- هل لكم أن تحدثونا عن بدايات كتابتكم الشعرية؟ - في منتصف السنوات الأربعين أخذ الشعر العربي يبتعد شيئا فشيئا عن نمط الكتابة الشعرية العمودية مع كل من شعراء مدرستي أبولو والمهجر.وكان واضحا تأثير الشعر الوجداني الأنجليزي والفرنسي على هاتين المدرستين،كما كان واضحا أن هذا التأثيركان من وراء رفض شعراء المدرستين للسير على سنن شعر فروسي يعتمد البلاغة المستنسخة ويتقيد بأنظمتها حتى بدا وكأنه عملة مسكوكة.كما كان واضحا أن شعراء المدرستين كانوا على وعي كامل بوجوب الانتماء إلى اللحظة المعيشة بكامل الوعي وبصادق الانتماء.هكذا أصبح الإنسان موضوعا أساسيا من مواضيع الشعر،باعتباره فاعلا للحياة ومنفعلا بوجهيها الحسن والقبيح.أكب شعراء هاتين المدرستين على التغني بالفرد الإنساني باعتباره قادرا على تحريك وجدان الشاعر وعلى حثه على الإبداع ،ومن تم فهو قادر أيضا على تحريك وجدان القارئ،حركة وجدانية romantique تمكن الشعر عبرها من فتح آفاق جديدة،منها الابتعاد عن المستنسخ المسكوك ومنها تلافي المبالغات الفروسية التي إن لاءمت الماضي فإنها لاتلائم الحاضر.كان من نتيجة هذا التحول بلورة إنسانية مسيحية مع كل من «إيليا أبو ماضي»و»جبران» و»ميخائيل نعيمة»،وإنسانية وجدانية فرنسية يطبعها «لامارتين»مع شعراء مدرسة «أبولو» وإنسانية وجدانية يطبعها الشعراء الوجدانيون الأنجليز خاصة «كيتس» مع عباس محمود العقاد وإبراهيم المازني،ومع ظهور «أبي القاسم الشابي»تجلت خلاصة محكمة لهذه الأنواع الثلاثة من هذا الاتجاه الإنساني. طفرة كبيرة عرفها الشعر المغربي بسبب اتصاله بهذه المدارس الثلاث،طفرة جعلته مصرا على عيش المعاصرة بهذه الطريقة الوجدانية ،لذا كان جميع الشعراء المغاربة الذين ظهروا في النصف الثاني من السنوات الأربعين ذوي وعي تام بضرورة الانحياز إلى تيار التجديد،كنت أنا من بينهم. - هل كانت التجربة الشعرية كما بدأتموها نابعة من اختيار أم كانت رهانا على التغيير؟ - كانت تجربة أدت ولا تزال إلى سلسلة لا متناهية من التجارب،كانت أولاها اقتناعي بأن قدري في الشعر،وكانت نابعة من اختيار حر دعا إليه وعيي بوجوب توقفي من أجل مساءلة اللحظات السالفة عما فيها من طواعية للاستمرار وعما فيها من قابلية للانقطاع.اكتشفت كما اكتشف شعراء جيلي أن الانكفاء على المعايير الشعرية القديمة لا يمكن أن يستجيب لمطامح العيش في اللحظة الراهنة،فالزمن غير الزمن والمكان غير المكان.وهنا برز مشكل المعاصرة بروزه العنيف الذي لا يرحم ،ففرض علي البحث عن اتجاه يجعلني متصالحا مع ذاتي وفاعلا بها ومنفعلا لها.لم يكن هذا الاتجاه غير ما ذكرته آنفا.وفي حمأة الاندفاع بكليتي نحو نفس هذا الاتجاه رأيتني متورطا في قراءة ما يستجد في ساحة الشعر العالمي المترجم مبكرا إلى العربية،وفي قراءة الظروف التي ساعدت على بلورته،فاكتشفت أن هناك في الأنظمة الحاكمة يمينا في مقابل يسار وتسامحا في مقابل طغيان، وأن الإنسان الذي اخترت أن أجعله موضوعي الأول يعيش بين شقي هذه الرحى المزدوجة الأبعاد.كان إذن من اللازم نقل الوجدانية من مقامها في الشغاف إلى سكناها في العقل المادي الذي على محوره يدور دولاب الحياة.إذ ليس من وظيفة الشعر البكاء على الأطلال كما كان عليه الأمر في القديم،بل إن وظيفته الأولى والأخيرة هي وقوفه مع الإنسان ورفضه للحيادية ومقاومته للطغيان المسلط عليه.