب إلى أحزاب شكلانية، وهناك «قوة العادات»، التي تريد «موقفاً طبقياً»، في اللغة، دون أن تتحرى إمكانية الطبقات في المجتمع. وبسبب ذلك فإن كتاب كريم يدعوه إلى نهضة اليسار واليمين معاً، فلا سياسة إلا بوجود بدائل متناقضة، ولا يسار بلا يمين، ولا يسار ولا يمين إلا في مجتمع سياسي، لأن اليمين واليسار مقولتان سياستان. يطرح كتاب كريم موضوع الوعي التاريخي، القادر على ربط النص بالسياق، أو المفهوم النظري بزمانه، والذي يجعل من توليد «المجتمع الليبرالي»، مع معرفة نقائصه، مشروعاً يسارياً، ويعيّن «حقوق المواطنة» بديلاً من «الثورة البروليتارية». ذلك أن القول ب»البروليتاريا»، وهي مفهوم نظري تاريخي، في مجتمع تحكمه «فوضى الفتاوى» استظهار لغوي بريء لا أكثر. فكما أن بعضاً من «الجماعات الدينية» يريد استقدام «الحكم الراشدي» إلى الحاضر، ناسياً اختلاف الحاجات وخصوصية «الخلفاء الأربعة»، فإن بعضاً من «أهل اليسار» يريد تطبيق أفكار «البيان الشيوعي»، أو رغبات «ساطع الحصري» على مجتمع أخطأ الثورات الحداثية جميعاً، وانتقل من «روح العروبة» إلى الركام الجهوي والاثني والطائفي. حول بعض قضايا اليسار من أين جاء اليسار العربي في وجوهه المختلفة؟ جاء من التنوير ومجتمعية السياسة والثقافة، وبدايات الاستقلال الذاتي النسبي للحركة الشعبية، التي تكوّنت خلال الكفاح ضد الاستعمار والمشروع الصهيوني. فقد جاء التنوير بمفهوم المقارنة، بين ما استجد وتقادم، وبين الأنا والآخر، وبين الماضي والمستقبل... وترجم هذه المقارنة، منذ مطلع القرن العشرين وما تلاه، ببدائل سياسية متعددة، احتفت بالصحافة والترجمة ودور النشر والدعوة إلى القراءة... ساعدت على ذلك، أيام السيطرة الاستعمارية المباشرة، سلطات ضعيفة ومجزوءة الشرعية وبدايات حركات شعبية. لا غرابة أن تأخذ أحزاب اليسار الوليدة بمقولات التنوير المختلفة: الدعوة إلى التعليم، تحرر المرأة، العدالة الاجتماعية، الانفتاح على الثقافة العالمية، وكل ما يحيل على الحداثة الاجتماعية. ولا غرابة أيضاً أن تتزامن ظواهر سياسية ثقافية متكاملة: الحزب، المثقف، الصحيفة، الجمعيات المدنية، الحوار الاجتماعي، وغيرها من الظواهر التي لا تنشغل ب»الخصوصية»، وترى في العالم العربي جزءاً من العالم. يطمح كريم مروة إلى استعادة هذه الظواهر، في زمن آخر، أكثر صعوبة وتعقيداً، بسبب انهيار فكرة المستقبل و»ركود» أنظمة وزعت الركود على المجتمع بأسره. يستدعي كتاب كريم مروة ملاحظتين، تقول الأولى: هل يمكن ترهين أهداف «ماضية» عاشت هزيمتها أكثر من مرة؟ والجواب، وهو مستوحى من عبد الله العروي، يقول: تظل الأهداف الضرورية، الواجب تحققها، صحيحة، دون النظر إلى مآلها، ما دامت صحيحة وتحققّها شرط لنهوض المجتمع. وتقول الملاحظة الثانية: هل السياق الراهن المتسم بضعف اليسار، ملائم للدعوة إلى نهضة اليسار؟ إن التعلل بالسياق دعوة إلى توطيده، واطمئنان إلى ما هو قائم ومألوف، كما لو كان في الدعوة إلى الجديد ما يثير الخوف. ما الذي هزم اليسار العربي في أطيافه المختلفة؟ هزمته، أولاً، الدولة الوطنية الوليدة التي اعتقدت، بصدق، أن آمال الأمة تقضي بوحدة الأمة، فلا شقاق ولا اختلاف، منتهية إلى سلطة أحادية، يتجسّد فيها المجتمع والمثقف والحزب والصحيفة والنقابة، تضع كل شيء داخلها ولا تترك خارجها شيئاً. وهزمته، ثانياً، هزيمة 1967، التي هزمت الدولة الوطنية وكل ما احتفظت به من «الشعارات التنويرية» و»القومية». تم توطيد الهزيمة، مرة ثالثة، بتحالف، معلن أو مضمر، بين السلطات القمعية والدولار النفطي الذي روّض، بنسب مختلفة، الأحزاب والمثقفين وعمل، أولاً، على استئصال ما لا يتفق مع «الأصالة». إذا كانت التراكمات الكمية تفضي إلى كيف جديد، فقد كان على الهزائم الثلاث المتواترة أن تنتهي إلى «الاستثنائية العربية»، حيث السلطات والمجتمعات لا تريد، بأقدار مختلفة، الجديد ولا ترغب في الحداثة، على اعتبار أن الحداثة مسؤولة عن الهزيمة، وأن «اليسار» راسب، عنيد، من رواسب الحداثة المهزومة.تجسّد هذه «الاستثنائية»، مهما كانت أسبابها، «اغتيال العقل»، بلغة برهان غليون، أو «تحطيم العقل»، بلغة جورج لوكاتش، أو تحطيم العقل والتنوير والسياسة واليسار والمستقبل، بلغة الواقع الملموس. يتأمل كريم مروة، وهو يعطف فكرة إصلاحية على أخرى، هذا المشهد العربي كله ذاهباً إلى الجوهري، أي شروط الحداثة الاجتماعية، التي لا سياسة ولا أحزاب ولا مستقبل إلا بها. يصبح اليسار، بهذا المعنى، مجازاً نهضوياً واسعاً، اجتماعياً ووطنياً وقومياً في آن، لا يختزل إلى «حزب» واسع الطموح أو فقير الهموم. وتصبح الدعوة إلى التنوير، رغم «هزيمة الكلمة»، دعوة يسارية بامتياز، «تحلم» بمجتمعية السياسة والثقافة قبل أن ترى إلى الأشكال الحزبية القائمة. يقال: «على المعلم أن يعلّم التلميذ»، والسؤال: من يعلّم المعلم كي يكون قادراً على تعليم التلميذ؟ قال طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»: لا تعليم بلا ديمقراطية، ولا ديمقراطية بلا تعليم. فصل القول بين التعليم ومحاربة الأمية، وبين مجتمعية السياسة والاحتكار السلطوي للسياسة. يدعو كريم مروة، في كتابه «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي» إلى مبدأ المساواة، حيث للبشر حقوق متساوية في العمل السياسي، وحيث الاعتراف بالمساواة في السياسة مدخل إلى النهضة، ومبتدأ لبناء أحزاب جديدة، تتوزع على اليمين واليسار معاً. يظل تعبير اليسار، في الحالات جميعاً، مجازاً مركباً، يتضمن الوطنية والتنوير والدفاع عن المعرفة، والانتقال من المعلوم إلى المجهول، ومن الحاضر إلى المستقبل. ومن دون هذه العناصر المتداخلة يغدو تعبير اليسار فارغاً، يجاري سلطة، أو يتصرف بموروث، أو يلبي «سلعة سياسية» من سلع السوق، توهم المشتري أنه أمام أحزاب متعددة، وأنه قادر على «شراء» ما يريد. اليسار مشروع وطني نقدي وهوية غير مكتملة وموروث وسيرورة، لها شروطها، ترهّن الهوية والموروث، وذلك الفكر التنويري الممتد من الطهطاوي إلى قسطنطين زريق، ومن فرح أنطون إلى مهدي عامل وسمير أمين، ومن معارك أحمد عرابي ويوسف العظمة وعبد القادر الحسيني إلى المقاومة الوطنية اللبنانية. أعطى كريم مروة صياغة جديدة لأحلام قديمة، مكتفياً بالأسئلة وظلال الإجابات. وقد نطرح عليه بحثاً عن الوضوح الأسئلة التالية: ما معنى اليسار اليوم وما هي ملامح الهوية اليسارية؟ ما الفرق بين اليسار المشتهى واليسار القديم، وهل من اقتراحات عملية تجعله ممكناً ولو بقدر؟ ما الذي تبقى صالحاً من الماركسية اليوم؟ ما الفرق بين دعوته ودعوة سمير أمين «التحالف الوطني الشعبي الديمقراطي»، التي قال بها الاقتصادي الشهير قبل عقدين من الزمن؟ كل الأحلام كلمات، دون أن تشبه كل الكلمات الأحلام. (كاتب فلسطيني) الكتاب صادر عن دار الساقي، بيروت، 2010