صادق المجلس الحكومي الأخير يوم الثلاثاء 6يناير 2004 على مشروع قانون يتعلق بإلغاء محكمة العدل الخاصة، ونصت المادة الأولى من مشروع القانون الثاني على أن محاكم الاستئناف بالرباط والدار البيضاء وفاس ومكناس ومراكش ستختص بالنظر في الجنايات والقضايا التي كانت تحال على محكمة العدل الخاصة، من قبيل ما يتعلق بالجرائم المالية والاختلاس والارتشاء واستغلال النفوذ. فكيف جاء مشروع الإلغاء المذكور؟ وأية حصيلة خلفتها محكمة العدل الخاصة؟ وإلى أي حد ستستطيع المحاكم العادية القيام بالمهمة الجديدة؟ محكمة بظروف السبعينات أنشأت محكمة العدل الخاصة سنة1965 لمحاكمة موظفي الدولة المتورطين في قضايا الفساد واختلاس المال العام، في ظروف خاصة، تم خضعت في سنة 1972 لمراجعة في سياق الإصلاح القضائي يومئد، حيث حددت المقتضيات الخاصة بها و تركيبتها واختصاصاتها ومكانها، ومنذ ذلك الحين نظرت محكمة العدل الخاصة في أكثر من 1785 قضية، قدرت مبالغ الاختلاسات فيها بأكثر من 348 مليار درهم، وتعد قضية القرض العقاري والسياحي وقضية المطاحن، و قضية البنك الشعبي وقضية الضمان الاجتماعي التي أحيلت عليها مؤخرا من أبرز وأشهر قضايا الاختلاس والنهب التي مرت بين يدي محكمة العدل الخاصة ورغم الانتقادات التي رافقتها منذ اليوم الأول، فقد استمرت 38 سنة، لم يكل فيها الحقوقيون والقانونيون من المناداة بإلغائها باسطين تعليلاتهم النظرية والواقعية العملية محكمة العدل الخاصة محكمة فاشلة يجزم كثيرمن رجال القانون على أن محكمة العدل الخاصة بغض النظر عن الانتقادات الموجهة إليها فشلت في القيام بماأنشات من أجله، وانه لم يكن لها أي تأثير إيجابي في مواجهة داء الفساد الإداري والمالي و الرشوة التي باتت كالسرطان في المجتمع ففي الوقت الذي كان يراد منها أن تبت في ذلك وفي قضايا استغلال النفوذ وقضايا الغدر وتعمل على التقليل منه، لاحظ العام والخاص أن الجرائم المذكورة التي تدخل محاربتها ومواجهتها ضمن اختصاص محكمة العدل الخاصة تتصاعد نسبتها وترتفع وتيرتها بشكل مفزع، وأكثر من ذلك تسربت ومست جل الأجهزة الإدارية و القضائية، في القطاع العام والخاص، وفي كل المجالات، بحيث تصاعدت وثيرة استغلال النفوذ والغدر ونهب المال العام من قبيل ما حصل في صندوق القرض العقاري والسياحي والقرض الفلاحي و صندوق الضمان الاجتماعي، الأمر الذي حكم عليها عمليا بالفشل والصورية، وبات وجودها وجودا شكليا، يسيء للبلد اكثرمن أي شيء آخر. وأكد الحقوقيون والقانونيون في مناسبات عديدة أن طبيعة محكمة العدل الخاصة الاستثنائية لاتسمح لها بالفاعلية ولا بإمكانية محاربة الفساد على اختلاف أشكاله لغياب ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة، كما لاتتيح لها القيام بالدور الذي يجب أن يضطلع القضاء به في مجال ردع الرشوة ومعاقبة مرتكبيها، فضلا عن مناقضتها للدستور الذي يقر بمساواة كل المواطنين أمام القانون والقضاء وبالتالي ضمان حقوق المتهمين سواء في فترة التحقيق أو المحاكمة أو في النقض وما إلى ذلك، هذا بالإضافة إلى أن محكمة العدل الخاصة ترتبط بشكل مباشر بالسلطة التنفيذية، وذلك لكون الملفات والمتابعات يتم تحريكها بقرار من وزير العدل وليس من الوكيل العام للملك، بمعنى أن الحكومة هي التي تتحكم في هذا الجهاز القضائي و تسخره حسب اختياراتها السياسية، مما يتنافى مع مبدأ فصل السلط، ولأجل ذلك كله تكررت المطالبات بإلغاء المحكمة المذكورة، ضمن مطلب عام يتعلق بإصلاح القضاء وضمان استقلاليته