كيفية تثبيت تطبيق الهاتف المحمول MelBet: سهولة التثبيت والعديد من الخيارات    والي بنك المغرب يعلن الانتهاء من إعداد مشروع قانون "العملات الرقمية"    "هيئة تحرير الشام" تخطط للمستقبل    8 قتلى في حادثتين بالحوز ومراكش    27 قتيلا و2502 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    فينيسيوس أفضل لاعب في العالم وأنشيلوتي أحسن مدرب    قطاع الطيران... انطلاق أشغال بناء المصنع الجديد لتريلبورغ    بنك المغرب يخفض سعر فائدته الرئيسي إلى 2,5 في المائة    جوائز "الأفضل" للفيفا.. البرازيلي فينيسيوس يتوج بلقب عام 2024    تشييع رسمي لجثمان شهيد الواجب بمسقط رأسه في أبي الجعد    المغرب والسعودية يوقعان بالرياض مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في مجالات التحول الرقمي الحكومي    القنيطرة.. افتتاح معرض لإشاعة ثقافة التهادي بمنتوجات الصناعة التقليدية    الرباط.. انعقاد اجتماع لجنة تتبع مصيدة الأخطبوط    إحصاء 2024: الدارجة تستعمل أكثر من الريفية في الناظور    صحيفة 'لوفيغارو': المغرب يتموقع كوجهة رئيسية للسياحة العالمية    العام الثقافي 'قطر-المغرب 2024': الأميرة للا حسناء وسعادة الشيخة سارة تترأسان بالدوحة عرضا لفن التبوريدة        رسمياً.. المغرب يصوت لأول مرة بالأمم المتحدة على وقف تنفيذ عقوبة الإعدام    المغرب "شريك أساسي وموثوق" للاتحاد الأوروبي (مفوضة أوروبية)    مجلس الشيوخ الشيلي يدعم مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية (سيناتور شيلي)    كلمة الأستاذ إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، خلال اجتماع اللجنة الإفريقية للأممية الاشتراكية    فيفا ينظم بيع تذاكر كأس العالم للأندية‬    بنعلي: رفع القدرة التخزينية للمواد البترولية ب 1,8 مليون متر مكعب في أفق 2030    ردود فعل غاضبة من نشطاء الحركة الأمازيغية تُشكك في نتائج بنموسى حول نسبة الناطقين بالأمازيغية    84% من المغاربة يتوفرون على هاتف شخصي و70 % يستعملون الأنترنيت في الحواضر حسب الإحصاء العام    لماذا لا تريد موريتانيا تصفية نزاع الصحراء المفتعل؟    الأميرة للا حسناء تترأس عرض التبوريدة    دفاع الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال يؤكد أن وضعه الصحي في خطر    النظام الأساسي لموظفي إدارة السجون على طاولة مجلس الحكومة    تحقيق قضائي لتحديد دوافع انتحار ضابط شرطة في الدار البيضاء    ارتفاع معدل البطالة بالمغرب إلى 21% مع تسجيل ضعف في نسبة مشاركة النساء بسوق الشغل    مراكش.. توقيع اتفاقية لإحداث مكتب للاتحاد الدولي لكرة القدم في إفريقيا بالمغرب    كنزي كسّاب من عالم الجمال إلى عالم التمثيل    حاتم عمور يطلب من جمهوره عدم التصويت له في "عراق أواردز"        ضابط شرطة يضع حدّاً لحياته داخل منزله بالبيضاء..