تعاني أوروبا بصمت خوفاً فكرياً، قبل أن يتحول إلى رعب مصيري. أصل هذا الخوف هو الخشية من فقدان رهان المدنية بمعزل عن توأمها التاريخي الذي هو الإمبراطورية. فقد تَقَبَّلَ مثقفو 'الثلاثين عاماً الذهبية' الزائلة، تباشير انفصامٍ عقلاني إرادوي بين المدنية، أو الحضارة، والإمبراطورية، إذ تنافست فلسفات الثلث الأخير من القرن الماضي حول تعميق جذور بنيوية واستراتيجية لهذا الانفصام، مع ثقافة الحداثة القافزة دائماً نحو مراحل تتخطى ذاتها وإنتاجاتها باستمرار. كان التطلع الأوروبي إلى عصر المدنية الإنسانية يريد أن يستبق وقائعها المتصورة، بابتكار أنظمة فكر وسلوك وتقييم، تنعكس مباشرة في أنماط حياة جديدة للأفراد والجماعات معاً، قائمة على تمجيد حقوق الإنسان الحر الكريم عند ذاته، والمرفّه المنعّم في شروط عيشه اليومي. ناضلت فلسفات الثلاثين عاماً الذهبية، من أجل تحرير الحضارة من توأمها العنف، المتمثل في جاهزيات الإمبراطورية التي طبعت تاريخ الغرب الأوروبي منذ انبثاق نهضته الحديثة. تحقق ذلك عندما إنتقلت جاهزيات العنف والقوة واقعياً من القارة العجوز إلى أمريكا، بوصفها: العالم الجديد، المتفوق حتى على جدّته تلك. هكذا جاء مشروع الاتحاد بين كبرى دولها أولاً، متوّجاً لبادرة الانفصام ونجاح العبور من ثنائية الحضارة الإمبراطورية، إلى أحادية المدنية. بمعنى أنها، أي هذه المدنية، تستطيع أخيراً الاستغناء عن آمرية القوة العسكرية، بالتربية الإرادوية لأخلاق الاعتماد المتبادل ما بين الأمم وحضاراتها. أزاحت أوروبا عن كاهلها أعباء الإمبراطورية، وقذفت بها إلى الضفة الثانية من المحيط الأطلسي، ساعية إلى بناء اتحادها كتعويض بقوة اقتصادها وعدالتها الاجتماعية معاً، عن مختلف صيغ التوازن العسكري فيما بين أعضائها، وإزاء قطبيْ الشيوعية والرأسمالية معاً، ما بين شرقها المجاور وغربها الأقصى. وحين تساقط الاتحاد السوفييتي تلقائياً، انتظرت ثقافة المدنية الأوروبية أن تستقيل أمريكا ذاتياً من إمبراطوريتها، عندما لم يعد ثمة نفع لها ما أن اختفى العدو الأكبر المهدد، أي الشيوعية. غير أن الاستراتيجيات الكونية لا تطلق رياحها بحسب ما تشتهي سفن الاستراتيجيات النسبية أو الثقافية لهذه الأمة أو تلك. ذلك أن التغيير الجذري الذي أصاب خارطة القوى العالمية بعد زوال قطبية الثنائية العسكرية، ومشروعها في الإعداد للحرب العالمية الثالثة النووية، كَشَفَ الأستار الإيديولوجية السابقة الحاجبة لخارطة العالم الأصلية. وفي هذا المنعطف الأكبر في التاريخ المعاصر، اعتقدت الإمبراطورية أنها تستطيع أن تستوعب العالم كله كغنائم حرب، انتصرت هي وحدَها فيها، من دون حرب فعلية، ولمجرد انسحاب الخصم اللدود من جبهة الصراع كلياً. فكأن انتصارها (الوهمي)؟ على الخصم الاشتراكي، يمكن ترجمته إلى انتصار على بقية المعمورة. هكذا تم اختراع (العولمة). إنها حيلة الصياد الماهر الذي يرمي بشبكته في مياه البحر ليقبض على أكبر عدد من أنواع أسماكها جميعاً دفعة واحدة. ومع العولمة وُلد الاقتصاد الافتراضي الذي عليه أن يختصر جاهزيات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك كلها، ويختزل مؤسساتها وأسواقها في شبكيات الصيرفة الرقمية والورقية، الخاضعة في قمتها العليا لبورصة وول ستريت، في نيويورك، أكبر مدينة يهودية في العالم كما يسميها الفيلسوف