ونزاهته واستقامته، إصلاح يفترض كما يقول النقيب عبد الرحيم الجامعي القيام بعدد من الإجراءات المهمة، من بينها: إلغاء القضاء الاستثنائي بكافة أصنافه، واعتبار القضاء على المستوى الدستوري كسلطة ثالثة وليس مجرد جهاز، ثم اتخاذ الإجراءات الضرورية لضمان الاستقلالية الفعلية للقضاء واتخاذ إجراءات لمحاربة الفساد على مستوى الجسم القضائي نفسه، مع العمل على ضمان كفاءة القضاة حتى يتمكنوا من مواجهة كافة أصناف الجرائم، ومن ضمنها الجرائم الاقتصادية. وبعد أزيد من 38 سنة من عمر محكمة العدل الخاصة التي لم تفارقها كما سلف انتقادات لاذعة وصريحة من طرف الحقوقيين والقانونيين والإعلاميين والسياسيين شكلت رأيا عاما رافضا لهذه المحكمة، بعد كل ذلك اقتنع المسؤولون بعدم صلاحية أو جدوائيةهذه الأخيرة من جهة، وبكونها مناقضة للدستور ولمبدأ المساواة أمام القانون ومبدأ فصل السلط، وللتوجه الدولي في إلغاء المحكم الاستثنائية، وأنها لم تعد تشرف النظام القضائي المغربي بعدما دخلت البلاد في مسلسل مستمر من أجل بناء دولة الحق والقانون والحرص على احترام حقوق الإنسان، واتخذ في ذلك جلالة الملك قرارات كبيرة وجريئة. ورغم أن وزير العدل تكلم منذ مدة عن إمكانية إلغاء محكمة العدل فإن كثيرا من المتتبعين للموضوع قالوا بأن قرار إلغاء محكمة استثنائية ذات طبيعة سياسية كانت إحالة الملفات عليها بمثابة اختيار سياسي للحكومة كما يقول النقيب الجامعي هي التي تختار أي ملف تحيله وأي ملف تنام نوما عميقا فوقه دون تحريك ساكن. يبقى قرارا سياسيا أكبر من الحكومة، ولذلك ذهب النقيب الجامعي في حواره مع التجديد إلى أن مصادقة المجلس الحكومي الأخير على مشروع قانون(وضع يوم24/7/2003 لدى الأمانة العامة للحكومة) يتعلق بإلغاء محكمة العدل الخاصة جاء بعدما اتخذ القرار على مستوى عال، وأن الحكومة لم تقم إلابتهيئ مشروع الإلغاء بعدما توصلت بتعليمات في الموضوع. وينتظر الحقوقيون وأعضاء بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان أن يطال الإلغاء قضاء الجماعات لعدم إمكانية النقض فيه. والمحكمة العسكرية لكونها تقوم على السلبيات نفسها، مهما اختلفت مجالاتها وصفاتها من حيث عدم احترام حقوق وضمانات المتقاضين، وسريان مسطرة للتقاضي خارجة عن القواعد العامة التي تضمن استقلالية القضاء ،ولكون المحكمة العسكرية لايضطرإليها إلا في فترات الحرب لمحاكمة الخائنين والهاربين من جبهة الدفاع عن حوزة البلد، وأما ماعدا ذلك فالأصل أن يحال المواطن، بغض النظر عن مهنته ومكانته الاجتماعية على المحاكم العادية . البديل قبل أن يصادق المجلس الحكومي على مشروع قانون يقضي بإلغاء محكمة العدل الخاصة طرح سؤال حول الهيئة القضائية البديل التي ستقوم مقام الهيئة الملغاة، في هذا السياق اقترح الأستاذ عمر عز يمان وزير العدل السابق ورئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في حوار صحفي احتمالين إما خلق محكمة جنائية متخصصة في الجرائم المالية، سواء بالمعنى الواسع، أو بالمعنى الحالي للمخالفات المطروحة على المحكمة الخاصة، على أساس أن توجد جميع الضمانات المتوفرة بالمحاكم العادية، بما يعنى من إلغاء الاستثناءات لكونها أصبحت تتناقض مع اختيارات المغرب الاستراتيجية في مجال حقوق الإنسان واحترام حقوق الدفاع والمحاكمة العادلة، سواء على مستوى تحريك المتابعة، أو بالنسبة لهيئة الحكم أو الاستئناف أو الطعن، واحترام حقوق الدفاع ومبدأ أصل البراءة. أو وضع هيئة متخصصة لديها