والأمن يفتح تحقيقاً    ألمانيا تتجه لانتخابات مبكرة بعد سحب الثقة من شولتس    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    السينما الإسبانية تُودّع أيقونتها ماريسا باريديس عن 78 عامًا    سرطان المرارة .. مرض نادر يُشخّص في المراحل المتقدمة    كيوسك الثلاثاء | حملة توظيف جديدة للعاملات المغربيات بقطاع الفواكه الحمراء بإسبانيا    زلزال عنيف يضرب أرخبيل فانواتو بالمحيط الهادي    شوارع المغرب في 2024.. لا صوت يعلو الدعم لغزة    الصين تعارض زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية على المنتجات الصينية    ماكرون سيعلن الحداد الوطني بعد إعصار شيدو المدمر في أرخبيل مايوت    السفير الدهر: الجزائر تعيش أزمة هوية .. وغياب سردية وطنية يحفز اللصوصية    أفضل لاعب بإفريقيا يحزن المغاربة    لماذا لا يستطيع التابع أن يتحرر؟    عن العُرس الرّيفي والتطريّة والفارس المغوار    علماء يكتشفون فصيلة "خارقة" من البشر لا يحتاجون للنوم لساعات طويلة    بريطاني أدمن "المراهنات الرياضية" بسبب تناول دواء    دراسة: الاكتئاب مرتبط بأمراض القلب عند النساء    باحثون يابانيون يختبرون عقارا رائدا يجعل الأسنان تنمو من جديد    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



" عبد الصبور " .. في الطابور
نشر في السند يوم 19 - 05 - 2010

قرر الأستاذ "عبد الصبور" أن يرشح نفسه لانتخابات مجلس الشورى .. وقال لنفسه: "ولماذا لا أترشح وقد خدمت بلدي ما يقرب من ثلاثين سنة متواصلة، وسمعتي مثل الجنيه الذهب، وأهل الدائرة كلهم يحبونني .. هذا بالإضافة إلى أني أريد الإصلاح وخدمة وطني، وليس لي مأرب آخر".
ومنذ ذلك اليوم تحولت حياته إلى جحيم لا يطاق ... فزوجته اتهمته بالجنون، وقالت في حسرة وهي تدق بشدة على صدرها: " ترشح نفسك يعني إيه .. هي فوضى ولا فوضى ..
يا
عبد الصبور يا حبيبي أنت عارف إن المجالس دي لا يدخلها إلا المحاسيب .. اعقل يا عبد الصبور ومتجبش لنفسك ولينا البهدلة " ... وليت الأمر توقف عند زوجته التي لا تفهم في السياسة إلا النذر اليسير، ولكنه كلما تحدث في هذا الموضوع مع أحد من أصدقائه نظر إليه بإشفاق، وضرب كفاً بكف، ومصمص شفتيه حسرة على عقل "الرجل الرزين" الذي أكلته القطة.
غير أن كل هذا لم ينل عن عزمه ... قولوا لي أنتم بالله عليكم، هل يصدق هؤلاء المخابيل، أم يصدق كلام "الرئيس" الذي أكد أكثر من مرة أن وطننا بلد المؤسسات، وأن الانتخابات القادمة ستكون نزيهة وشفافة، بل ودعا الجميع إلى المشاركة في خدمة وطنه ترشحاً وانتخاباً ... إنه كلما قال ذلك ضحك منه الجميع، وقالوا: "نحن لسنا بلداً ديمقراطياً .. الانتخابات عندنا يتم تزويرها منذ سبعين عاماً .. وذيل الكلب لا ينعدل ولو علقت فيه قالب" .. غير أن ل "عبد الصبور" رأي آخر.
إنه يرى الدنيا كلها من حوله تتغير، فلماذا لا يصدق أحد أن التغيير سينال بلادي؟ .. لقد رأي انتخابات نزيهة في بلاد أفريقية مجهولة، وحتى في بعض البلاد العربية المجاورة لوطنه .. ورأى "أوباما" العبد الأسود الذي كان أجداده لا يستطيعون الاقتراب من شوارع البيض ومحلاتهم خوفاً من القتل، رآه وقد اختاره البيض ليجلس على مقعد البيت الأبيض ... لقد رأى كيف انتقم الشعب في يوغسلافيا وغيرها من حكامه الظلمة، ورأي شعب قرقيزيا وهو يثور على طاغيته ويخلعه من مكانه خلعاً .. رأى كل ذلك فزاده إصراراً على موقفه .. سيذهب غدا ليقدم أوراق ترشيحه.