ريجيس دوبريه. فقد خُيْل لحفنة المحافظين الجدد الأمريكيين أن الإمبراطورية أمست هي تحصيل حاصل لواقع العلاقة القبلية بين أكبر قوة عسكرية قائمة، لمرحلة ما بعد الحرب البارد، وبقية العالم. فليس ثمة خطر إذن يتهدد الهيمنة السياسية ورديفها التفوق الاقتصادي. لم يكن أحد يشك في قدرة أمريكا على تجاوز أية أزمات إنتاجية أو مالية، قد تُزعزع يوماً من هذه السيطرة الكونية غير القابلة للاختراق في أية جهة أو جبهة قد تفتحها العسكرتاريا في أنحاء الأرض. ذلك أن الأمم الصاعدة (كالصين) اقتصادياً لن تطالب قريباً بحصص سياسية تعادل أوزانها التجارية المتضاعفة بسرعة مذهلة. حسب الاعتقاد الذي ساد الفكر الاستراتيجي المقود إجمالاً من فئة المحافظين الجدد وأشباههم. وفي الوقت عينه كانت مضاربات البورصة العالمية تقفز بين يوم وآخر من التعامل بمئات الملايين، إلى التعامل بوحدة المليارات. ومن ثم سمع الناس أرقام التريليونات، مع انفجار كارثة إفلاسات البنوك الأمريكية العملاقة، التي تبعتها انهياراتُ الآلاف المؤلفة من الشركات ما بين جناحي الغرب معاً. وها هو الدور يأتي على الدول الغربية نفسها، المهدَّدة بإفلاسات صناديقها السيادية. فالجيوش الإمبراطورية لم تعد تحمي عمالقة العولمة من أعاصير الأرقام الفلكية، الصاعدة الهابطة بفعل عوامل السوق وأسيادها المجهولين المعلومين. لكن المعادين لنظرية تصفية الإمبراطورية ما زالوا يحتجون بالرأي القائل أن التاريخ لا يمكنه التخلي عن قاطرة الإمبراطوريات، فهي القائدة المستديمة لأحداثه الفاصلة وتداعياتها في كل مجال من فعاليات المجتمعات المشكلة لمادته البشرية وانتصاراتها الحضارية. كأنما الأمم الصانعة للإمبراطوريات، لم تكن صناعتها تلك خياراً إرادياً. فالإمبراطورية لا تنشأ بقرار سياسي، كما أنها لا يمكن التخلي عنها بإرادة زعمائها. تلك المؤسسات الكونية الهائلة لا تتلاعب بها أمزجة الأفراد، وإن كانوا من كبار قادتها. فهي التي تتحكم في سلوكهم وتوجهاتهم الى ما هو أبعد بأشواط كثيرة عما يحلو لهم أن يفعلوه في مصائرهم. إذا صحَّت هذه المقدمات الفلسفية قد يصعب التصديق إذن أن رجلاً واحداً أسمه الرئيس أوباما، سيكون مكلّفاً بمهمة التصفية العقلانية للإمبراطورية الأمريكية، كما يتمناه أنصاره. لكن الحالة الراهنة البائسة لدولة الإمبراطورية ولمجتمعها تفرض على أصحاب الفكر النزيه، ومن بين النخبة العالية الواعية، توصيف الانحلال الموضوعي بأسمائه المباشرة، بالحصيلة النهائية لظواهره السلبية. مثل هذا الاعتراف المبدئي راحت تنطق به عقول وأقلام مفكرة متزايدة، كلما تهاوت حزمةٌ، من حلول للأزمة الاقتصادية بعد حزمة أخرى من نوعها تساقطت قبلها. فهي لم تعد أزمة صيرفة، ولا حتى هي من عقابيل الاقتصاد الافتراضي، وليست لها أسباب مادية مباشرة، كالديون الكبيرة الفاشلة، ولا المضاربات الجنونية، ولا الاستثمارات الهائلة الوهمية. ما ينبغي التصريح به بالفم الملآن هو أن الأزمة الاقتصادية ليست أسبابها كامنة في أعطال آليتها، بقدر ما هي تجسيمٌ صارخٌ مالئٌ شوارعَ المدينة وبيوتَها، للعطل الأكبر الذي ينخر بنية المركب الأعظم الحامل لأعباء الإمبراطورية. وقد أصبح مركباً فاقداً لبوصلته، وسط أمواج الكوارث الهائجة من كل صنف ونوع. هذه اللغة غير التجريدية أصبحت تدعمُها يومياً سيولٌ من النكسات والفواجع