من هنا بدأت أؤمن بكونية هذا الإنسان الذي من أجله كان هذا العالم على هذا النظام البشع في العمق الجميل في الظاهر.من هنا ثانيا تبنيت مآسي هذا الإنسان مهما اختلفت إقامته في الجغرافيات والمناخات والإثنيات، حتى آمنت بأن لي الحق في أن أكون معنيا بالإنسان وبحسن أو سوء مقامه على الأرض.كنت أحسني في هذه الفترة متعقبا خطى»ناظم حكمت»،و»بابلو نيرودا»و»ماياكوفسكي». أدمنت قراءة هؤلاء الشعراء عبر الترجمة الفرنسية. لكن الحماس هذا لم يقدر له البقاء ساكنا في أعماقي.خلخل اتزانه «ربيع براغ».جعله العنف موضع تساؤل ملح،أليس أن الاشتراكية تفرض تعايش الشبيه مع المختلف وجها لوجه لا ظهرا لوجه،فلماذا هذه المجزرة التي لا داعي لها إلا إرادة شرعنة الحكم الكلياني الذي هو غريم الحكم الاشتراكي؟رغم هذه الخلخلة،ازدادت قيمة الإنسان في عقلي ووجداني رسوخا فلم تعصف بقيمي التي ألمحت إليها.من هنا ثالثا وبناء على هذا الأمر،كان لازما أن أخطط لبناء مشروع شعري مستقبلي يتخذ أساسه من المسلمات المنطلقة من الإنسان المنتهية إلى الإنسان،أفضى بذلك من دون شك إلى اكتشاف عالم إبداعي إن في الشكل وإن في المضمون.وهذا ما استقررت عليه أخيرا.ومن هنا رابعا عثرت على شعراء يحاولون(في العراق على سبيل المثال) رؤية الإنسان المضطهد من خلال يسا ر أممي أو قومي ،وهو ما وجدته متناقضا مع الأسس الاشتراكية التي تقف في وجه الانتماء الإثني أو العرقي أو اللوني أو الإقليمي،إذ بهذه الرؤى يصبح الإنسان نموذجا لاختيارات إيديولوجية تطبق عليه شروطا هو غير مؤهل إلى تقبلها لأنها تفترض إرهاصات سابقة لم تسمح الظروف له بتخطيها.إلى هذا الحد،شعرت بوجوب فهم زمان ومكان عيش الإنسان ومدى قبوله أو رفضه للوارد عليه فيهما،بل مدى قبوله أو رفضه لمقولة الائتلاف في الاختلاف،وهو ما دعاني إلى أنظر إليه نظرة شعائرية فيها كثير من التبصر المادي والنظر الجواني الحدسي وكان هذا عاملا مساعدا على تصحيح المعطيات الإيديولوجية السابقة على ضوء فكرة كونية الإنسان.قد يكون في هذا نوع من التصوف العقلاني،وقد يكون مجرد تهويمات ،ولكنه يبقى مع ذلك واقعا إليه انتهت تجاربي في هذه اللحظة بالذات.مخاض مثل هذا لا يمكن إلا أن يكون وليد رهان على التغيير،خاصة وأن التغيير هو الناموس والنسغ منذ بدء الكون اللذان يمدان ديمومة الحياة بالقدرة على تنسيل كيفيات جديدة من كيفيات قديمة. - كيف ترون التجارب الشعرية الجديدة في الشعر المغربي المعاصر؟ - هناك التجربة وهي فعل فردي منجز قد اكتملت له أسباب الاستواء والنضوج وانتقل من حالة فرضية إلى حالة مسلمة بدورها أفضت إلى رغبة حاسمة في تجاوز ما كان من أجل اكتشاف ما سيكون.بهذا المعنى فالتجربة نسغ يستمد الشعر من رحيقه حياته القادمة،ولذا فهذه التجربة نتيجة سلسلة من الاختراقات التي تستهدف خلخلة ما يبدو ثابتا وهو ليس كذلك.وبينما يعتبر التجريب عملا جمعيا هدفه فعل الجديد وإخراجه من مجال الظن إلى مجال التبلور العام حتى يصبح تيارا مضافا إلى التيارات السابقة عليه،يكون التجريب عملا مخبريا(صادقا أو كاذبا) ذا صبغة مادية تختلف عن التجريب في الفن عامة.