منذ الصباح الباكر جهز "عبد الصبور" أوراق ترشيحه، وانطلق نحو (قسم الشرطة) ليقدم أوراقه للجنة المشرفة على الانتخابات .. في الحقيقة هو لا يدري لماذا يتم تقديم أوراق الترشيح لمجلس تشريعي في (قسم الشرطة) التابع للسلطة التنفيذية؟ .. قال في نفسه: "سيكون أول مشروع قانون أقدمه لمجلس الشورى هو إنشاء هيئة مستقلة تحت إشراف قضائي للإشراف على الانتخابات لضمان نزاهتها".
قبل السابعة كان أمام اللجنة، وما أن اقترب من الباب حتى استوقفه شاويش متجهم الوجه، وقال بقرف: " نعم !!؟ " ... ولما أخبره "عبد الصبور" بما جاء من أجله نظر إليه من فوق لتحت وقال بتعجب: " أنت ترشح نفسك ؟! " .. قال "عبد الصبور" بحزم: " ومالي ؟ .. أنا راجل وطني شريف أريد خدمة بلدي كما قال الرئيس " .. التفت الشاويش للضابط الجالس عن قرب، فغمزه الأخير بعينه، فتناول الشاويش ورقة صغيرة وأعطاها ل "عبد الصبور" بإهمال وقال: "ادخل وانتظر دورك" .. امتلأ "عبد الصبور" فخراً وخطا بخطوات واثقة إلى داخل اللجنة.
ألجمته المفاجأة .. ففغر فاه، واتسعت عيناه، ولم ينطق ببنت شفة .. هل ما يراه أمام عينه حقيقة أم خيال؟ .. طابور طويل ينتظر أمام اللجنة ليقدم أوراق ترشيحه، أكثر من أربعين شخصاً في الساعة الأولى لفتح باب الترشيح ... نظر في الورقة التي أخذها فإذا دوره ثلاثة وأربعين .. إنه لم يتوقع هذا .. لم يتوقعه أبداً .. لكن .. سرعان ما تمالك نفسه، وعلت وجهه ابتسامة وهو يتمتم في نفسه: "طالما قلت ذلك .. إن شعب بلدي وطني بطبعه .. وها هو ذا يهب للمشاركة في الانتخابات النزيهة كما دعاه الرئيس .. لقد كنت على حق دائماً".
ثلاث ساعات مضت و"عبد الصبور" واقف في آخر الطابور، ولم يتقدم خطوة واحدة .. وطوال هذه الساعات كان "عبد الصبور" يتأمل في الواقفين في الطابور، لا يدري لماذا لا يشعر أن هؤلاء سيترشحون لمجلس الشورى، أشكالهم لا تدل على ذلك .. في الحقيقة لديه شعور أنهم مخبرون أو مجندون بسطاء أو "سوابق" .. ثم إنهم لا يبدو عليهم جميعاً أنهم متعلمون فضلاً عن أن يكونوا مثقفين يريدون خدمة وطنهم .. لكن من قال أن خدمة الأوطان هي حِجر على المثقفين؟ .. ثم أمر آخر، لا أحد منهم يحمل في يده أوراق ترشيح !! .. شيء عجيب.
لم يتململ أحد من طول الوقوف رغم مضي خمس ساعات كاملة، غير أن "عبد الصبور" بدأ يصاب بالضجر، تلفت من حوله فلم ير أحداً غير الشاويش على الباب، والضابط يجلس على طاولة مجاورة .. عدَّل من هندامه، وتقدم في حذر وقال للضابط:" لو سمحت يا باشا .. هذا الطابور لم يتحرك منذ الصباح" .. لم يجبه .. ولكنه أومأ إلى الشاويش الذي صاح مزمجراً: " لا تدوشنا يا سيد .. قف في دورك أو خذ بعضك ومع السلامة " .. انسحب "عبد الصبور" في هدوء وعاد إلى آخر الطابور.
