لا تزال دار الفتوى نموذجاً لتعامل السلطات الرسمية مع قضية يفترض أنها جليّة في الفساد واستغلال السلطلة وصرف النفوذ. فكل ما يمكن استخلاصه، هو أن التعامل مع ملف دار الفتوى ينتظر خطوة واحدة من رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة. حين يتصل رؤساء الحكومة السابقون، والمعنيون مباشرة بإنهاء الملف وإيجاد حل نهائي لوضع دار الفتوى، بالرئيس السنيورة، يجدون دائماً لديه حجة جاهزة للتسويف. فمرة، هو يدرس الملف، وثانية ثمة نقص تقني في ملفات المحاسبة، وثالثة ثمة أمر لا تزال شركتا التدقيق بانتظار استكماله، إلى آخر ما هناك. أما طلب موعد اجتماع مع دولته، من دولة الرؤساء السابقين، فمتعثر لأسباب قاهرة. فالرئيس السنيورة سيحدد الموعد فور استطاعته، وربما الأسبوع المقبل، إذا لم يكن أحد الرؤساء السابقين للحكومة مسافراً، فضلاً عن أن الرئيس الحالي للحكومة لا يكاد يغطّ على مدرج المطار، حتى يعود فيقلع إلى وجهة جديدة من بلاد الله الواسعة. طبعاً، ثمة قرار متخذ من رئيس الحكومة بتصفية مفاعيل حكم السنيورة في الفترة الماضية، ومن أدوات سلطة السنيورة، المفتي شخصياً ونجله، اللذان لم يوفرا وسعاً في المساهمة بالتعبئة في مرحلة كان المطلوب فيها رصّ صفوف الطوائف مقابل بعضها، ولم يكن الفساد فيها، ولا هو الآن، بصيغة غريبة عن أركان النظام والحكم. أما بعد انتهاء هذه المرحلة، وظهور ملفات تدين المفتي ونجله مباشرة وصراحة، فلم يكن أمام رئيس حكومتنا إلا التخلي وتصفية الوجود المعنوي، لا للسنيورة وحده، بل للمفتي أيضاً، كي لا يحمل وزر ماضيه، ولا يدافع عن قضايا خاسرة. في مقابل الكلام الذي يشاع ويعلن عن الأمر، وبعضه ما تتناقله الصحف، فإن المفتي يسارع أحياناً، قبل صدور التوجيه من اللجنة الثلاثية المكلفة توجيه عمل المفتي وأقواله، إلى إصدار نفي استباقاً لما قد يطلب منه، وقد بات يجلس وينتظر أن يفي ابنه بتعهده، ويخرج من جعبته، بعد صدور التقرير المالي الموعود، ما يثبت براءة الابن والأب من مال الدار والأوقاف والمواطنين. لم يترك أحد في الجمهورية كما ترك مفتيها. جرى التخلي عنه، ووُجّه الاتهام إلى أحد المسؤولين عن أمنه، وفُرّط بصدقيته، بعدما استُخدم موقعه إلى حد الاستهلاك. حتى المجرمون المدانون يحتفظ بهم رئيس حكومتنا الشاب على رأس حلفائه، ويحرص على عدم إزعاجهم، وعلى التحرك كلما استدعى الأمر ذلك لدعمهم، ولو تطلب ذلك أن يبقى هو الوحيد الذي يحتفظ بتمثيل رسمي في مناسبة سحب رئيسي الجمهورية ومجلس النواب تمثيلهما فيها، وأصر رئيس الحكومة على إبقائه، ولو أُجّلت زيارته لسوريا إلى أجل غير مسمى كرمى لعيون مجرم مدان باغتيال رئيس حكومة، بينما دار الفتوى وكرامتها لا تتطلب الحركة السريعة لحسم الوضع وإيجاد صيغة مقبولة على المستوى الوظيفي والمعنوي لهذه الدار ومن تمثله. وفيما يفضّل السنيورة تمييع الموضوع وإبقاء الأمور على ما هي عليه إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، يتذرع العديد ممن تراجعهم في أمور الدار بأنه ليس هناك أسماء مرشحة إلا الشيخ عبد اللطيف دريان، أو الشيخ أمين الكردي، وبأن لكل منهما من يعارضه بين رؤساء الحكومات السابقين. ويضيفون أنه لا أحد في بيروت مؤهل ليكون في موقع الإفتاء، الذي يتطلب سناً معينة (لا ينطبق على الكردي الذي يقول من يزكيه إنه يمكن تسليمه موقع قائم مقام إلى أن يستكمل السن القانونية)، إضافة إلى رصيد من أعوام العمل في القضاء وبعض المؤسسات الرئيسية في الإفتاء. لكن، في الواقع إن من يجول بين أسماء الذين تعرضوا لحملات تهميش وتهشيم في العقد الماضي من جانب مرجعيتهم نفسها، يجد بينهم من يحمل من العلم والخلق والمواصفات ما يؤهله ليكون مفتياً وعلّامة بحق، وإن بيروت فيها من العلماء الشبان والمبعَدين عن العمل أو المحاصرين في مواقع بعيدة عن المؤسسات ما يدهش بعض رؤساء الحكومة الذين لا يرغبون ربما إلا في أن يسمعوا جميل الكلام وسهله، متغاضين عن دور العلماء بالنصح والإرشاد وإعمال الفكر والإفتاء. وفي انتظار أن يقرر الرئيس السنيورة عقد اللقاء المنتظر لرؤساء الحكومة السابقين وسعد الحريري، وتقديم الدراسة المالية عن الهدر والتلزيمات التي جرت في دار الفتوى خلافاً للقانون وخلال عهديه، فإن الله قد ابتلى بعض عباده بمن يهرب من الفتوى إلى البلاي ستايشن لتزجية الوقت، وآخر يلعب الورق بين إصدار حكم وإبرام آخر.