إن الاستثمار الأمثل للتأييد الواسع للرأي العام العالمي لعدالة قضيتنا الوطنية لن يكون إلا من خلال وجود قيادة وطنية تملك استراتيجية ومشروع سلام فلسطيني واقعي وعقلاني ،اللحظة الفلسطينية والدولية الراهنة تحتاج لهجوم سلام فلسطيني وليس للتموقع خلف شعارات حول المقاومة والممانعة،أو إختزال حقوقنا الوطنية بدويلة في غزة.إن لم يكن هذا التحرك الواسع للرأي العام العالمي وللدول المساند للشعب الفلسطيني حراكا من من اجل السلام العادل فلأي هدف يتحرك إذن؟. نعم ...الفلسطينيون اليوم بحاجة لمشروع سلام فلسطيني محل توافق وطني أكثر من أي وقت سابق.قد يصدم هذا القول البعض أو يستنكره وهو يعيش نشوة ما يعتقده نصرا على الأبواب نتيجة تداعيات الجريمة الإسرائيلية ضد سفن قافلة الحرية، وقد يجد البعض تناقضا بين الدعوة للتمسك بالسلام وما تقوم به إسرائيل من جرائم بحق الشعب الفلسطيني ومن يؤيدهم من نشطاء السلام وتتهرب من عملية التسوية الجارية بل وتتهرب مما وقعت من اتفاقات.ولكن نستدرك القول بالإشارة إلى أن مشروع السلام الفلسطيني المنشود غير متجسد اليوم، لا في السلطة وحكومة الدكتور فياض ولا عند حركة فتح الحالية ولا عند أي فصيل أو حزب كما أن المفاوضات ليست هي مشروع السلام المنشود.الفلسطينيون اليوم بحاجة لإعادة بناء المشروع الوطني التحرري الذي هو أيضا مشروع سلام ما دام يتحرك في إطار القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ويعتمد على هذا المد الشعبي المؤيد والمتعاطف مع عدالة قضية شعب يريد الاستقلال في دولة خاصة به دون أن يلغي وجود أية دولة اخرى بل يريد العيش بسلام مع جميع دول المنطقة بما فيها إسرائيل. لا شك أن السياسة هي فن توظيف كل الإمكانيات: المادية والمعنوية،الشعبية والرسمية ،الدولية والمحلية ،الأيديولوجيا والدين والعقل والمؤسسات الخ ،ولكن كل ذلك في إطار قراءة الواقع بطريقة عقلانية بعيدا عن الشعارات والأيديولوجيات الشعبية وترعسات الرأي العام .لا يعني هذا أن على القيادة السياسية تجاهل التحركات والشعارات والأيديولوجيات وكل ما يثير العواطف والانفعالات الشعبية،فهذه أيضا جزء من الفعل السياسي بالمفهوم العام للسياسة ،ولكنها ليست من يحدد ويرسم سياسات الدول وخصوصا في أبعادها الاستراتيجية ،إنها عوامل مساعدة تكمن قيمتها في وجود قيادة سياسية توظفها لخدمة الاستراتيجية السياسية العليا للوطن بحسابات عقلانية وواقعية تأخذ بعين الاعتبار التجارب التاريخية والواقع والامكانيات الحقيقية والفعلية للشعب ومحددات البيئة الإقليمية والدولية. إن القيادة السياسية التي تترك نفسها أسيرة العواطف والانفعالات وتقلبات الرأي العام وتركب موجة الجماهير الشعبية دون رؤية استراتيجية، قد تعيش للحظة نشوة نصر وزهو وقد تجني مكتسبات مادية مؤقتة ولكنها سرعان ما تخسر نفسها وموقعها بل ستؤدي بالشعب وبالقضية الوطنية للهلاك. نقول ذلك ونحن نلاحظ تصاعد تأييد وتعاطف الرأي العام العالمي للشعب الفلسطيني وهو تأييد يشمل كل الشعوب والقارات وكل الاحزاب والفئات الشعبية،تأييد أثر على مواقف وسياسات دول وأحزاب كانت لسنوات طويلة صديقة لإسرائيل أو مغلقة على إسرائيل، أحزاب ودول كانت لسنوات تعتبر إسرائيل واحة حرية وديمقراطية وداعية سلام يُهدد جيرانها أمنها ووجودها ،وفي المقابل تنظر للفلسطينيين والعرب كمتخلفين وغير ديمقراطيين وإرهابيين لا يؤمنون بالسلام ولا يعترفون بحق إسرائيل بالوجود.