كان "عبد الصبور" طوال الوقت يردد في نفسه: "إن خدمة الأوطان ليست نزهة، بل مهمة مقدسة تحتاج للكثير من التضحية والجهد، وهذا كله ليس كثيراً على وطني" .. ثم يستطرد في أفكاره مبرراً الانتظار الطويل فيقول لنفسه: " وأكبر دليل على الوطنية هو هذا العمل الدقيق للجنة الانتخابات، لابد أنهم طوال هذا الوقت يدققون في كل صغيرة وكبيرة لكل مرشح يتقدم، وهو أمر ضروري حتى لا يندس نفعي وسط الوطنيين الشرفاء" ... بعدها يغوص "عبد الصبور" في أحلامه لخدمة وطنه، وما سيفعله إن نجح في الانتخابات، بل وما سيفعله إن لم يوفق أيضاً .. فخدمة الوطن لا تتوقف على مجلس أو منصب، بل هي واجب على الجميع.
" خلاص يا اخوانا ... اليوم خلص واللجنة مشيت .. روَّحوا النهارده وتعالوا بكره بدري " ... أفاقت صيحة الشاويش بهذه الكلمات "عبد الصبور" من كهف أحلامه، وإذا به يرى الجميع يتفرقون في هدوء دون أن يعترض أحد أو حتى يعلِّق، لكنه لم يطق صبراً .. توجه في غضب حذر إلى الشاوش وقال: " كيف ينتهي اليوم دون أن تستلم اللجنة أوراق ترشيح أحد ؟! .. إن الطابور لم يتحرك خطوة واحدة منذ الصباح .. هل عندك تفسير لهذا ؟ " .. لم يجبه الشاويش، والحقيقة أنه بدا عليه أنه لم يفهمه أصلاً .. أزاحه من طريقه .. وأغلق باب اللجنة.
لم يتناول طعام الغداء، ولا حتى العشاء، كان مهموماً غارقاً في تفكيره، إنه يحاول فهم ما حدث، هل هذا طبيعي أم حدث خطأ ما ؟ .. وما الذي يمكنه فعله ليتمكن من تقديم أوراق ترشيحه؟ .. وإذا كان هذا هو الحال في بداية المشوار فكيف سيستطيع إكمال المسيرة ؟ .. مصمصت زوجته شفتيها، وتمتمت في أسى: " حسرة عليك يا عبد الصبور يا خويا .. والله ما أنا عارفه إيه حصل لك؟ .. الظاهر عين وصابتك ما تصلي على النبي" .. نظر إليها "عبد الصبور" في غضب .. ثم فتح التلفاز ليشاهد نشرة الأخبار.
"تعالي يا وليه اتفرجي ... تعالي شوفي .. علشان تعرفي إني دائماً على حق" .. هرعت إليه زوجته لتنظر ما الخبر .. وبدأ يشرح لها ما حدث في "لندن" .. منذ ثلاث عشرة سنة لم يفز حزب المحافظين في الانتخابات، واحتكر حزب العمال السلطة .. واليوم .. تغير الحال وانقلبت الموازين، فاز حزب المحافظين ولكن دون أغلبية مطلقة، واعترف رئيس الوزراء "براون" بالهزيمة ، وقال إنه لا يتمسك بمنصبه، وإن واجبه فقط أن يتأكد من تكوين حكومة قوية ومستقرة، وما أن اتفق "ديفيد كاميرون" زعيم حزب المحافظين و "ديك كليج" زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار على تكوين الحكومة، حتى قدم "براون" استقالته للملكة، فقبلتها وعينت "كاميرون" رئيساً للوزراء.
قالت زوجته: "طيب واحنا مالنا .. دا في لندن مش عندنا" ... كانت كلماتها هذه كافية ليبدأ "عبد الصبور" درساً طويلاً في السياسة، شرح لها أن السلطة تنتقل في البلاد الديمقراطية بسلاسة وهدوء، وأن بلدنا يسير نحو الديمقراطية الحقيقية كما قال الرئيس، وقال إن هذا يثبت صحة ما كان يردده دائماً من ضرورة حدوث التغيير يوماً ما ... ثم ختم كلامه فقال في حزم وحماسة: "سأذهب غداً مبكراً لتقديم أوراق ترشيحي .. سأخدم وطني مهما كلفني الأمر".