اختصاص جغرافي على الصعيد الوطني، كأن تعرض الجرائم المتعلقة بالفساد المالي والإداري علياستئنافية الرباط في إطار غرف الجنايات، أي توفير فريق متخصص من قضاة النيابة العامة والتحقيق والحكم للنظر في ملفات الجرائم المالية وبهذه الوسيلة نضمن التخصص وإحالة الملفات على محكمة عادية محاطة بالضمانات العادية. إلا أن الخطاب الملكي في 29يناير2003 سبق وأن أعطى توجيهات تدعو القائمين على أمر القضاء إلى الحرص على الجمع بين ضرورة انضباط القضاء المغربي لشروط ولمعايير المحاكمة العادلة واحترام حقوق الدفاع وقاعدة البراءة هي الأصل، وبين الحاجة إلى جهاز قضائي يحارب الفساد والرشوة باحترافية، ومهنية وكفاءة عالية نظرا لصعوبة قضايا الفساد المالي والإداري وتعقدها. وهو ما راعاه مشروع قرار إلغاء محكمة العدل الخاصة عندما أسند اختصاصات المحكمة الملغاة لخمس محاكم استئنافية (مصنفة)، لكن القرار الذي لن يصير نهائيا إلابعد 30 يوما من نشره في الجريدة الرسمية. يطرح تحديات جسام على المحاكم الخمسة المعنية وعلى القضاة ويطرح أسئلة حول تكوينهم وخبرتهم ومدى قدرتهم للتعامل مع ملفات الفساد الإداري والمالي المتشابكة والصعبة، خاصة وأنها من المنتظر أن تبت في ملفات كبيرة من قبيل ملف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي لازال في طور التحقيق. ورغم أن البعض قال بأن المحاكم العادية سيكون لها اختصاص وهو متوفر في ميدان الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ، وانه يمكن لها النظر في هذه الملفات تبعا للضمانات المتوفرة بقانون المسطرة الجنائية، فإن العارفين والمتابعين للمجال عن قرب قالوا بأن توفير بديل ناجع لمحكمة العدل الخاصة يطرح تحديات حقيقة على القضاء لتنوع الملفات في قضايا الفساد الإداري والمالي وتشابكها والتباسها أحيانا، الأمر الذي يتطلب من القاضي أن يكون ملما بالقانون وبالجانب الحقوقي وعلى جانب كبير من الاضطلاع على عالم الاقتصاد المال والتسيير والإدارة، وهو ما لا يتوفر بالشكل المطلوب في المحاكم المعنية، فضلا عن كون أغلب المحاور المذكورة لا تدرس لطلبة القانون ولا للقضاة في المعهد القضائي. وكل ما سبق يفرض على وزارة العدل أن تصيغ برنامج تكويني تأهيلي استعجالي للقضاة الذين سيختصون في الملفات المشار إليها. خاتمة... لقد فرض سير المغرب في اتجاه بناء دولة الحق والقانون، وتمتين المسلسل الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان والانسجام مع الدستور من حيث ضمان مساواة الجميع أمام القانون إلغاء محكمة العدل الخاصة، القرار الذي سيمكن المغرب من استرجاع عدد من الفارين من المحاكمات لا انتفاء مبرر بعض الدول التي تأويهم (التي كانت ترفض تسليمهم للمثول أمام محكمة استثنائية). إن إلغاء محكمة العدل الخاصة بقدرمالايعني التساهل مع المفسدين والمرتشين ومستغلي النفوذ، فإنه يلزم الحكومة اتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاكمة كل المتورطين في الجرائم الاقتصادية وتعميق النظر في أفق الوصول إلى قضاء جد متخصص في جرائم الرشوة واختلاس المال العام وفي كل قضايا الفساد المالي والإداري وتفعيل مبدأ عدم الإفلات من العقاب. على اعتبار أن ذلك سينعكس إيجابيا وبكل تأكيد على تقدم البلاد وتخليص العلاقات الإدارية ومجال التسيير والتدبير مما علق به من أمراض وسلبيات، فضلا على أن احترام القانون والتشبع بثقافة المسؤولية سيقوي الاقتصاد الوطني وسيعيد الاحترام والثقة في المؤسسات. محمد عيادي