وإلى الآن،فما عرف من التجارب في المغرب كان مستوردا من الثقافات العالمية،وهذا استيراد مشروع بل ومحبذ،لكنه مشروط بكونه قلب للأوضاع ومنطلق من واقع معيش بالقول والفعل بحيث يفصح عن معاناة مبنية بناء غير مجاني،ذلك أن البناء المجاني المستوحى من الآخر ليس إلا محاكاة لا تخلو من البطر والجري وراء الصيت في الداخل وفي الخارج. هذا ويمكن حصر التجارب التي انعكس ظلها على الشعر المغربي من حيث الشكل في الانتقال من العمودي إلى التفعيلي ومن التفعيلي إلى النثري ومن النثري إلى الفقري وخاصة ما كان منه قريبا إلى «الهايكو» الياباني.أما فيما يتعلق بالمحتوى فقد تراوحت دلالاته بين الوجداني الخالص متنقلة من المحلي إلى العالمي عبر تبن للإيديولوجيات والمواقف السياسية المختلفة.وهنا لا بد من الإشارة إلى بدعة الالتزام بشقيه الاشتراكي والوجودي وما كان له من التأثير على الشعر العربي المعاصر عامة وعلى الشعر المغربي منه خاصة،ثم ما تلاه من انتكاس عاد معه هذا الشعر المغربي إلى الانكفاء انكفاء «باثولوجيا»على الذات.تتميز هذه التجربة التي أعقبت هذا الالتزام بميزة كلية من حيث الشكل هي النثرية ومن حيث المضمون هي مشروع قائم على أساس التداعي الحر الذي يكاد يكون هلوسة هي بمثابة توابل إضافية لا سبيل إلى نكران فاعليتها في النص الشعري،بل في ضرورتها له،(هذا ما فعلته «الدادية») وعلى استحضار اللامنتظر والغريب والمفاجئ والصادم في إطار غير طبيعي يجعل النص الشعري قابلا للاحتمالات المتنوعة ومحملا بمجازات واستعارات وكنايات جديدة باذخة،وعلى التجريد المتراوح بين الاعتدال والمبالغة فيه،وعلى الهذيان العاقل الذي يكشف عن سر التناقضات الخفية التي لا تكتشف إلا بالمجهر،وعلى الميل إلى الكاريكاتيرية التي تستهدف الإشارة إلى العبثي مرئيا ومعيشيا بالمعاناة أو بالمحاكاة محسوسا عبر وسائل مادية تنبع من الذات وتصب فيها.كل ذلك مع رغبة عارمة في البحث عن التجديد المستلهم من تجربة شعرية مستوردة.أنا جد كلف بالجري وراء هذه التجربة،شديد الاهتمام بتعقب مساراتها من أجل اكتشاف ما فيها من طبع وما فيها من صدق وما فيها من إرادة داعية إلى الرغبة في كتابة قصيدة كونية كنت ولا زلت راغبا في أن يكون المغرب أحد المسهمين في كتابتها.شعراء عنفوانيون في شمال المغرب وشرقه ووسطه وجنوبه أعمارهم غضة ومشاريعهم حية وانتسابهم إلى اللحظة المعيشة وثيق،ألاحق منشوراتهم أيا كانت حساسياتهم من أجل أن أعلن انتسابي إليهم دون رغبة تذويت مجاني،في عكس «شيزوفرينية» غير طازجة،إذ لا سبيل إلى تشريع السباق بين السلحفاة والأرنب ما دام هذا السباق مستحيلا،وما دامت هذه القضية لا تستدعى لا سباقا ولا ملاسنة ولا تنميما وفي ذلك كله هصر وتوقيف للحركة الإبداعية وتوجيه سيئ لسيرها السير الواضح المثقل بهم الكشف والاكتشاف ،كشف الصعيد الواضح الجلي واكتشاف الفجاج/المتاهات.من ذلك العودة إلى معركة القدماء والمحدثين وفيها ما فيها من الهذر والتمحل،والعودة إلى معركة قصيدة العروض وقصيدة التحرر منه،والعودة إلى البحث الميتافيزيقي حينا والبيزنطي أحيانا أخرى في ماهية الشعر ومهمة الشاعر. - انطبعت تجربتكم الشعرية بنفحة صوفية،ما دوافع اختياركم لهذه التجربة؟ - لعل ذلك راجع إلى أن الذين روجوا لهذه الفكرة اعتمدوا على إنجازي لأطروحتين جامعيتين في موضوع التصوف،أو لعله خيل إليهم أن الخطاب الصوفي قد كان ذا تأثير على تجربتي ككل،أو لأنهم انساقوا مع ذلك المد النقدي الذي شاع الحديث عنه بدءا من السنوات السبعين من هذا القرن،وكان مدا نقديا نسب التأثير الصوفي إلى كثير من الشعراء العرب المعاصرين لم ينج منهم في ذلك حتى محمود درويش نفسه.الحقيقة أن هذا المعطى غير وارد بالنسبة إلي،إذا وقع التمييز بين صوفية دروشية وأخرى «طارتيفية» وثالثة مدجنة تهرع إليها السياسة عند الحاجة إليها.(هذه الأنواع جميعها بعضها شعائري وبعضها وثني بزي موحد)وعليه ،فإنه لا شأن لي بهذه الأنواع إطلاقا .لكن إذا علمنا بأن هناك شعراء عربا وأجانب («أرثر رامبو» و»جوته» و»بوشكين») وجدوا نفوسهم في الحب الشفاف الذي يبلوره الشعر الصوفي الصادق ،فيجب أن نعلم أنهم ما تقربوا إلى هذا النوع من الشعر إلا لأنه دلهم على ارتياد عالم الحدس وأنقذهم تدريجيا من سيطرة الحس العاري،ولم يكن ذلك منهم «تصويفا» مظهريا لشعرهم (أي نقلا حرفيا باللغة الصوفية إشارية ورمزية) بقدر ما كان بحثا عن آفاق جديدة من شأنها أن تفتح الباب المسدود في وجوههم ،باب النموذج الماضوي القار. يهمني من التصوف جانبه المعرفي وليس العرفاني Gnostique.تصوف استقطب اهتمامي بالمجهود الروحي الذي صرفه الإنسان بوضعه أجوبة دقيقة عن أسئلة تخص علاقة الإنسان بالكون وبالمادة،وذلك منذ زمن ما قبل الديانات السماوية الموسوية والمسيحية والمحمدية بحقب بعيدة .وليمة علمية شاسعة الأطراف ضمت إلى جانب «ملحمة جيلغاميش» كلا من «القبالة» وروائع ابن عربي والنفري وجلال الدين الرومي وسعيد النورسي.وليمة شاسعة الأطراف دعت إليها حفريات رائعات قامت بها اللغات القديمة والمعاصرة.»جيلغاميش» الباحث عن نبتة الخلود .»القبالة» التي ابتدعت «السيمياء».ابن عربي الذي انتهى إلى وحدة الأديان.محمد بن عبد الجبار النفري الذي التقط بمواقفه ومخاطباته نقاط ضعف الإنسان وشروط قوته الروحية.»جلال الدين الرومي»الذي رفع الشعر من أرضية لغته إلى سماويتها.»سعيد النورسي»الكاشف عن سر مرونة التصوف المعاصر واندماجه في حميمية مع الحياة المعاصرة. يهمني من التصوف أنه يشفف المحسوس إلى حد جعله محدوسا وفي هذا من الثراء اللغوي ما يفتح آفاقا غير مطروقة تكون بديلا عن المجازات والاستعارات والكنايات المستهلكة.يهمني من التصوف وهو يعزو قصور اللغة ( عن التعبير الباطني) إلى ارتباطها بالحس فيتخطى تقعيداته ويقترح بدلها للتعبير الحاسم عن الحالات المستعصية الرجوع إلى فضاء الحدس الشاسع،(لا شعور «كافكا» وسريالية «بروتون» ودادائية «تريستان تزارا»)وفي هذا دعوة حاسمة إلى جعل الحياة ميدانا لتجريب دائم يستبدل ما فقد صلاحيته بما يسعف في إنتاج الجديد انطلاقا من قوة وفعالية هذا الحدس،وفي هذا دعم للإيمان بأن الحياة المعاصرة مشروع قيد الدرس هدفه إنتاج حياة قادمة وفق أجهزة مستقبلية. - أنتم من أول المجددين في القصيدة المغربية،هل كان ذلك بفعل انجذاب نحو الحداثة،أو كان اختيارا نابعا من الشعور بركود هذه القصيدة ،خصوصا وأن معظم النقاد يعتبرونكم شيخ الحداثيين؟ - كنت وما زلت مؤمنا بضرورة القيام بتجارب متعددة أنتقل بها ومعها من البسيط إلى المركب ومن المركب إلى مركب المركب،وهكذا إلى أن أعثر على طريق واضح أمارس فوقه جميع أنواع السير الشخصي لا راكضا ولا واثبا بالزانة.