هذه المرة وصل قبل الشاويش والضابط، بل حتى قبل أن تفتح اللجنة أبوابها، ووقف ينتظر ويمني نفسه هذه المرة أنه سكون أول من يقدم أوراق ترشيحه للجنة، وسيحصل طبعاً على رمز "الجمل" الذي طالما احتكره مرشحوا الحزب الحاكم .. بعد مدة جاء الشاويش ونظر إلى "عبد الصبور" نظرة اشمئزاز ثم أخذ موقعه على الباب .. تقدم نحوه "عبد الصبور" بحذر وطلب منه الرقم في ثقة، تثاقل الشاويش قليلاً ثم دس يده في جيبه وأخرج له نفس الورقة التي أعطاها له بالأمس (رقم ثلاثة وأربعين).
هذه المرة ثار "عبد الصبور" .. وصرخ في وجه الشاويش معترضاً أن يكون أول الواصلين ويأخذ آخر الأرقام، لكن الشاويش أخرج له في بلادة كشفاً طويلاً به أسماء من سبقوه بالتسجيل .. سأله "عبد الصبور" متعجباً كيف يسبقونه بالتسجيل ولم يحضر منهم أحد .. تثاءب الشاويش وقال في كسل: "سيأتي الجميع الآن" ... وبالفعل .. ووسط دهشة "عبد الصبور" بدأ الجميع يتوافد واحداً تلو الآخر، نفس الوجوه التي رآها بالأمس، وكل يأخذ مكانه في الطابور، حتى أن الرجل الذي كان يقف في أول الطابور بالأمس تأخر في الوصول، ولما وصل أخذ موقعه على قمة الطابور الطويل دون أن يعترض أحد !!
أقول لكم الحقيقة .. لم يعرف "عبد الصبور" ماذا يمكن أن يفعل، فقد كان أمام خيارين، إما أن يأخذ موقعه في آخر الطابور، أو يرحل .. وبالطبع اختار الاختيار الأول .. غير أن اليأس لم يتملكه أبداً .. فهو اسم على مسمى، صابر وصبَّار وصبور حتى النهاية، ثم إنه متمرس على الطوابير منذ نعومة أظافره، فطابور للخبز وآخر للجمعية وثالث في أي مصلحة حكومية، وآخر طابور تمرس عليه هو طابور الغاز اللعين .. وحين تذكر "عبد الصبور" طابور الغاز انقبض قلبه واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، لقد كان قطعة من جهنم، سالت فيه الدماء من أجل أنبوب يحوي بعضاً من غاز بلادي الذي يعطىَ للعدو بلا ثمن !!.
أفاق "عبد الصبور" من أفكاره على صياح عالٍ، هذه المرة بين الضابط واثنين من المواطنين عرف "عبد الصبور" بعد ذلك أنهما مرشح ومحاميه، وفهم من خلال النقاش الصاخب أنهما يعترضان على الطابور، ويصران على مقابلة " رئيس اللجنة " .. قال "عبد الصبور" لنفسه: " آه .. رئيس اللجنة .. لماذا لم تخطر هذه الفكرة في بالي مبكراً؟ " ... ترك مكانه في الطابور ووقف يرقب ما ستؤول إليه نتيجة النقاش ... لم يسمح الضابط لهما بمقابلة رئيس اللجنة، فانصرفا غاضبين قائلين أنهما سيقابلان مأمور القسم .. وتبعهما "عبد الصبور" في هدوء.
لم يقابلهما مأمور القسم، بل ادعى سكرتيره أنه غير موجود .. ووقف الرجلان يتشاوران، ثم قررا أن يذهبا إلى اللجنة المركزية للانتخابات التي يرأسها قاض كبير .. استحسن "عبد الصبور" الفكرة فتبعهما حيث سارا ... لم يكن الحظ في اللجنة المركزية أوفر من قسم الشرطة، لم يستطع أحد مقابلة رئيس اللجنة ولا حتى أي عضو من أعضائها، وجلُّ ما استطاع الرجلان فعله هو تقديم تظلم باسم المرشح والانصراف في غضب مهددين باللجوء للمحكمة الإدارية العليا إن لم يقبل التظلم .. وتبعهما "عبد الصبور" .. فقدم تظلماً باسمه، وتمتم في نفسه: "ستكون خطوتي التالية هي المحكمة".