نقول ذلك ونحن نتابع: دعوات في محاكم أوروبية لمحاكمة قادة إسرائيليين بتهمة إرتكابهم جرائم حرب ،دعوات وقرارات بمقاطعة جامعات إسرائيلية،مظاهرات ومسيرات في المعاقل التقليدية للصهيونية ولإسرائيل في المدن والعواصم الغربية وفي مدن أمريكية،منظمات حقوقية دولية ولجان تحقيق دولية تتشكل تتهم إسرائيل بإرتكاب جرائم حرب،استطلاعات للرأي العام الأوروبي تعتبر أن إسرائيل مصدر تهديد للسلام والاستقرار في العالم ،قادة عسكريون أمريكيون يعتبرون أن تحيز واشنطن لإسرائيل يهدد المصالح القومية الامريكية.نقول ذلك ونحن نشاهد إسرائيل تفقد الهالة الاخلاقية التي كانت تحيط بها ومن خلالها تُسَوق نفسها للعالم كداعية سلام في مواجهة منظمات إرهابية فلسطينية وأنظمة عربية تريد القضاء عليها ورميها للبحر.ولكن ... هذه الحقائق يجب أن تنسينا أن ما يقابلها على الساحة الفلسطينية حالة انقسام سياسي خطير وعدم وجود قيادة وطنية محل توافق وطني وحالة تخبط في المواقف حول تفسير ما يجري وكيفية استثماره وطنيا ،ومحاولة البعض توظيف هذا التحرك الدولي من أجل فلسطين لخدمة مشاريعهم الخاصة التي يريدون تأسيسها على حساب فلسطين وذلك من خلال الإقتصار على دولة في غزة.إن لم نتجاوب مع هذه التحركات لجماعات السلام عبر العالم ومع التحول في مواقف الدول لصالح عدالة قضيتنا بطرح مشروع سلام فلسطين محل توافق وطني فقد نفقد هذه الفرصة التاريخية. اليوم تمر القضية الفلسطينية بل المنطقة بمنعطف مهم وخطير،إما أن يؤدي لاستنهاض الحالة الوطنية الفلسطينية بما يحقق انجازا سياسيا على أرض الواقع، أو يؤدي لإعادة رسم الخريطة السياسية والجغرافية على حساب حقوقنا الوطنية. أهم سمات هذا المنعطف هو التغيير في الرأي العام وفي سياسات الدول والمنظمات القانونية والحقوقية بدءأ بتركيا إلى فنزويلا مرورا بغالبية الدول والأحزاب ،ولكن علينا فهم هذا التغيير بطريقة عقلانية قبل أن يفقد زخمه وقوة تأثيره أو تجر إسرائيل المنطقة نحو حرب تعيد ترتيب الأولويات في المنطقة وفي العالم.على القيادات الفلسطينية أن تقرأ جيدا ما يجري وتجيب على الأسئلة التالية :هل هذا التغير يندرج ضمن استراتيجية أو رؤية جهادية للقوى المتعاطفة مع فلسطين والتي حركت الرأي العام ضد إسرائيل، تسعى من خلالها لتدمير إسرائيل ومسحها من الوجود؟أم هي تحركات لأحزاب ودول ولرأي عام في إطار القانون الدولي والشرعية الدولية تؤيد شعبا ضعيفا خاضعا للاحتلال يتوق للحرية والاستقلال ويتعرض لعدوان متعدد الأشكال من استيطان وسرقة الأرض ومصادر المياه والحواجز وجدار الفصل العنصري في الضفة ،إلى الحصار الذي يتعرض له قطاع غزة ؟.هل هذا التحرك والتأييد دعم وتأييد لعمليات المقاومة والجهاد الذي مارسته حركة حماس وغيرها من الفصائل لتدمير إسرائيل وشطبها من الوجود؟ أم تحركات لنصرة الشعب الفلسطيني على قاعدة حقه في الحرية والاستقلال في دولة مستقلة تعيش بسلام مع جيرانها الإسرائيليين وغيرهم ؟هل هذا التغير والحراك ضد السياسة الإسرائيلية سببه صواريخ المقاومة أم سياسة السلام التي يُصرعليها الرئيس أبو مازن والتي كشفت حقيقة إسرائيل وأنها السبب في تعثر السلام وفي تهديد الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم كما تقول إستطلاعات الرأي الغربية وقادة سياسيون أوروبيون وأمريكيون؟أم هو حراك نتيجة السياستين :المقاومة والسلام ؟. إن قراءة عقلانية للواقع ولفهم خلفيات وأبعاد التحركات الأخيرة لرفع الحصار عن غزة ولنصرة الشعب الفلسطيني ستتوصل لنتيجة أنها تحركات وتغيرات تتم على قاعدة البحث عن سلام وتسوية سلمية تعترف بحق الفلسطينيين بالاستقلال وقيام دولتهم المستقلة وليس على قاعدة التصعيد العسكري والمواجهة المسلحة مع إسرائيل وحلفائها،فلا أحد ممن يشارك في هذه التحركات – بإستثناء بعض جماعات الإسلام السياسي التي لها رؤية مغايرة- يريد أو قادر على الدخول بحرب مع إسرائيل.لو أخذنا تركيا نموجا لهذه الأطراف فلا أحد يظن ان تركيا تدعم العمليات الجهادية لحركة حماس ولم نسمع أن تركيا مولت أو سلحت أو أيدت العمل الجهادي والمقاوم لحماس أو غيرها من الفصائل بل ما زالت تركيا الرسمية تنظر لهذه العمليات باعتبارها عمليات إرهابية،تركيا التي تعترف بإسرائيل والعضو في الحلف الأطلسي لم تدعم مواقف حركة حماس إلا بعد فوز هذه الأخيرة بالانتخابات ووقفها للمقاومة واستعدادها للتحول من حركة جهادية لحزب سلطة،وليس في وارد الحساب عند تركيا أن تدخل حربا ضد إسرائيل من أجل الفلسطينيين ولو كانت تريد ذلك لدخلتها دفاعا عن القدس التي ضاعت وليس دفاعا عن غزة.نفس الأمر بالنسبة للمتضامنين الآخرين ،فلا نعتقد أن جورج جالاوي أو حملة جائزة نوبل للسلام أو أعضاء الكونجرس الامريكي والمسؤولين الأوروبيين أو الأمين العام للأمم المتحدة أوعمرو موسى ... لا نعتقد أن كل هؤلاء يدعمون نهج الجهاد والمقاومة المسلحة لتدمير إسرائيل أو يتحركون خارج إطار السلام والتسوية السياسية للصراع في المنطقة.معنى هذا أن هذا الحراك للرأي العام وللدول المؤيد للفلسطينيين هو دعم لنهج السلام والتسوية السياسية العادلة التي ترفضها إسرائيل وتتهرب من استحقاقاتها،وهو حراك متزامن مع تحولات عند حركة حماس ،فحماس أوقفت المقاومة والتزمت بالتهدئة مع إسرائيل على كامل التراب الفلسطيني حتى جريمة أسطول الحرية لم تستفزها لتخرق التهدئة،والسيد خالد مشعل ومسؤولون آخرون في حماس يبلغون كل يوم رسالة بأن لا مشكلة بين حماس وواشنطن وان حماس تقبل بدولة على حدود 1967 وإنها مستعدة للإعتراف بإسرائيل كأمر واقع، الخ . لا غرو أن هذا الحراك الدولي وخصوصا الموقف التركي إنجاز مهم للقضية الوطنية، أيضا التحول في مواقف حركة حماس ونهج الواقعية الذي بدأ يطفو على خطابها أمر مهم وإن جاء متأخرا ،ولو كانت عندها هذه الواقعية قبل ذلك لكان من الممكن أن تخدم القضية الوطنية بشكل أكبر وما حدث هذا الخراب والدمار في النظام السياسي الفلسطيني،ولكننا نأمل أن توظف حركة حماس هذه الواقعية