معاً، تنبئ عن مسيرة إمبراطورية متهالكة، لا تكفي مصائب الأزمة الاقتصادية لتوصيف أحوالها العامة. كأنما لم تعد الإمبراطورية تنتظر من سوف يصفيّها من أعلى قمة القرار السياسي؛ فتستبق الساسة وقراراتهم، تضعهم أمام المزيد من عقابيل الأمر الواقع، من دون قدرة على فهمها أو تداركها. هكذا يتابع صنف المراقبين ما فوق العادة، لاجتماعات القمتين العالميتين، الأخيرة، للدول الصناعية الكبرى والصاعدة معها أو في ركابها، فيرى بعضهم في قراراتها اللامجدية، أنها تشتغل في الوقت الضائع من كل وعي أو إصلاح حقيقي. فالقول مثلاً أن الرأسمالية ما زالت قادرة على معالجة نفسها، وأنها غير محتاجة حتى إلى الأقل من تدخلات الدولة في شؤونها وأسواقها، هذا الادعاء تدحضه هذه المؤتمرات عينها التي تثبت أن تلك الحكومات هي الحامية الفعلية لأنظمتها الرأسمالية؛ حتى وإن وقعت إرادتها التشريعية والتنفيذية معاً في أُسار المؤسسة المالية العليلة إياها القائمة في كل دولة صناعية متقدمة على حدة، لكنها المتشابكة المصالح الفردية على المستوى العالمي. فما تخشاه الشركات الكبرى العابرة للحدود، مع استفحال مآزق الديون السيادية لمعظم دولها، هو تحول شائعات نظرية التصفية الإمبراطورية، إلى ما يشبه الفضيحة القصوى الحاسمة المنذرة بنهاية الرأسمالية العالمية، كنتيجة حتمية لاستقالة أمريكا ذات يوم، من إمبراطوريتها، كما استقالت الروسيا من إمبراطوريتها السوفييتية قبل عقدين ونيف. لكن من يقول أن أمريكا ستبقى هي عينها أمريكا، ما بعد (تحررها) من إمبراطوريتها. قد يكون هذا التساؤل سابقاً لأوانه، فهو مجرد افتراض مستقبلي قائم على افتراض آخر استباقي، يتصور خلاصاً وحيداً لأمريكا المدنية بوسيلة التخلص من أعباء وتكاليف الهيمنة. فحين تفقد أمريكا امتيازها الفريد باعتبارها مصنع العالم، لتصبح الصين هي صاحبة هذا الامتياز وحدها، سوف تخسر الهيمنة قاعدتها المادية. ولن يتبقى لها من تعويض سوى احتكار الريادة الحضارية، التي سبقتها إليها أوروبا بأشواط كثيرة ومتنوعة، ومعترف بها من قبل مختلف النخب الثقافية عالمياً. على كل حال ليست المسألة الأهم راهنياً، هي في المضاربة الفكرية عمن سيحكم العالم ما بعد عصر الإمبراطوريات، ولا في السجال من أجل التصديق أو عدمه على نظرية التصفية في حد ذاتها، بقدر ما هي مستغرقة في سجلّ هذا التصديق أو عدمه على كون التصفية جارية من تلقاء ذاتها، بفعل قوانينها التاريخية، بصرف النظر عن أية خطط استراتيجية موضوعة تحت هذا العنوان، وسواء أرادها أو اعترف بها أسياد الهيمنة أو أنكروها. الفكر النزيه هو القارئ الحيادي لما يخبئه العصر من مفاجآته الكونية الصانعة حقاً لتحولات التاريخ. ولربما سوف تتابع هذه المفاجآت تحت عنوان الانفصام البنيوي المحتوم بين المدنية والإمبراطورية. بمعنى أنه لن تظل الواحدة منهما ملازمةً للأخرى، أو علَّة لها لا بد منها. ذلك هو رهان ثقافي أنطولوجي يتشبث به صنف التنويريين الأخيرين في عصر الكوارث الكبرى الراهن، إذ قد يصير كذلك هو عصر التنوير الحقيقي للإنسانية جمعاء، وليس لعرق أو جنس دون آخر. فهو العصر الآتي بكل الأسباب الموجبة لفرض الاختيار الأقصى بين الشروع الإرادوي، من قبل كافة التنويريين العالميين، بتصفية ثقافة الإمبراطورية، أو الاستسلام لموت المدنية، دون أن يبقى فكرُ ما بعدَها يشير إلى جنتها..