لم يعد للبيت .. بل رجع إلى مكانه في آخر الطابور .. كان يمني نفسه أنه قد ينهي الأمر اليوم إذا ما قررت اللجنة تحريك الطابور .. لكنه فور أن أخذ موقعه أدهشته مفاجأة أخرى، فقد تبدل بعض الأفراد في الطابور، وحلَّ محل الرجل الذي كان يقف أمامه فتىً صغير السن، لم يتجاوز السابعة عشر، وحين دقق فيه "عبد الصبور" عرفه .. إنه "الواد بليه" صبي الميكانيكي في شارعه .. وتزاحمت الأسئلة في رأسه حتى كاد أن ينفجر .. ولم يتمالك نفسه وهو يصيح: " واد يا بليه .. الله يخرب بيتك .. إيه جابك هنا يا وله ؟!" ... انتفض "بليه" كأن عقرباً قد لدغته، وأطبق على فم "عبد الصبور" يحاول إسكاته، وتركزت أنظار الجميع عليهما، فأخذه "بليه" من يده إلى خارج اللجنة ليحاول إفهامه.
حين عاد عبد الصبور إلى داخل اللجنة كان قد فهم كل شيء .. فكل هؤلاء "الزبائن" في الطابور مأجورون، يعطي الضابط لهم في آخر اليوم بعض المال مقابل الوقوف هكذا طوال اليوم .. إنها حيلة لمنع المواطنين الشرفاء من تقديم أوراقهم للترشيح، وبهذا يفوز مرشح الحزب الحاكم بالتزكية وينتهي الأمر .. هذه المرة توجه "عبد الصبور" إلى الضابط وقال في سخرية: " يا باشا .. ألم تجدوا إلا الواد بليه ليشارك في هذه التمثيلية ؟!" .. لم يجبه الضابط، نظر إليه بازدراء، ثم رمق "بلية" بتعجب، ثم قام من مكانه بهدوء، وصفع الشاويش على قفاه صفعة مدوية، وصاح في وجهه: " يا ابن ال .... ، جايب لي عيل توقفه هنا .. أنا مش قلت تجيب ناس ينفعوا".
هذه المرة رجع بيته متفائلاً مفتخراً بما أنجزه .. إنه على ثقة أن اللجنة العليا للانتخابات ستقبل تظلمه وتتسلم أوراقه، فرئيسها قاض كبير يحرس العدل والمساواة ومبادئ الثورة، وهو المأمون على تنفيذ تعليمات الرئيس بضمان نزاهة الانتخابات .. لا شك عنده أن الرئيس لا يعلم بمثل هذه الحيل القذرة التي اكتشفها اليوم .. تناول طعامه وقضى يومه كالمعتاد .. ثم خلد للنوم.
أفاق الجميع مذعورين على صوت دق عنيف على الباب .. نهض "عبد الصبور" مفزوعاً ليستطلع الأمر، نظر في الساعة فإذا هي الثانية والنصف بعد منصف الليل، ولما اقترب من الباب لم يمهلوه حتى يفتحه، بل كسره مخبر ضخم في عنف، ثم اندفع الجميع إلى الداخل شاهرين أسلحتهم، ورئيسهم يصيح فيهم آمراً بتفتيش المكان ... تمالك "عبد الصبور" نفسه وحاول التحكم في أعصابه وتقدم بخوف من الضابط وسأل في خوف ظاهر: " هو فيه إيه يا باشا ؟!" .. قال الضابط: " انت عبد الصبور ؟" .. قال: "أيوه" .. قال الضابط: "تعالى معانا .. عايزينك شويه".
