في كل مرة يتم فيها تخليد اليوم العالمي لحرية الصحافة، تثار قضية المؤشرات التي تستعملها المنظمات الوطنية والدولية في صياغة تقاريرها، والتي يكون لها أثر واضح على خلاصاتها واستنتاجاتها حول درجة ممارسة هده الحرية في مختلف الدول، وفي تصنيفاتها لها في الترتيب العالمي. ومن المؤكد أن المنهجية التي تعتمد من طرف كل منظمة، لها خلفياتها الفكرية والسياسية، ومن هنا تأتي كذلك الأحكام التي تطلقها على كل بلد. وأعتبر أن المسألة الهامة في هذا الشأن هي التعريف الذي ينبغي أن نصف به حرية الصحافة، فهل هي مجرد ممارسة لحرية التعبير بواسطة النشر ووسائل أخرى مرئية ومسموعة، أم هي أهم من ذلك وتتعلق بالحق في الإعلام، الذي يرتبط بتصريف أهم مبدأ في الديمقراطية وهو الشفافية. إن مقاربة موضوع حرية الصحافة من مدخل الحق في الإعلام، تترتب عنه عدة نتائج، من أهمها أن على الدولة أن تعترف بالحق في الوصول إلى المعلومات التي تهم سير الشأن العام، لأنه لا يمكن تصور أي نظام ديمقراطي يتم فيه التكتم على المعطيات والأخبار التي تساعد المواطن على الاطلاع على سير أحوال بلده في كل المجالات. ومن هذه المسلمة الأساسية في النظام الديمقراطي تأتي أيضا مسألة الدور الذي ينبغي أن تلعبه وسائل الإعلام، سواء كانت عمومية أو خاصة. فهي في جميع الأحوال جزء من الملكية العامة، رغم كل التفاوت الذي تفرضه خصوصيات تمويلها. إن دور وسائل الإعلام في النظام الديمقراطي حاسم ولذلك لا ينبغي تركها لقانون السوق وحده، وهذا هو ما يبرر تمويل الدولة لوسائل الإعلام العمومية من محطات إذاعية وقنوات تلفزية ووكالات، لأنها ضرورة في إقامة التوازن الضروري بين المكونات السياسية والثقافية في كل مجتمع، وفي الدفاع عن القيم الوطنية والثقافة والفن والتراث والتاريخ المشترك، بالإضافة إلى أن عليها عرض منتوج تتوفر فيه الجودة اللازمة، عن طريق تقديم عمل متطور يعتمد صحافة البحث والتقصي وأخبارا وتحقيقات وتحاليل، تتسم بالنزاهة والدقة والموضوعية، يتم إعدادها من طرف صحافيين يتمتعون بشروط عمل ملائمة وكفاءة لازمة. إن توفير هذه الشروط أمر ضروري لكي تمارس حرية الصحافة من مدخل الحق في الإعلام، لأنه يضع هذا المبدأ في إطاره الصحيح، كحق من حقوق المواطنة، والذي على كل الأطراف المتدخلة في هذا القطاع أن تحترمه. على الدولة أن تعتبر القطاع الذي تتحكم فيه من إذاعات وقنوات ووكالات، مرفقا عاما بكل مقوماته، وأن تضع له كل المقتضيات الضرورية من قوانين ديمقراطية وتسيير شفاف وعقلاني وموارد بشرية مدربة ومتمتعة بحقوقها، لتضمن إنتاج مضمون ذي جودة عالية، وتقدم للمواطن أخبارا ذات مصداقية حول أهم ما يحدث في المحيط القريب والوطني والدولي. على هذه الأدوات الإعلامية أن تعكس نبض المجتمع وتوفر له فضاء للتعبير عن مشاكله وقضاياه وتنظم النقاش والحوار الديمقراطي داخله، وتساهم في تقدم ممارسة حرية التعبير والشفافية، كحق أساسي من حقوق المواطنة. إنها ملكية عامة، ومن هذا المنطلق لا يمكن لأي طرف أن يستولي عليها ويتحكم فيها ويحتكرها. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لوسائل الإعلام العمومية، فإن القطاع الخاص سواء كان مملوكا لخواص أو لأحزاب سياسية، مطالب باسم قيم حرية الصحافة أن يحترم مبدأ الحق في الإعلام لأنه يمارس نشاطا في فضاء مملوك للشعب، هو الذي يعرض عليه هذا المنتوج سواء كان مرئيا أو مسموعا أو مكتوبا. وعليه أن يحترم الحدود الدنيا من مبادئ المرفق العام، في توفير مضمون جيد وموضوعي، بعيد عن الإثارة الرخيصة والكلام الساقط والإشاعة الكاذبة أو التضخيم المغرض للمعطيات والأخبار، خارج سياقها الحقيقي. إن توفير كل هذه الشروط الضرورية لممارسة حرية الصحافة، بهدف خدمة الشفافية والجودة والحوار الديمقراطي داخل المجتمع، يتطلب جملة من الوسائل أهمها احترام حقوق الصحافيين الجماعية، والسماح لهم بأن تكون لهم كلمتهم في ما ينتج ، وذلك عبر الاعتراف بتنظيماتهم النقابية وبأحقيتهم في السهر، داخل المؤسسة، على احترام مقومات العمل المهني وأخلاقياته. هكذا تكون ممارسة حرية الصحافة جزءا من النظام الديمقراطي وليس مجرد شعار للتجارة الإعلامية بهدف الربح فقط، دون احترام حق المواطن في إعلام جيد ونزيه وموضوعي.