طريق غير صالح لأن يكون حلبة سباق مجاني تدعو إليه المنافسات التي وراءها جوائز ملغومة.طريق لا يصرفني عنه إلا أن يكون مطروقا بأقدام حافية تحتفظ بنعالها خوف اهترائها بالاستعمال المستمر. - تم الاحتفاء بكم مؤخرا ضمن فعاليات مهرجان فاس المتوسطي للكتاب.ما دلالة هذا الاحتفاء؟ - هي دلالة تعمل على تعضيد العلاقة بين قارئ الكتاب ومنتج الكتاب،علاقة تدل على أن وجود أحدهما رهن بوجود الآخر،إذ لا سبيل إلى انتشار المعرفة بدون وجودهما متوازيين متقابلين متفاعلين.ليس في ذلك من إحراج إلا تعويمه في موسمية موقوتة. - إلى أي حد يمكن للمهرجان أن يعيد الاعتبار إلى الكتاب والقراءة العمومية؟ -المهرجان المقام أخيرا في مدينة فاس هو بمثابة جرس إنذار( تتلاشى رناته الصارخة وهي تصطدم بصخب الأمية/العالمة التي تنخر جسد عالم الحضارة الرقمية وحضارة الصورة) ينبه المواطن رغم محدودية فائدته إلى أن القراءة سبيل إلى امتلاك المعرفة، وامتلاك المعرفة رغم هذا العصر الرقمي لا يتم بغير الرجوع إلى الكتاب.هناك إذن علاقة جدلية يلتقي فيها السبب بمسببه.لكني مع اعتقادي هذا أرى أن العمل على وضع الأسس لازدهار صناعة الكتاب أجدى وأخصب من هذا الإشهار الموسمي.تعتبر صناعة الكتاب كالصناعات الأخرى إنتاجا واستهلاكا وتسويقا وتصديرا واستيرادا،مما يجعلها ضرورة ملحة بها معاش صانع الكتاب ومروجه وطابعه،وبها نماء عقل مستهلكه.لصناعة الكتاب «سوسيولوجيتها»التي تتجلى في نسبتها إلى الخاص وإلى العام من شؤون الحياة.لكن،كيف السبيل إلى جعل هذه «السوسيولوجية فعالة في خدمة القارئ ما دامت شأنا ثانويا غير منظور إلى خطورته من ناحية اجتماعيته واقتصاديته؟ ثم إن هذا الكتاب الذي نجتهد من أجل جعل مقروئيته عملا مشاعا هو مرتبط بالقارئ والقارئ مرتبط باللغة المقروءة واللغة المقروءة إما عربية وإما عامية وإما أمازيغية وإما فرنسية.(كل هذه اللغات مقروءة في المغرب)هذه التجزئة ترغم هذا القارئ على التمرس في «كانتونات».حسب انتماء موروث سابقا أدى إلى نزعة معينة يعبر عنها بالانحياز إلى اللغة الأم بالأصالة أو بالولاء.علينا أن نحدد اللغة التي على الجميع جعلها وسيلته إلى المعرفة القادمة،وهذا ما ليس بأيدينا على الأقل الآن،لأن عوامل داخلية وخارجية تعمل على الاحتفاظ بهذه البلبلة اللغوية،يضاف إلى ذلك أن هذه اللغات المتعامل بها عندنا بعضها مشرع على مستقبل مقاليده بيد الآخر،(المستعمر السابق) وبعضها الثاني يحيل على إثنية ماضوية منها تتنفس الهواء الذي به تعيش ،وبعضها الثالث متأرجح بين تراث أصيل ونزعة فضفاضة تنحو نحو تقدم مشروط يستمد نسغه إما من دينية وإما من علمانية.هناك إذن بلبلة يسأل عن انتشارها بيننا وضعنا القلق في هذا الإطار الذي حمل في السابق اسم العالم الثالث وحاول واضعوه تخفيف عبئه الدلالي بجعله مسمى لمجتمعات في طريق النمو.أعتقد أنه يوم يستطيع هذا العالم الثالث إرساء دعائم صناعة الكتاب ولا يستطيع ذلك إلا حين يمتلك الحسم في مصائره تتوحد القراءة متوجهة نحو الإبداع الثقافي الذي يستطيع أن ينقل تجربته إلى الآخر على أنها إضافة إلى المجهود الإنساني العام.إن صناعة الكتاب على ما هي عليه في بلدنا تلتمس سبلا إن كانت مدرة للكسب المادي فهي لا تتجاوز المجال المحدود الذي تتعيش منه الصناعة التقليدية.