كان المخبر يجرجر "عبد الصبور" على السلم، بينما تجمع الجيران يرقبون المشهد في خوف، وأطفاله يبكون في حرقة، بينما زوجته تلطم على خدودها وتصيح: "ياما قلت لك يا عبد الصبور إحنا مش قدّ الحكومة .. روحت في شربة ميه يا عبد الصبور .. وضيعتنا معاك".
لم يعرف من هم ولا أين أخذوه، ولم يشعر بالمدة التي قضاها معهم، لكنه كان يتذكر كل كلمة قالها أو قيلت له ... سألوه لماذا يريد الترشح ؟ ومن الذي يحرضه ويموله ؟ .. ألحوا بسؤاله هل هو من "الإخوان المسلمون" ؟ .. ولما أجاب بالنفي قالوا له: "لماذا إذا كنت تتبع مرشح الإخوان ومحاميه في كل مكان؟" ... استخدموا بعض "العنف" في محاولة لانتزاع اعتراف من، لكنهم حين وجدوه صادقاً كفوا عنه .. أبقوه عدة ساعات معصوب العينين في مكان شديد الحرارة والرطوبة .. ثم فجأة تبدل الحال تماماً .. أخذوه لغرفة مكيفة، فكوا العصابة عن عينه، وتحدث معه ضابط كبير برقة معتذراً عما حدث له، مؤكداً أنهم يعرفون أنه مواطن صالح يريد مصلحة البلد، وواعداً أن يعمل كل ما في وسعه لتمكينه من تقديم أوراق ترشيحه .. ثم ألقوه في الشارع ليكتشف أنهم قد "صادروا" ساعة يده ومحفظة نقوده.
اعتكف في بيته عدة أيام .. يفكر ويتأمل .. كان وحيداً .. فقد هجرته زوجته وأخذت أولادها إلى بيت أهلها في القرية، وتفرق عنه أصدقاؤه فلم يتصل به أحد، وتنكب له جيرانه خوفاً من أن تصيبهم "اللعنة" .. لكنه كان سعيداً بوحدته، فقد كان في حاجة إليها .. فكر كثيراً .. تُرى .. هل يعلم الرئيس بكل هذا ؟ .. إن كان يعلم فكيف يتعهد بانتخابات نزيهة ويدعوا الجميع للمشاركة ثم يوافق على كل هذا ؟ .. وإن كان لا يعلم فكيف يغفل عن أمور ضخمة مثل هذه تحدث في بلده الذي يحبه، وضحى في سبيله بثلاثين سنة من عمره يخدمه من قصر الرئاسة ؟ .. لم يهتدِ إلى جواب .. لكنه تلقى خطاباً من اللجنة العليا للانتخابات يخبره أن تظلمه قد قُبل.
سارت الأحداث بعد ذلك متسارعة ... كان "عبد الصبور" هو رابع أربعة مرشحين في دائرته، على رأس القائمة – بالطبع – مرشحة الحزب الحاكم (رمز الجمل)، ثم يأتي بعدها مرشح منشق عن الحزب اعتراضاً على عدم ترشيحه، أما المرشح الثالث فهو مرشح "الإخوان المسلمون" الذي يبدو أيضاً أن تظلمه قد قُبل .. ثم حدثت مفاجأة كبيرة في الدائرة، فقد استبعدت اللجنة العليا مرشحة الحزب الحاكم بعد أن أثبت خصومها أنها "سوابق"، وأن عليها أحكاماً بالحبس خمس سنوات !!.
زاره مسئول كبير في الحزب الحاكم في منزله، وفهم منه "عبد الصبور" أن الخصومة قد استبدت بين الحزب والمرشح المنشق عليه، وأنه يخشى إن استمر الأمر كذلك أن يفوز بالمقعد مرشح "الإخوان المسلمون" فتكون كارثة للوطن، ووعده بأن يدعمه الحزب في الانتخابات فهو رجل وطني يريد الخير لبلده ... لم يتحمس "عبد الصبور" كثيراً للفكرة، ولكنه لم يعترض عليها .. وانتهى اللقاء بود ووعود معسولة من الجانبين.