المتأخرة وهذا الحراك للرأي العام العالمي لخدمة المشروع الوطني الفلسطيني كمشروع تحرر وطني وكمشروع سلام ،وليس لتأسيس دولة في قطاع غزة يتم دفع ثمن قيامها مسبقا من حقوقنا الوطنية في الضفة والقدس وحق عودة اللاجئين و ستشكل في المستقبل عبئا على القضية الوطنية. وسط التقاذف والتراشق في الاتهامات بين حركتي فتح وحماس و التباعد العملياتي والأيديولوجي الظاهر بين ما يجري في الضفة وما يجري في غزة ،فإن حركة حماس تقترب في مواقفها من مفردات خطاب السلام الفلسطيني الذي قال به الراحل ياسر عرفات. عندما نقول خطاب سلام فلسطيني فلا نعني السلطة القائمة ولا ما يجري من تنسيق أمني مع إسرائيل ولا المفاوضات المتعثرة ،وحتى الإتفاقات الموقعة بين المنظمة وإسرائيل ليست مشروع السلام الذي نرمي إليه ،مشروع السلام الفلسطيني هو مشروع التوافق الوطني ،مشروع الاستقلال الوطني الذي يتم الاتفاق عليه وطنيا من حيث الهدف وأدوات تحقيقه وشبكة علاقاته وتحالفاته، ومتصالح مع القانون الدولي والشرعية الدولية.إن من يدقق في الحالة السياسية الفلسطينية سيلمس غياب أي مشروع سياسي فلسطيني ،فلا يوجد مشروع سياسي للمقاومة بل لا توجد مقاومة أصلا ،ولا يوجد مشروع سلام فلسطين. الشعب الفلسطيني يمر اليوم بمنعطف خطير سيحدد مستقبل القضية الوطنية لعقود طويلة،فوسط الجدل حول رفع الحصار عن غزة تُحاك مخططات إسرائيلية ودولية لإعادة رسم الخريطة الجغرافية والسياسية لفلسطين والمنطقة بحيث يصبح رفع الحصار جزءا من تسوية سياسية تقوم على فصل غزة عن الضفة وستكون ذريعة تل أبيب وواشنطن في ذلك عدم وجود شريك فلسطيني للسلام يمثل كل الشعب في الضفة وغزة،ووجود قطاع غزة خارج سلطة الرئيس أبو مازن وبالتالي ليس هو الطرف الذي يفاوض حولها بل حركة حماس ومن خلال قنوات أخرى للتفاوض ،وحيث أن هذه التسوية النهائية تحتاج لإنضاج الظروف الإقليمية والدولية لتمريرها فقد تمر بمرحلة إدارة الأزمة مؤقتا من خلال مفاوضات فلسطينية إسرائيلية غير مباشرة على مسارين :بين إسرائيل و منظمة التحرير من جانب وبين إسرائيل وحركة حماس من جانب آخر،وعلى المسارين عبر الوسيط الأمريكي أو الأوروبي،الامر الذي يضع واشنطن في موقف قوة حيث ستحدد درجة تقربها من كل طرف بمقدار ما يثبت حسن نية تجاهها وبمقدار ما يقدم من تنازلات تضمن أمن إسرائيل ومصالح واشنطن في المنطقة .الرد على هذا المخطط لن يكون إلا من خلال هجوم سلام فلسطيني بمشروع سلام يؤكد على خيار السلام العادل ويربط ما بين المصالحة الوطنية ورؤية مشتركة للتسوية والسلام،مشروع سلام يوظف هذا الزخم في تحرك الرأي العام قبل أن يتلاشى .ما يقلق إسرائيل اليوم ليس صواريخ مقاومة ولا عمليات استشهادية بل تمسك الفلسطينيين بالسلام وتزايد التأييد الدولي لخطاب السلام الفلسطيني الذي يحمله الرئيس أبو مازن في كل دولة يحل بها خلال جولات التي لا تتوقف حتى تبدأ مجددا،إسرائيل تخشى من هجوم سلام فلسطيني محل توافق وطني تكون حماس بقوة حضورها الداخلي وشبكة علاقاتها وتحالفاتها الخارجية جزءا منه و يحظى بتأييد دولي، أكثر من خشيتها من صواريخ تنطلق من غزة . 18/06/2010