لم يقم "عبد الصبور" بحملة دعاية كبيرة، إذ أن ذلك يتطلب الكثير من المال الذي لا يملكه، لكنه بذل ما في وسعه ليتعرف الناس على برنامجه الوطني .. لم يجد تجاوباً كبيراً ممن التقاهم مع برنامجه كذلك التجاوب الذي كان يراه مع برنامج مرشح "الإخوان المسلمون" ... والحقيقة أنه لا يستطيع أن يخفي إعجابه بحملة "الإخوان" الانتخابية وبرنامجهم المفصَّل هذه المرة .. هو لا يحب "الإخوان" ويصدق معظم ما تكتبه صحف الحكومة عنهم، لاسيما أن الرئيس بنفسه قد كرر هذا الكلام .. لكن على الرغم من كل ذلك، شاء "عبد الصبور" أم أبى، فإنه من الواضح أن مرشحهم هو الفائز ما لم تحدث مفاجأة.
وحدثت المفاجأة ... لكن هذه المرة في اتجاه آخر .. فبعد يوم انتخابات دامٍ راقبه "عبد الصبور" عن قرب، ورأى ما حدث فيه من عنف وصراع بين منافسيه والحكومة، وكان هو – بلا شك- الطرف الأضعف والأقل حضوراً، عاد "عبد الصبور" منهكاً وهو على يقين أنه لن يفوز، ولكن لا بأس، فالفوز هو آخر ما كان يفكر فيه، لقد قام بكل ما في وسعه لخدمة وطنه، وهذا يكفيه ... وأياً كان الفائز فسوف يتعاون معه لمصلحة الوطن .. حتى وإن كان مرشح "الإخوان" الذي يعتقد "عبد الصبور" شبه جازم أنه الفائز.
في الصباح الباكر استيقظ "عبد الصبور" على جلبة مدوية في الشارع، وحين نظر من النافذة تملكه العجب ... زفة كبيرة ترفع لافتات عليها اسمه، ويتقدمها مسئولي الحزب الحاكم في محافظته .. توقفت الزفة أمام بيته، وصعد إليه مسئول الحزب الحاكم يزف إليه خبر فوزه في الانتخابات، وحين أبدى "عبد الصبور" دهشته قال له المسئول: " يا عبد الصبور بيه .. أنت رجل محبوب في الدائرة .. وقد فوضك المواطنون لخدمة الوطن .. ونحن جميعاً سنكون عوناً لك" .. ثم أخرج من حقيبته استمارة انضمام للحزب وطلب من "عبد الصبور" ملأها والتوقيع عليها.
كانت الدهشة تعقد لسان "عبد الصبور" مما يحدث، لكنه جمَّع شتات ذهنه، واستحضر لباقته كلها، وقال: " أنا آسف يا باشا .. لكنني لا أريد الانضمام لأي حزب " ... عند هذه النقطة تبدلت اللغة، وتغيرت الوجوه، وحلَّ الغضب والتهديد والوعيد مكان الفرح والسرور والتهاني .. ثم قال المسئول الكبير في حزم: " نعم يا خويا .. مش عايز إيه ؟ .. بعد كل ما عملناه لك ... أنت فاكر نفسك إيه ؟ .. دا لولا مجهوداتنا كنت حتاخد صوتك أنت بس .. بعد ما زورنا الانتخابات ونجحناك هتعملي فيها وطني وشريف .. وقع يا خويا على الطلب وإلا ورحمة أمي ...." .. لم يكمل المسئول كلامه .. لكن "عبد الصبور" وقع على الطلب.
لم يعانق النوم جفنيه لأسبوع كامل .. ولم يتوقف عقله عن التفكير .. ولم يكف ضميره عن تأنيبه ولومه .. وتمنى أن كل ذلك لم يحدث ... ثم في اليوم الأول لافتتاح جلسات مجلس الشورى تقدم "عبد الصبور" بأول ورقة له كعضو .. وكانت تحمل استقالته .. ثم عاد لبيته .. ونام.
مايو 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.